الإسلام الثقافي: هوية، تعدّد ومثاقفة
سعيد البوسكلاوي
تقديمنحاول في هذه المقالة مساءلة
مفهوم الإسلام في صورته الثقافية كمدخل نراه ضرورياً لمقاربة موضوعات
التعدّد والهوية في الإسلام. يطرح هذا الموضوع أسئلة كثيرة، منها ما يحمل
على مفهوم الإسلام ذاته في اقتران مع مفهوم الثقافة؛ ومنها ما يحمل على
الهوية الإسلامية، أي حول ما يجعل من المسلم ما هو ومن الجماعة الإسلامية
ما هي، وبالتالي، ما يجعل من الإسلام ما هو؛ ومنها ما يتطرّق للأشكال
التاريخية للإسلام وتجلّياته المتنوّعة وعناصره المكوّنة، وصوره المتعدّدة
نصّا وواقعا، معتقدا وسلوكا، دينا ودولة إلخ؛ ومنها ما يتناول طبيعة
العلاقات التي تربط هذه المكوّنات الثقافية داخل المجال الإسلامي، حيث يفرض
السؤال نفسه عن الكيفية التي يدبّر بها التعدّد في المجال الإسلامي. ليس
همّنا قطعا البحث فيما قد يشكّل أصولاً ثقافيةً أو تاريخيةً للإسلام ولا في
فلسفته التيولُجية، وإنّما سننطلق من الإسلام كواقعة دينية وسياسية
واجتماعية واقتصادية، قامت في بيئة ثقافية معيّنة هي بيئة شبه الجزيرة
العربية وحياً منزّلاً على النبي محمد وسلوكاً تاريخياً لدى الجماعة
المؤمنة التي هاجرت مع النبيّ إلى المدينة حيث أُسّست دولة المدينة، ووُقّع
عهد الصحيفة بين الأنصار والمهاجرين، مؤسّسا بذلك لآصرة جديدة غير آصرة
الدم، إذ صار الطرفان يكوّنان جماعة واحدة تشدّ أوصالها رابطة الإيمان(1).
ولم تنته المغامرة قطّ ولا كشف الإسلام عن وجهه مكتملا، بل ما فتئ يتشكّل
ويتوسّع، آية بعد آية، حديثا بعد حديث (جُمعت في وقت لاحق)، وحدثا بعد حدث،
ودولة بعد دولة؛ ومعه تُوطّد عقائد وتوضع قواعد للسلوك وتُكرَّس طقوس
محدّدة، تُضبط وتنتشر أكثر فأكثر؛ تتشكّل أحزاب وفرق وجماعات متنافسة
متجادلة، حينا، حول بعض أصول الدين وفروعه، ومتصارعة متحاربة، حينا آخر،
حول السلطة السياسية.. كما ليس قصدنا تناول موقف الإسلام من التعدّد
الثقافي وما تقترحه النصوص الدينية الإسلامية لسياسة هذا التعدّد وحسن
تدبيره، بقدر ما نسعى إلى الوقوف على مفهوم الإسلام منظوراً إليه كمجال
ثقافي بدرجة أولى اعتمادا على نظر تاريخي نقدي يستفيد من مناهج ودراسات
حديثة في هذا المجال. صحيح أنّ الإسلام هو أوّلاً دين، لكن الدين هو ثقافة
أيضا(2)؛ مع ضرورة التنبيه، منذ البداية، إلى أنّ الإسلام ليس، بأيّ حال،
شكلاً ثقافياً ثانوياً، كما قد ينظر إليه البعض، بقدر ما هو عنصر محدِّد
للمجال الإسلامي(3). ولعلّ الثقافة بوصفها إنتاج الروح هي أهمّ سمة تميّز
الكائن الإنساني عن غيره، ولكلّ جماعة إنسانية ثقافة تميّزها عن غيرها من
الجماعات تبعا لاختلاف مجالها الطبيعي الحيوي وتاريخها ورموزها ومخيالها
الجمعي. لكن يجب عدم المبالغة في تأكيد التميّز الثقافي للجماعات ولا في
إذابة الخصوصيات في ثقافة بشرية ذات هوية مثالية واحدة، إذ تنبثق من كلّ
ثقافة خاصّة عناصر كونية، ويأخذ البعد الكوني للإنسان بما هو إنسان، لدى
كلّ جماعة بشرية، أشكالاً ثقافية خاصّة(4). لذا، يجب الاحتياط من تبنّي أيّ
نظر ثقافوي يرجع في تفسير كلّ ظاهرة وحدث إلى عامل وحيد هو العامل
الثقافي.
هكذا، سنشرع بتحديد ما نقصده
بالإسلام الثقافي؛ ثمّ نتساءل، في محطّة ثانية، عمّا يجعل من المسلم مسلما
ومن الثقافة ثقافة إسلامية في بيئات مختلفة، راصدين بعض عناصر الهوية
الإسلامية في بعدها العامّ؛ كما سنعمل، في مرحلة ثالثة، على إبراز بعض وجوه
التعدّد في الإسلام، في النصّ والواقع كما في التصوّر والممارسة؛ لننتهي
بالسؤال حول أشكال المثاقفة الموجودة أو الممكنة بين الجماعات الثقافية
المختلفة في الإسلام.
I. في المفهوم يلفّ غموض كبير معنى
الإسلام(5) وما يتفرّع عنه من مفاهيم من قبيل المسلم والجماعة الإسلامية
والدولة الإسلامية والعالم الإسلامي وغيرها، ولعلّ
محمد أركون على حقّ حين أرجع هذا الالتباس إلى «تأخّر محزن في مجال علم
الإسلاميات»(6) اليوم. نشأ الإسلام دينا فصار دولة وعقيدة وفقها وفلسفة،
صار اجتماعا واقتصادا وتاريخا، وفي الجملة صار ثقافة. غير أنّ مفهوم
الثقافة ليس أقلّ التباسا من مفهوم الإسلام؛ لذا يجب الحرص على النظر إلى
الثقافة في مفهومها العامّ، لكن أيضا في تعيّنها لدى الجماعات الإنسانية،
في الواقع التاريخي، بوصفها أشكالاً تاريخيةً متعدّدة بالضرورة. ولا يعدو
هذان التصوّران أن يكونا وجهين مترابطين ومتكاملين لذات المفهوم الواحد.
فتعريف تايلور المشهور للثقافة بأنّها «مجموع مركّب يتضمّن المعارف، الفنّ،
الأخلاق، القانون، العادات، وكلّ استعداد أو ممارسة اكتسبهما الإنسان داخل
المجتمع»(7) تعريف لم يفقد قيمته العلمية، فهو يحمل أساسا على الوجه
الأوّل من المفهوم؛ غير أنّ الثقافة لا تتمظهر في التاريخ إلا بوصفها
ثقافات متعدّدة تبعا لتعدّد الجماعات البشرية، والكشف عن تمايزاتها منوط
بالبحث الأنتربولُجي. وهذا الوجه الثاني للمفهوم هو الذي أبرزه ليفي ستراوس
حين عرّف الثقافة بقوله: «نسمّي ثقافة كلّ مجموعة إثنوغرافية، تمثّل، من
وجهة نظر البحث، تمايزات دالّة مقارنة مع غيرها من المجموعات»(8). ويبدو
أنّ هذا المفهوم بوجهيه ينطبق على الإسلام.
يعني الإسلام في معناه اللغوي
التسليم الكامل لله ولرسوله؛ وهو بالضبط، في نظر الشهرستاني، معنى التديّن،
فالمتديّن يعني الشخص المطيع المنقاد والمستفيد من غيره؛ في مقابل الشخص
المستبدّ برأيه المبتدع المنقاد لأهوائه(9). غير أنّ الأمر ليس بهذه
الإطلاقية، والتقابل ليس حادّا بين هذين الصنفين من الناس إلى درجة الفصل
التامّ بينهما، إذ «ربّما يكون المستفيد من غيره مقلّدا قد وجد مذهباً
اتّفاقياً بأن كان أبواه أو معلّمه على اعتقاد باطل فيتقلّده منه دون أن
يتفكّر في حقّه وباطله، وصواب القول فيه وخطئه؛ فحينئذ لا يكون مستفيداً،
لأنّه ما حصل على فائدة وعلم، ولا اتّبع الأستاذ على بصيرة ويقين [...]
وربّما يكون المستبدّ برأيه مستنبطا ممّا استفاده على شرط أن يعلم موضع
الاستنباط وكيفيته، فحينئذ لا يكون مستبدّا حقيقة، لأنّه حصّل العلم بقوّة
تلك الفائدة..»(10). والإسلام، في الاصطلاح العامّ، هو ديانة كتابية، بل هي
إحدى أكبر الديانات المنتشرة في العالم. وهو، في التصوّر العامّ لدى أهله،
وحي ودين سماوي جاء به النبيّ محمد، وهو آخر الأنبياء؛ ولا يوجد، في نظر
كثير من المسلمين، إلا دين واحد هو الدين الإسلامي: «إنّ الدين عند الله
الإسلام»، ولا شيء غيره؛ أمّا الإسلام السابق فقد «نسي، أو حُرّف أو بُدّل
وطُمست معالم الحقّ فيه، واستقرّ الباطل عند أهله، في عقائدهم وعباداتهم
وسلوكهم»(11)؛ وهو أمر ينطبق على كلّ ثقافة يعتقد حاملوها أنّها مطلق
الثقافة ولا يوجد سواها، ولا يكتشفون نسبيّتها إلا بعد الاحتكاك بثقافات
أخرى مغايرة. غير أنّ هناك تمييزا حاسما بين الإسلام والإيمان، وهو تمييز
قلّ ما يُنتبه إليه في تعريف الإسلام؛ إذ يعني الإسلام شيئا أكثر من الدين
بحصر المعنى وما يقتضيه من إيمان؛ بل حتّى إن حصرنا معناه في الدين، يبقى
دين الإسلام إطاراً عامّا مشتركا يشمل، على السواء، المؤمن والمنافق،
الناجي والهالك، ما دام يعني التسليم والانقياد ظاهرا(12). ونجد، علاوة على
ذلك، إشارة دالّة لدى الشهرستاني مفادها أنّ المسلمين هم الفرقة الناجية،
يُتبعها بعبارة «والله أعلم» لمكان ما أثاره حديث الفرقة الناجية من جدالات
كثيرة بين المسلمين(13). ويحضر هذا المعنى أيضا عند كثير من أئمّة الإسلام
كالكعبي من المعتزلة وعبد الله بن كرّام من المجسّمة وغيرهما، وهو أمرٌ لا
نجده، على سبيل المثال، عند عبد القاهر البغدادي الذي يطابق، كما كثيرين
غيره من أهل السنّة (وأصحاب الحديث منهم بالخصوص)، بين الإسلام السنّي
والإسلام، ولا مجال لمفهوم أوسع له خارج الدائرة العقدية السنّية(14).
إنّ عماد الدين الإسلامي القرآن
الكريم والسنّة النبوية؛ لكن ثمّة أيضا نصوص دينية وغير دينية كثيرة
أنتجها المسلمون عبر القرون. وأيضا فقد اغتنى الإسلام برصيد اجتماعي وسياسي
طويل؛ وراكم، عبر التاريخ، خبرات وأحداثا وإنتاجات علمية وفنّية صارت جزءا
لا يتجزأ منه، لكن ليس بوصفه دينا وحسب وإنّما بوصفه إطاراً ثقافياً
عامّاً، وبوصفه، أحيانا، إطاراً حضاريا. نفترض أنّ المفهوم تغيّر كثيراً مع
توسّع الدولة الإسلامية ودخول أقوام وأجناس من ثقافات وأديان مختلفة وظهور
تيارات وفرق مختلفة تيولُجية وغير تيولُجية، مع أنّ جميعها يتكلّم باسم
الإسلام وبشريعة محمد، علاوة على مباحث وعلوم إنسانية كثيرة. إنّ الثقافة
صفة ‹فردية›، لكنّها، في المقام الأوّل، صفة ‹جماعية› تعبّر عن مختلف القيم
والإنتاجات المادّية والرمزية الجماعية(15). فالثقافة أعمّ من العقيدة،
هناك عناصر أساسية مكوّنة لمفهوم الإسلام: العقيدة والفقه والسياسة وثقافة
المنطقة التي ينزل بها الإسلام، أو بالأحرى التي ينزل بها إسلام ما عقدي
وفقهي، وكذا أنماط سلوك المسلم ورؤيته الوجودية والقيمية ومخياله الرمزي
وطقوسه المختلفة سواء كانت إسلامية خالصة أو كانت من مشارب ثقافية أخرى
يصعب الوقوف على أصولها والكشف عن لحظات وكيفيات امتزاجها بالرموز والطقوس
الإسلامية الرسمية. لذا، نوجّه نظرنا، هنا، إلى الإسلام بوصفه دينا وثقافة،
أي بوصفه إطاراً واسعا للعيش المشترك(16)، مستبعدين كلّ تصوّر ضيّق لاهوتي
أو قومي. لا نقصد فقط الثقافة الإسلامية الدينية سواء بالمعنى الذي درج
عامّة المسلمين على تمثّلها والتي تتكوّن من خلال التربية الإسلامية، ومتى
صحّت هذه صحّت تلك؛ ولا بمعنى الثقافة الإسلامية العامّة، أي تلك الثقافة
التي أثارها وأطّرها الإسلام على نحو خالص تمييزا لها عن ثقافات، محلّية أو
خارجية، لا تجد أصولها في الإسلام؛ بقدر ما نأخذ الثقافة بمعناها العامّ
الذي يتضمّن المعنى الأنتربولُجي، بحيث تنطبق على الإسلام المكتوب والإسلام
المعاش، الإسلام كنصّ (النصّ الأوّل أو النصوص الثانوية) وعلى الإسلام
كواقع اجتماعي وتاريخي، أي مختلف الإنتاجات الثقافية العالمة وغير العالمة،
الرسمية والشعبية التي ينتجها المسلمون في مختلف المناطق والتي قد لا تجد
بالضرورة أصولها في الإسلام العقدي، لكنّها تقدّم في لباس إسلامي، وهو ما
يجعل منها ثقافة إسلامية أو إسلاما ثقافيا. وإن كان الإسلام الثقافي يعكس
التاريخ الاجتماعي ويرصد الاختلافات الطائفية والعرقية والجنسية والطبقية
وغيرها، فإنّه يمعن، مع ذلك، في أخذها كعناصر تؤثّث مجالاً واحداً ومتعيّنا
هو المجال الإسلامي دون تمييز بين عناصره على سبيل التفضيل أو الإقصاء أو
غيره. هكذا نعني بمفهوم الإسلام الثقافي إطاراً دلالياً نميّزه عن المفهوم
الأصل (الإسلام) وعن إطارات دلالية أخرى مجاورة، وهي إطارات متداخلة جدّا
يصعب الفصل بينها. هكذا، نخصّص الإسلام بصفة الثقافي لكي نميّزه، من جهة،
عن أنواع أخرى من الإسلام كالإسلام العقدي، والإسلام السياسي، والإسلام
الفني والعلمي، والإسلام التشريعي؛ ومن جهة ثانية، لكي نعمّمه حتّى يشمل
كلّ هذه الجوانب، لكن دون أن يتماهى معها. الإسلام الثقافي أعمّ من الإسلام
العقدي والإسلام السياسي وغيره، إذ العقيدة والسياسة والاقتصاد والفنّ
والعلم عناصر ثقافية. وفي الجملة، يكاد الإسلام الثقافي يرادف الإسلام
الحضاري؛ مع فارق أساسي أنّ الحضارة تقتضي مستوى من التقدّم والازدهار على
مستويات كثيرة وخاصّة على المستوى الصناعي والتقني والنظام السياسي وفي
العلوم والفنون المختلفة، في حين أنّ المقصود بالإسلام الثقافي حالة ثقافية
شعورية(17) يلخّصها إحساس بالانتماء إلى كيان ثقافي عامّ يتجاوز القطرية
والطائفية إلى كونية مبادئ الإسلام وسماحتها، لكنّه يُطلق أيضا على مختلف
ما يُنتج ويتبادل ويستهلك من قيم ثقافية تحكم، عن وعي أو غير وعي، الإنسان
(فردا وجماعة) الذي يحتلّ مجالاً جغرافياً يمكن وسمه بالمجال الإسلامي(18).
الإسلام الثقافي هو المرجع، فهو يشكّل، منظوراً إليه ككلّ في حالة اغتنائه
بمختلف عناصره، المرجعية الإسلامية العامّة، أي روح الجماعات والشعوب
الموسومة بالإسلامية.
ولابدّ من التنبيه إلى أنّنا
لسنا هنا بصدد الدعوة إلى نوع معيّن من الإسلام، بقدر ما ننظر إلى هذا
المفهوم كموضوع محدّد للبحث والسؤال. إنّنا نسائل جانباً واحداً فقط من
الإسلام، فالإسلام الثقافي وجه من وجوه الإسلام المتعدّدة؛ إنّه وجهه
العامّ، دون أيّ زعم بكونه يمثّل ماهية ما مفترضة فيما وراء الصورة المعطاة
للإسلام في تجلّياتها المختلفة؛ ولا تعدو الوجوه الأخرى أن تكون تخصيصات
لهذا الوجه العامّ، يستحيل الإلمام بها جميعها في آن واحد، وإلاّ سقطنا في
الاختزالية أو في تعميمات غير مبرّرة. فنحن لا نقصد عقيدة إسلامية دون أخرى
بقدر ما نقصد الإسلام الذي يشملها ويجمعها؛ وهذا الإسلام ليس، في آخر
المطاف، شيئا آخر سواها(19). وكذلك، فإنّ هذا التمييز لا يعني، بأيّ حال،
فكّ الارتباط الوثيق بين التصوّر والعمل في الإسلام، فنحن لا نقيم أيّ
تقابل ولا مماثلة بين الإسلام الثقافي والإسلام الطقوسي (أو الشعائري)؛
بحيث لا نقصد بالإسلام التصوّر المعاصر الشائع الذي ينظر إلى الإسلام بوصفه
فقط شكلاً ثقافياً وانتماءً إلى وعاء هوياتي عامّ دون الالتزام بشعائر
الإسلام، أو على الأقلّ أخذ مساحة أكبر من الحريّة الفردية والانفصال أكثر
فأكثر عن واجبات الجماعة الإسلامية(20)؛ وهو تصوّر يفصل، بمعنى من المعاني،
بين الدين والثقافة، أو على الأقلّ إنّه لا يرى في الدين إلاّ شكلاً
ثقافياً ثانوياً، في حين أنّ أولوية المعتقد الديني في الإسلام بارزة
للعيان كما سبقت الإشارة. إنّ ما يختلف هو زاوية النظر إلى الإسلام بحيث لا
ننظر، هنا، إلى الإسلام العقدي والطقوسي إلا في بعده الثقافي، أي بوصفه
ظاهرة ثقافية في تجلّياتها لدى الإنسان نصّاً وتأويلا، تصوّرا:وممارسة،
مخيالاً وطقوساً، وهي أمور لا يمكن دراستها جدّياً إلا بتوظيف مناهج العلوم
الإنسانية المختلفة(21). وكذلك نميّز بين الإسلام والانتماء القومي دون
الذهاب إلى حدّ الفصل كلّية بينهما، إذ نميّزه عن الإسلام العربي دون
التنقيص، مع ذلك، من دور العرب في نشر الإسلام كما دور لغة الضادّ في
الحفاظ على وحدته وسموّه، بل ربّما أيضا في فرض تصوّر وشكل إسلامي معيّن؛
لكن دون إغفال مساهمة القوميات والثقافات الأخرى في نشر الإسلام والانتصار
لتصوّرات مباينة لإسلام المركز وتكريس أشكال ثقافية إسلامية مختلفة. لذا،
من السهل أن نلاحظ أنّ ثمّة عناصر ثقافية كثيرة تبدو اليوم مشتركة بين
المسلمين لا تجد مصدرها، بالضرورة، في الدين الإسلامي؛ فكما أثّر الإسلام
في الأقوام والثقافات المحلّية أثّرت هذه الثقافات والشعوب أيضا، بشكل أو
بآخر، في الإسلام(22)، وهو الإسلام الذي نخصّه بوصف الثقافي، الإسلام وقد
اغتنى من تراث سابق ثمّ أغناه؛ ولا يخفى أنّ المسلمين ورثوا تركة علمية
وفنّية ومعمارية وفلسفية هائلة ساهمت ربّما أكثر من غيرها في توطيد دعائم
وحدة ثقافية وحضارية للمسلمين(23)، والإسلام يغني دائما الثقافات المحلّية
للجماعات التي تعتنق هذه الديانة ولاشكّ أنّه يغتني منها أيضا،
والأنتروبولُجي وحده بإمكانه ملاحظة ورصد معالم وعناصر هذا الاغتناء
المتبادل ومدى قوّته أو ضعفه. وإذا كان خليقا بنا، إن شئنا التدقيق أكثر،
أن نعمد إلى تمييز ما هو إسلامي ممّا ليس كذلك، وما هو ديني ممّا ليس
دينياً داخل الإسلام الثقافي، فإنّنا سنكتفي، على سبيل إجرائي محض،
بالتمييز بين جوهر ثقافي ديني وبين توسيعات ثقافية متعدّدة المظاهر، تجد
مرجعها في الذات أو في الخارج، لكن في الذات المتخارجة أو في الخارج وقد
صار جزءا من الذات الإسلامية(24). ترى، ما الذي يمنح، مع ذلك، لهذه الذات
هويتها الإسلامية ويحافظ عليها عبر مسار تاريخها الطويل؟ ما الذي يجعل من
المجال الإسلامي ما هو؟ وما هي أبرز الأركان الثقافية التي تقوم عليها
الهوية الإسلامية؟
…….. التتمة في العدد
الإثنين أكتوبر 22, 2012 3:04 pm من طرف نابغة