الدين والتشدّد والعنف
العلاج ما بعد تاريخي والإرث الأفلاطوني
زهير اليعكوبي
I. بدء. يوتوبيا الضيافة، التدين الواهن.العيش سوياً، المعية، رهان أصبح
تأصيله مطلباً ملحاً ليس بوسع الفكر(1) المجبولة بالظاهرة الدينية
الإسلامية التغاضي عنه. ليس فقط لأننا نتحمل جزءً من مسؤولية الحادي عشر من
سبتمبر، أو ما شابهها من وقائع، شئنا ذلك أو أبينا، حملناه أو حُملناه، أو
لأننا صرنا مصدراً للفوبيا بل، بالأساس، لأن الخصوصية ومعها ادّعاءات
المطلق تحولت لدينا ﺇلى مرض عضال ينخر نواح لا حصر لها من مجتمعنا
وفضاءاتنا الفكرية والثقافية. وبما أن المرض بلغ مرحلة جد متقدمة، لم تعد
تنفع معه كل أنواع المسكنات والمضادات الحيوية. باتت الجراحة، يوما تلو
آخر، تفرض نفسها كطريق «لا غنى عنه» للعلاج. قد تكون الجراحة جد مؤلمة،
سيما وأنها تتم دونما مخدر، لكن المرض أصبح بالقوة التي يهدد معها الحياة.
ﺇن الخصوصية المنغلقة المتجاهلة لجدل الكوني والخصوصي مثل، ﺇذا استعملنا
تشبيهاً آخر، الحارية(2) سمها لا حظّ لك معه ومن شدّته ينهش من لحمها. تلك
الخصوصية موت الذات قبل أن تكون موتاً للآخر.
لذلك، تعود ﺇحدى مهمات الفكر
الأكثر راهنية وﺇحراجاً ﺇلى هيرمينوطيقا الجسور وأنطولوجيتها(3). الجسر
(لنفكر في الجسارة والجَسور) يربط بين ضفتين ليحمينا من السقوط. الفكر
دوماً فكر عبور، لذا لا ينبغي له التخلي عن إحدى مهامه الأكثر أصالة: هندسة
الجسور وبناءها.
الجسور هي الأمل الأخير للوطن
الأخير، المتاحة الأخير للمسلم الأخير. فنحن أبناء حضارة زمنها مهدد بالموت
في كل لحظة، لنقل ﺇنه في موت سريري منذ أمد. من قال أن الزمن ينساب دوماً!
من قال أن المستقبل يلي الحاضر ضرورة! الزمن قابل للانكسار ومعرض للإخصاء.
«خفت على زمن من زجاج… لا وقت للغد »(4)، ما أروع خوفك يا درويش، ما أروع
خوف من يشرفون علي الموت، ما أروع خوف من يكتبون مرثيتهم، ما أشجعهم. خفت
على زمن بدأ بالانكسار منذ سنين عدة، ووقت استنفذ كثيراً مما في جعبته حتى
كاد أن يصير ضرب محال.
لا يتعلق الأمر هنا بالترويج
لسوداوية تشاؤمية لا تقرأ في الحاضر غير علامات الموت، فما زال هناك فسحة
للفعل، وﺇلا لا معنى لهذا العمل أو قراءته. السواد لون لا يناسبنا، ﺇلا
كعنوان لرواية أو قصيدة أو كاحتفاء استطيقي، بقدر ما لا يناسبنا فيه
البياض؛ عمى الألوان من أسوأ ما يمكن أن يصيبنا.
ضداً على عمى الألوان الذي شاع
بيننا، ومحاولة لترويض النفس والجسد لتحمل آلام وتبعات الجراحة التي
يتطلبها تأسيس وتأصيل المعية؛ جاء اشتغالنا هذا.
يعد هذا العمل، بالنسبة لنا، ﺇن
كان هناك مكان لنا بعد «موت المؤلف»(5)، مساهمة في نقد البارنويا
الفكرية(6)، أملاً في حالة مابعد بارنوية. البارنويا مرض الميتافيزيقا
الكلاسيكية الأساسي، باعتبارها ميتافيزيقا الثنائيات والإطلاق. هل يعني ذلك
أننا نتموضع خارج الميتافيزيقا؟ هل نستطيع الخروج من الميتافيزيقا؟ أليس
نقد الميتافيزيقا الكلاسيكية لا يتم ﺇلا على أرضية، أو ﺇعادة ﺇنتاج،
ميتافيزيقا أخرى بثياب جديدة، وبالتالي نكون رهيني مرض آخر؟ تلكم أسئلة جد
مشروعة.
ضريبة الفكر أن يسقط مراراً
وتكراراً في أمراض هو عنها في سهو، أن ينير ظلمة لينتج ظلمات. والأكيد هو
أننا لسنا خارج الميتافيزيقا، لا نفكر بعد نهايتها، كما اعتقد التيار
الوضعي على سبيل المثال، بل نفكر ضد نوع مخصوص من الميتافيزيقا؛ ونرتهن
لميتافيزيقا أخرى. الميتافيزيقا حاوية وحاضنة الوجود الإنساني، ﺇذ بواسطتها
نبني العالم ونشق طريقا لنا داخل شعابه، فإذا كان الإنسان يمتلك عالما على
خلاف الحيوان الذي «يمتلك» محيطا فذلك عائد، في أحد جوانبه، ﺇلى كون
الإنسان موجود ميتافيزيقي. لذلك ليس بوسعنا تجاوزها، وكل ما بإمكاننا فعله،
من وجهة نظرنا، هو أن نعي قدر الإمكان، فدائما سيظلّ هناك جزء محجوب عنا،
نوع الميتافيزيقا التي تحوينا ونحاول تعديلها ﺇذا كان لذلك ضرورة، أن نلاعب
الميتافيزيقا التي تحتوينا ذلكم جهد مقدرتنا. اللعب، متاح الفكر الجدي؛
الفكر الواهن. وهن ليس دلالة على ضعف وتخاذل، وﺇنما على وعي بالمحدودية. في
حالتنا هذه: باسم ميتافيزيقا التعدد والنسبية نقف في وجه ميتافيزيقا
الثنائيات والمطلق، باسم ميتافيزيقا العيش المشترك نواجه ميتافيزيقا
المعركة.
بشكل أكثر تخصيصاً. هذا العمل هو محاولة للانخراط في تفكير مابعد تاريخي(7)، ﺇذا تكلمنا بلغة
سلوتردايك، في بناء فضاء عمومي حاضن لرؤى العالم في اختلافها وتناقضها، ﺇذا تكلمنا بلغة
هابرماس،
أو هو شروع في التفكير انطلاقاً من يوتوبيا ليبرالية تؤكد على تعدد
المعاجم النهائية وتعمل على دمج الأغيار بشكل مستمر داخل دائرة النحن عن
طريق جعل جهاز حساسيتنا أكثر قدرة على استشعار الحالات العاطفية والوجدانية
للغير اهتداءً بمبدأ ناظم «القسوة أفظع ما يمكننا فعله»(8)، ﺇن نحن اخترنا
لغة
رورتي. وفي لغة دينية إسلامية، التأكيد على الوسطية،
مع تجذيرها من مجال الفقه والمعاملات ﺇلى مجال العقيدة والتعامل، وإعادة
تفعيل الحل الإرجائي، نقصد تعليق الحكم على أرضية الله أعلم(9) وأن الحكم
لله الذي لا يمكن التطاول عليه(10)، وبسط ذلك في أبعاده الوجودية والمعرفية
والأخلاقية والعلائقية والعقائدية. فالحاكمية لله، لكن ليس كما فهمها سيد
قطب. بناءات نظرية وتوجهات فكرية/أخلاقية مختلفة، لحد التضارب أحيانا،
لكنها في عمقها تظل تشير لدينا ﺇلى شيء واحد: ضرورة احتضان (الغير) الآخر
المخالف والمختلف. هذا الاحتضان عمق ما نسميه يوتوبيا الضيافة. سأحاول
سريعا، في سياق هذا البدء، تحديد بعض الملامح العامة والأولية ليوتوبيا
الضيافة.
1ـ
ضيافة:
الضيافة محاولة تحقيق تعايش متكافئ بين الأغيار، أي أنها حالة مابعد
تاريخية. كان من الممكن أن نقول التسامح لولا أننا وجدنا فيها أبعاداً لا
يسمح بها التسامح، فهو يظل منغمساً في التاريخ وﺇن بشكل مقنع. الضيافة قبول
وفرح وترحيب بالآخر، وتقديم خير ما نملك إكراماً له. الآخر المكرم هو
الآخر الضيف، أما الآخر المتسامح معه هو الآخر الضعيف. الذات المضيافة هي
الذات الكريمة الحاضنة والواهبة، الذات المتسامحة هي الذات القوية القادرة
على العقاب لكنها تتخلى عنه تعففا. لنقل، الضيافة صدر رحب، والتسامح صبر
محمود. لذلك تطرح يوتوبيا الضيافة على عاتقها حملاً ثقيلاً لدرجة الرعب،
استنساخ ملايين النسخ من حاتم الطائي، بلغة دقيقة جعله حالة جماعية. فكيف
السبيل ﺇلى تحرير هكذا استنساخ من قيود المنع التي تكبله من جوانب عدة؟
سؤال مرهق، ربما لكونه من نوع الأسئلة التي تقتل صاحبها؟ أو تلك التي تظل
هاربة على الدوام متحدية أية ﺇجابة أو ﺇجابات؟ أو لعله سؤال حارق لمن يقترب
منه؟ المهم أنه سؤال ما ينفك يحاصر ما ﺇن يأخذ التفكير في ممكن التعايش
منحاً جذرياً.
2ـ
يوتوبيا:
هكذا نعتقد في صلاحية الحكم الأنشتايني على الإنسان انطلاقاً من السؤال:
ﺇلى أي حد استطاع أن يتخلص من أناه؟(11) مع التأكيد أن التخلص هنا لا يفهم
فهماً وضعياً بل فهما تذاوتياً، حيث يصير السؤال: ﺇلى أي مدى استطاع أن
يوثر على نفسه ولو كان الغير مخالفاً جذرياً، ولو كان الضيف متطلباً في
معتقداته؟ الغيرية الجذرية غير ممكنة، الهوية المنفتحة بشكل كلي ممتنعة.
فكل غيرية تتأسس بدءً على مركزية ذاتية، وكل هوية ﺇقصاء. بيد أن ذلك لا
يعني أن الغيرية والانفتاح الجذريين ضرب عدم، فالمنطق الكلاسيكي ليس الحكم
هنا، وﺇلا لكان ما نقوله عن الضيافة ضرب عبث، وﺇنما هما ضرب أمل. أمل
يوتوبي، بما تحمله اليوتوبيا من معاني ﺇيجابية ومن عدم ﺇمكانية التحقق،
نسعى ﺇليها دوماً دون أن نمتلكها حصراً أو قطعاً، نُقوم من خلالها
تمركزاتنا الهووية ونعيد تشكيل مؤسساتنا الاجتماعية والثقافية، نذيب
سياجاتنا المغلقة ووثوقيتنا العمياء. في جملة واحدة: بالعودة ﺇليها،
وبالاتجاه نحوها، نهذب (بالمعنى الغاداميري الرورتوي) أنفسنا باستمرار. من
هنا تتم استعادة السؤال الكانطي: من هو الإنسان؟ لنجعل منه غاية، ليس
بالمعنى الكانطي، مطمحاً وهدفاً. فالإنسان هو في حد ذاته يوتوبيا، لأنه ليس
حالة معطاة نمتلكها بشكل أوتوماتيكي وﺇنما هو حالة يتم بناءها باستمرار.
هذا الفهم يسمح لنا بإضفاء معنى مخصوص على حكمة
ديوجين في حمله للمصباح عز الظهيرة، متحدياً العقل اللغوي لمتفلسفة عصره، بحثاً عن ﺇنسان. فليس بيننا
الإنسان، كما أن ﺇنسانيتنا تزيد وتنقص. الإنسان بمعناه المكتمل لا يوجد ﺇلا في المجتمع اليوتوبي. وباستحضار ذكرى
سارتر الإنسان مشروع، لكنه لا يكتمل، (ينبغي أن نقرأ في هذا الرسم الشيء ونقيضه:
الاكتمال كهدف، والسلب الذي يلحق الاكتمال فيجعله ممتنعاً)، نظراً
لارتباطه باللا مكان. لذا، نحن مضطرون لهجانة قاسية: الجمع بين الطائي
وديوجين و
سيزيف، أن نحمل المصباح دوماً دون أن نحقق المراد.
3ـ
وهن، تميز
يوتوبيا الضيافة بين التدين الواهن والتدين القوي. الصنف الثاني يقوم على
أساس الإيمان المطلق للمتدين بصلاحية نسقه الديني وبأنه نسق الخلاص الوحيد،
فيجعل مما عداه جاهلية وضلالاً. أما التدين الواهن فهو يقوم على مبدأ
التدين في حدود الاعتراف بحق الآخر في امتلاك معتقدات مخالفة، وأن طرق
الخلاص متعددة. المتدين الواهن، يعتقد في صلاحية نسقه الديني لكن باعتباره
نسقا من بين أخرى تتمتع هي أيضا بالصلاحية.
4ـ
واقعية: مما سبق، يتضح أن الغيرية والضيافة والإنسان يتم التعامل معهم انطلاقاً من مستويين/طبقتين، ﺇذا استثمرنا تحليلات ﻟ
كارل أوتو آبل بصدد اتقيا النقاش(12)، مستوى اليوتوبيا بما هي أمل ومعيار للتقويم، النموذج المثالي بلغة
فيبر، ومستوى التحقق الواقعي الذي تختلف درجة قربه بعده من النموذج حسب الظروف المختلفة. لكن، خلافا لما توحي به أعمال
آبل من إمكانية تحقيق جماعة النقاش المثالية، وليسمح لنا القارئ بالتكرار، لا
نعتقد أنه بإمكان المثال أن يصير واقعاً، نظل نقترب منه دون أن نحققه في
كماله.
5ـ
أمر قطعي:
«اعتقد فيما تشاء، آمن بما تشاء، شريطة قبولك بالآخر مهما كان اختلافه عنك
ومعك جذرياً». ينتج عنه أمر قطعي آخر «افعل دوماً بحيث يكون فعلك لا يقصى
حق الآخر في الاختلاف معك». هنا أيضا ينبغي أن نميز بين المستوى المثالي
والمستوى الواقعي. الأمران لا يمكن تحقيق كامل متطلباتهما ﺇلا في الشروط
المثالية، لكنهما في المقابل مبدآن ناظمان للاعتقاد والعمل في إطار يوتوبيا
الضيافة. وبما أننا نستحضر ذكرى
كانط نقول أنهما مبدآن حاكمان للعقل المحض والعقل العملي.
6ـ
غربة: لا
تكتفي يوتوبيا الضيافة بالجانب البيثقافي والبيذاتي، فهي ليست فقط واجباً
اتجاه الغير وﺇنما هي أيضاً واجب اتجاه ذواتنا. الذات ليست كتلة متجانسة
متماسكة، ولا هي كتلة هولامية؛ الذات تعدد. «الآن، أنت اثنان، أنت ثلاثة،
عشرون، ألف، كيف تعرف في زحامك من تكون»
(13)، لذلك من
المهم جداً أن نفسح المجال داخلنا للأصوات المتعددة المختلفة التي تخترقنا.
الضيافة في هذا المستوى هي أن نجعل آلات العزف المختلفة تعزف لحناً شجياً،
ﺇنها سنفونية القبول بهجانتنا وتعددنا الذي لا يمكن أن يصير ﺇلى التطابق
الواحدي. في ذلك أحد أكبر مآسينا وأكبر تحدياتنا الوجودية. غرباء نحن كما
كان أجدادنا وكما سيكون أحفادنا. غرباء نحن كما الجميع، فليس في الأمر ما
يدعو لمفخرة ولا لخجل. أقوياء ضعفاء بغربتنا. هل بوسع الغريب أن يسأل غير
الضيافة؟ بالتأكيد نعم، وبالتأكيد لا. بين هذين الاختيارين، وفي تقاطعهما
المستمر، ينبني جزء مهم من تاريخنا الفردي والجماعي.
7ـ
ريروطيقا: من منطلق يوتوبيا الضيافة ينبغي أن تزول العديد من المصطلحات، أو يعاد تأويلها، من معجمنا النهائي (
رورتي)،
على سبيل المثال: البربرية، الهرطقة، التحريف، الجاهلية، العرق السامي،
شعب الله المختار… مقابل تثبيت مصطلحات من قبيل: التآخي، التعايش، الكرم،
الحوار، التقارب، الاشتراك، التعدد.
8ـ
تهكم(14):
لا تعني يوتوبيا الضيافة، كما هو بين، أن المضياف ينبغي أن ينسلخ من
معتقداته ويتخلى عن قبلياته ومرجعياته، وﺇنما أن يدخل النسبية ﺇليها. أنا
صائب وأنت مخطئ، أنا صائب وأنت أيضا صائب، أنا صائب وقد تكون أنت كذلك
صائب، أنا صائب وقد تكون أنت مخطئ، قد أكون صائباً وأنت مخطئ، قد أكون
صائباً وقد تكون مخطئاً، قد أكون صائباً وأنت صائب، قد أكون صائباً وتكون
أنت كذلك صائب، أنا مخطئ وأنت صائب، أنا مخطئ وقد تكون صائباً، أنا مخطئ
وأنت مخطئ، أنا مخطئ وقد تكون أنت الآخر مخطئاً، قد أكون مخطئاً وأنت مخطئ،
قد أكون مخطئاً وأنت قد تكون أيضا مخطئاً(15). المنطق الأرسطي عقيم، لا
يسمح ﺇلا بقيمتين. لذلك ليس من الضروري أن يزول مفهوم «الهداية» من معجمنا
النهائي، وأيضا مفاهيم مثل: الإقناع، التصويب، التقويم، النقد. الحوار مع
الآخر، وفي حالات محددة محاولة إقناعه، «هدايته»، انتقاده، لا يتعارض مع
استضافتنا له، اللهم ﺇذا كنا رهيني تفكير مانوي. عموماً «الهداية» حق
للجانبين، وﺇلا تحولت الضيافة ﺇلى مجاملة بئيسة لا تسمن ولا تغني من جوع
كبعض تلك اللقاءات المسماة بحوار الأديان التي يكتفي المشاركون فيها بمدح
بعضهم البعض.
9ـ
تيموس وذاكرة:
من بين الأعمال الموجبة التي تطرحها يوتوبيا الضيافة على نفسها، محاولة
توجيه التيموس نحو احتضان الآخر، والانخراط في بناء تاريخ للذكرى يقدم
تاريخا يبرز عناصر التعايش والتآخي، ويساهم في بناء ذاكرة جديدة، ذاكرة لا
تقوم على الميغالوتيميا (بالدلالة التي يستعمل بها
فوكوياما الميغالوتيميا) وﺇنما تحتضن كل الأطراف.
10
معرفة: من الناحية الإبستمولوجية تلتفت يوتوبيا الضيافة عن نظرية المعرفة، كما حددها
رورتي،
لصالح انخراط مفكر فيه داخل البراديغم الهيرمينوطيقي للعقل، مع الاهتمام
أيضاً، وبشكل أساسي، بأعمال مابعد هيرمينوطيقية كالتي بدأت تتجلى معالمها
بوضوح مع
دوبري، كأبرز ممثلي المنعرج الميديولوجي، و
سلوتردايك و
غرويس و
أسمان؛ ونتيجة لذلك تلتفت يوتوبيا الضيافة عن المنطق الثنائي لصالح منطق متعدد القيم.
11ـ
وهم ووعد:
قد يرى البعض في يوتوبيا الضيافة «وهماً». لكن من ذا الذي يستطيع العيش
بدون أوهام؟! من ذا الذي يستطيع مواجهة صقيع الواقع بجسد عار، فرداً كان أو
جماعة؟! الحقيقة الوهم (
نيتشه)، النار المقدسة (
دوبري). «الوهم» و«الأسطورة» نجاة لنا من «عثرات الواقع الرخو وفقه الواقعية»(16). ﺇنه قدر الإنسان.
كان من الممكن القول أن يوتوبيا
الضيافة وعد جميل لولا أن التاريخ علمنا حذر الوعود الوردية. باسم (الوعد)
مملكة الله، استعبد عباد الله. باسم الحضارة، أبيدت حضارات. باسم
الإنسانية، كم من أرواح أزهقت ومن دماء أسفكت. باسم الشعب، صار الشعب
ذليلا. باسم التقدم، نهبت دول ووضعت داخل حلقة مفرغة للتأخر. باسم الحرية،
تناسلت السجون. باسم الديمقراطية، أقيمت حروب واستعمرت أوطان. باسم الوطن،
أديمت حالة الطوارئ وصار الرئيس ملكا. باسم التوزيع العادل للثروة، نمت
النوموكلاتورا وشاع الفقر والحرمان. باسم البروليتاريا ومجتمع المابعد
طبقي، الديكتاتورية. باسم القانون الدولي…كفى. هل ما زال بإمكان الوعود
الجميلة أن تمارس علينا سحرها وبريقها؟
لكن بالرغم من ذلك ينبغي
الاعتراف بأن يوتوبيا الضيافة تحمل بين طياتها وعداً خفياً. الوعد بمعناه
الدريدي. فيوتوبيا الضيافة ذات بعد مشياحي. المشياحية (messianicité)، لدى
دريدا،
وعد سابق على كل وعد ديني، فهي الوعد باللامرتقب، بالحدث الجلل الذي سيقيم
العدل بين بني البشر(17). المشياحية انتظار وترقب للأفضل، وكذلك يوتوبيا
الضيافة. لكن كل ترقب للأفضل لا ينفك عن ترقب الأسوأ، كل وعد يواكبه ويهدده
«الإخلال بالوعد». فالمستقبل منفتح دوماً على كل الإمكانيات. في هذا
الصدد، كادت اليوتوبيا أن تصير واقعية، لنقل ﺇنها واقعية غير فجة.
هكذا تقف يوتوبيا الضيافة في
وجهة كل التصورات التقدمية الحتمية، الدوغمائية، لمسار التاريخ، كالماركسية
الكلاسيكية. فأحد الأخطاء المهمة التي وقعت فيها تلك الماركسية أنها جعلت
من النهاية السعيدة نهاية محتومة، قدر الإنسانية. اعتقدت أنها تقدم تحليلاً
علمياً يرتكز على «قوانين التاريخ» لكنها لم تنتبه إلى كونها تعيد إنتاج
النموذج الديني (المسيحي اليهودي) من حيث لا تدري. هذا الخطأ القاتل عملياً
ونظرياً انتبه ﺇليه العديد من الماركسيين الجدد وحاولوا تجاوزه عن طريق
مراجعة نقدية، بيد أن العديد من تلك المراجعات ظلت غير كافية. لقد اعترفوا
بالفعل بانفتاح المستقبل، وأقروا بعدم حتمية الاشتراكية الشيوعية، لكن
البديل عنها لم يكن سوى الهمجية، اشتراكية أو همجية، خير أو شرور، سعادة أو
بؤس وضياع، مساواة أو استغلال، ليس أمامكم خيار آخر، ليس لديكم اختيارات
عدة. التوجه نحو الخلاص أو التدمير الذاتي، «يا تْجهزوا جيش الخلاص يا
تقولوا على الدنيا خلاص» أنشد شيخ ﺇمام ومن وراءه الملايين، لا قيمة وسطى،
الثالث المرفوع، لا قيم متعددة، المنطق الثنائي يعلن عن نفسه مرة أخرى. هل
تم بذلك التخلي عن البناء الدوغمائي للتاريخ؟ لقد كان ذلك خدعة كبرى.
كلاسيكياً، الاشتراكية قدر الإنسانية، بعد المراجعة، الاشتراكية قدر
الإنسانية السعيد. لعبة وخداع أتقن خيوطها
فوكوياما فاستحق مكانة مرموقة بين اديولوجي القرن العشرين.
ﺇن يوتوبيا الضيافة تعد، غير أنها لا تعد بحتمية ما تعد به ولا بحتمية نتائجه، ولا تدعى أنها خير ما يمكن وعده.