الرحلة الميثولوجية للحجرمن ثقافة الرافدين حتى الإسلام1) الحجر فـي أساطير بلاد ما بين النهرين إن الحجر، لما له من بُنية صلبة
قاسية ومن ماهية ثابتة غير قابلة لأن يطرأ عليها تحوُّل جوهري أو تغيير
جذري بفعل عوامل الطبيعة والمناخ، تمتّع بمكانة مميزة في الثقافات القديمة.
فمن خلال تتبعنا للرحلة الميثولوجية للحجر نجده يتخطى وضعيته المادية
كموجود في الطبيعة المادية ليغدو عنصراً ثقافياً متخذاً طابعاً أسطورياً في
تدليله على تجربة تاريخية ومقدسة حدثت، لا يتم الاحتفاظ بملامحها
وإنجازاتها وأحداثها إلا من خلال تدوينها فيه ونقشها عليه.
فالأسطورة التي تفسر علاقة
الإنسان بالكائنات وتجسد رؤيته إلى العالم، الحياة، الوجود، المجتمع، القيم
الاجتماعية، حالته الوجدانية…، قد تمَّ تدوينها على ألواح حجرية. وهذا
الفعل التدويني قد تمَّ التأسيس والتنظير له داخل الأساطير نفسها.
عقد اللازورد(91) في جيد
الإلٓهة عشتار، كان شاهداً على تاريخ مقدس نموذجي ومثبتاً لحدث الطوفان في
الذاكرة، مع الأهوال التي رافقته والتي تُحتم عدم تكراره من جديد.
رفعت عقد الجواهر الذي صاغه آنو وفق هواها، وقالت:أنتم أيها الآلهة الحاضرون، كما أنني لا أنسى عقد اللازورد هذا الذي في جيدي سأظل أتحسس هذه الايام ولن انساها. (92)
~~~~~~~~~~
وليكن هذا الذباب أحجار اللازورد التي جيدي لأتذكر بها كل يوم وإلى الأبد.(93)
الحجر المشحون برمزية الخلود
الذي، وإن استعصى على الإنسان العاجز عن البقاء كفرد، فهو يُتيح له البقاء
عن طريق حفظ إنجازاته، فـ غلغامش الذي التهمت منه الحيَّة زهرة الخلود،
يعود حاملاً معه حلاً للغز الحياة والموت المتمثل بتثبيت الإنجازات البشرية
على الألواح الحجرية وحفظها من جهة، وتشييد المعابد والمدن من جهة أخرى،
كتعويضعلى الإنسان الذي يرى خلود عمله فيتعزى بذلك عن عدم تمكّنه من تحقيق
خلوده الشخصي.
فنقش في نصب من الحجر كلّ ما عاناه وخبره (94)
~~~~~~~~~~إبحث عن اللوح المحفوظ في صندوق الألواح النحاسي. وإفتح مغلاقة المصنوع من البرونز واكشف عن فتحته السرية تناول حجر اللازورد واجهر بتلاوته وستجد كم عانى غلغامش من العناء والنصب. (95)
2) الحجر في العهد القديم هنا أيضاً نجد الحجر يتجاوز
أصوله المادية متخذاً لنفسه طابع قداسة يأتي من مصدر فوقي (ما ورائي)
حاملاً رسالة الربّ لشعبه التي يكمن فيها خلاصهم.
فالرب سلّم موسى لوحَيْ
الشهادة، لوحين من حجر(96) . اللوحان هما من صنع الله والكتابة هي كتابة
الله(97) . وقد تضمنت هذه الألواح وصايا الرب وهي عشرة وصايا(98) لبني
إسرائيل، وهي النص التأسيسي لليهود وشريعة لحياتهم الدينية والمدنية،
فألواح موسى حفظت ميثاق الرب لشعبه.
ومن ناحية أخرى اتخذت الحجارة
قي العهد القديم الطابع التذكاري لتخليد حادثة عبور كهنة إسرائيل لنهر
الاردن، فبعد أن عَبَرَ كهنة إسرائيل الأردن طلب الرب من «يشوع» أن يأخذ من
شعب إسرائيل إثني عشرة رجلاً ليحملوا، من موقف أرجل الكهنة، إثني عشرة
حجراً، وأن يعبروا بها حاملينها فوق أكتافهم لتكون علامة في وسطهم، (إن
مياه الأردن قد انفلقت أمام تابوت عهد الرب عند عبوره الأردن، وانفلقت مياه
الأردن، فتكون هذه الحجارة ذاكرة لبني إسرائبل للأبد)(99)، والتأكيد هنا
على الحجارة يأتي من جهة صلابتها واستعصائها على الزمن مما يتيح لها أن
تحفظ عهد الرب في ذاكرة بني إسرائيل.
3) الرمزية في المسيحية. مع المسيحية نجد أن الحجر يخسر وظيفته الأساسية التي كان يقوم بها في كتابات الأساطير وفي نصوص
العهد القديم.
وذلك لأن الإطار الرمزي البالغ التجريد، والطابع المُمْعِن في التسامي
والتشديد على المحبة التي أتت بها المسيحية جعل عهد الرب وميثاقه يكمنان في
كلمة المسيح الذي يتم الإصغاء إليها وتذكُّرها ليس من خلال نقشها فوق
الحجارة ـ التي تستعصى على الزمن ـ بل من خلال مشاركة أفراد الدين الواحد
في الإصغاء إلى نداء المحبة وفي الإيمان بكلمة الله على الأرض:
المسيح.
4) ثقافـة الحجر في الجاهليةلم يترك لنا العصر الجاهلي
مدونات أو نصوص مكتوبة تمكّننا من استخلاص السمات الفكرية والأطر الدينية
لشبه الجزيرة العربية بشكل واضح، إذ أن العرب، قبل الإسلام، لم يعرفوا
التدوين وكانت ثقافتهم شفاهية وعلى صلة قوية بحاجاتهم الحياتية اليومية.
حتى الشعر الجاهلي الذي تمَّ تدوينه في مراحل متأخرة، وضعت عليه علامات
استفهام، منها على سبيل المثال رؤية كل من
طه حسين في كتابه (الشعر الجاهلي) والمستشرق
مرغليوت القائلة بأن هذا الشعر يعود إلى الحقبة المتأخرة للحكم
الأُموي[40هـ،132هـ]. لهذا فإننا، وفي رصدنا لرؤية الجاهلي للحجر وكيفية
تعاطيه معه، لا يوجد أمامنا سوى العودة إلى النصوص التي أنتجت في الحضارة
الإسلامية، والتي احتفظت لنا بما تم تناقله من السرديات والأخبار في
الثقافة «الجاهلية» الشفاهية. تشير هذه النصوص إلى أن عبادة الأصنام كانت
منتشرة انتشاراً واسعاً ًقبيل الإسلام، حتى أن أهل كلّ دار اتخذوا صنماً
يعبدونه. وقد جاء في كتاب (الأصنام) لـ ابن الكلبي، أن العرب اشتهروا
بعبادة الأصنام، (منهم من اتخذ بيتاً ومنهم من اتخذ صنماً ومن لم يقدر عليه
ولا على بناء البيت نصب حجراً أمام الحرم أو أمام غيره مما استحسن، ثم طاف
به طوافه بالبيت)(100).
يرسم لنا هذا النص سذاجة العربي
في انتقائه الحجر الذي يعبده ويقدسه، فكان الرجل «إذا سافر فنزل منزلاً
أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً، وجعل ثلاث اثافي لقدره، فاذا
ارتحل تركه، فإذا نزل منزلاً اخر فعل مثل ذلك»(101). وينقل لنا هذا النص
أيضاً إشارة بالغة الأهمية على ارتباط الرؤية الميثولوجية الجاهلية للحجر
بالأُضحية والذبح، إذ أن هذا النص يشير إلى أن الجاهليون كانوا «ينحرون
ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها»، وأشهر مؤلٓهات العرب قبل الإسلام من
الأصنام أربعة، هي
مناة و
اللات و
العزى و
هُبَل. كانت
مناة «صخرة منحوتة من الحجر على هيئة ومثال، ويشير ابن الكلبي إلى أنها كانت منصوبة على ساحل البحر بين مكة والمدينة، أما
اللات «فهي صخرة بيضاء مربعة عُبدت بالطائف وكان لها أستار وسدنة، وكانت ذات نقوش. وكانت
العزى «صنم أنثى منحوتة من حجر أبيض. أما
هبل «فكان حجراً أحمر، وقيل من عقيق أحمر، منحوت على هيئة إنسان مكسور اليد
اليمنى، أدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب، وهو على رأي اليعقوبي أول صنم
وضع بمكة.(102)
ورغم قداسة
مكة عند العرب قبل الإسلام، فلم تكن هي القبلة الوحيدة لديهم، فقد كان للعرب
كعبات عديدة أخرى تحج إليها في مواسم معينة، فتطوف بها وتقدم لها النذور
والأضاحي، ثم ترحل عنها بعد القيام بالمناسك المطلوبة، ويشير
الهمذاني في كتابه (الإكليل) أنه «قد كان للعرب بيوت تحجها ويعدد
اللات،
ذا الخلصة، و
كعبة نجران، و
كعبة شداد الأيادي…»(103)، وكذلك ذكر
ياقوت الحموي في (معجم البلدان) أن
أبرهة الأشرم «بنى على باب صنعاء كنيسة وأراد صرف العرب عن مكة إليها»(104).
وتشير العديد من الروايات إلى
أن الحجر الأسود كان من أهم معبودات قريش، وأنه يمثل بقايا صخر قديم كان
مقدساً عند قدماء الجاهلين، أن قريش اختصمت في الجاهلية على كيفية إعادة
الحجر الأسود إلى مكانه في الكعبة، وذلك بعد أن اجتمعت لتبنيها من
جديد(105)، وكذلك فإن مقام ابراهيم كان بدوره صخراً مقدساً قبل الإسلام،
وهذا ما يشير إليه النص القرآني نفسه ﴿واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى﴾(106).
السمات العامة التي يمكننا أن
نخرج منها عن كيفية التعاطي الميثولوجي للعرب الجاهلي مع الحجر، هي فقدان
الحجر لأي دلالة ما ورائية. إذاً لا يتجلى لنا الحجر هنا كشاهد على ميثاق
أو عهد مقدس تمَّ في الزمن الغابر بين المقدس والدنيوي، وهذا ما نتبينه من
انتفاء الطابع الشخصي لمعظم مؤلٓهات العرب المنحوتة من الحجر، إذ أن
الجاهلي في معظم الأحيان كان يعبد ما يروق له من الحجارة تبعاً لما يستحسنه
من أشكالها أو ألوانها بذوقه البدائي وفطرته الساذجة. إذاً الحجر في
الثقافة الجاهلية ليس شاهداً على تاريخ مقدس، وهو لا يختزن في أعماقه عهداً
ولا يتضمن أي ميثاق، إلا إذا أوَّلنا عبادة الأصنام على أنها تجديد العهد
مع الآباء الأوائل (عبادة الأسلاف) الذين تحولوا مع الزمن إلى آلهة تُعبَد.
5) ميثولوجية الحجر في الثقافـة الإسلاميةإن النظرة إلى مرتبة الحجر
ومكانته تخضع لتحول جوهري بالغ الأهمية مع الإسلام، اذ ان الإسلام وبالرغم
من تسفيهه لعبادة الأصنام ونعته إياها بأنها لا تضر ولا تنفع ﴿يدعوا من دون
الله ما لا يضره ولا ينفعه﴾(107)، وبالرغم من دعوته المتكررة للناس بأن لا
يدعوا مع الله أحد، نجده قد احتفظ بمكانة سامية للكعبة وبخاصة الحجر
الأسود والمقام، الذي تمت المحافظة عليهما مع تكسير الأصنام الأخرى التي
وجدت في الكعبة. القداسة التي يسبغها الإسلام على الكعبة تعود إلى زمان
مقدس نشأت فيه بفعل إلٓهي فقد جاء في القرآن ﴿أن أول بيت وُضع للناس للذي
ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات، مقام ابراهيم ومن دخله كان
آمناً﴾(108).
وتحفل السرديات الإسلامية
الكبرى بالروايات التي تحدثنا عن بدء خلق الكعبة. وكيفية اكتساب مكة
قدسيتها، فقد جاء في (معجم البلدان) «أن أول ما خلق الله في الأرض مكان
الكعبة، ثم دحى الأرض من تحتها فهي سرة الأرض ووسط الدنيا وأم القرى»(109)،
وجاء أيضاً في (أخبارمكة) لـ
الأزرقي «أن
آدم حين أُهبط إلى الأرض واشتّد حزنه، عزاه الله بخيمة من الجنة ووضعها له
بمكة في موضع الكعبة، وكذلك أنزل لها الركن كرسياً لـ آدم، وكانت الجن
والشياطين تسكن الأرض في ذلك الوقت، فحرس الملائكة لـ آدم خيمته. ومن أجل
الملائكة ومقامهم حُرّم الحرم حتى اليوم ووضعت أعلامه حيث كان مقام
الملائكة»(110). تخبرنا هذه السرديات في إطار آخر أن آدم، بعد دثور ما بنته
الملائكة، بنى هو الكعبة، فكان أول من أسس البيت وصلَّى وطاف به. ويحدثنا
الازرقي أيضاً «أنه في الجاهلية وبعد خراب البيت، أراد الناس أن يعيدوا بناءه من
جديد فقاموا بهدمه، حتى إذا انتهى بهم الهدم إلى أساس إبراهيم، وصلوا إلى
(حجاره الخُضر) كالأسنمة، وحينما أراد رجل من قريش اقتلاع أحدها، تحرك
الحجر وانتفضت مكة من أساسها فانتهوا عن ذلك الأساس»(111).
وقد اجمعت الروايات الإسلامية
على تقديس الحجر الأسود ومقام ابراهيم لأنهما في الأصل ـ كما جاء في كتاب
(تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس) لـ
الديار بكري «إنهما ياقوتتان في يواقيت الجنة طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب» وكذلك رُوي عن
ابن عباس أنه «ليس في الأرض شيء من الجنة إلا الركن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان
من جواهر الجنة، ولولا ما مسهما من أهل الشرك، ما مسها ذو عاهة إلا شفاه
الله»(112).
وفي هذا السياق يرد حول النبي لزوجه
عائشة أنه (لولا ما طبع على هذا الحجر من أرجاس الجاهلية وأنجاسها لاستشفى به كل ذي عاهة [...] وأنه لياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة)(113).
نستخلص من هذه النصوص، أن الحجر
يغادر طابعه الوثني الذي دُمغ به في الجاهلية، لأنه هنا لم يعد ينتمي،
كعنصر، إلى الطبيعة المادية القاسية في شبه الجزيرة العربية بل أصبح
مشحوناً بالقدسية نتيجة ارتباطه بزمان مفارق مقدس ونتيجة لظهوره إلى الوجود
تبعاً لدخول المتعالي في التاريخ. إذاً فهو يغادر مشروطيته المادية ليغدو
شاهداً على زمان أولي تمَّ فيه التقاء المقدس بالدنيوي. فلم يعد الحجر
مقدساً بذاته، بل أصبحت قدسيته تكمن خارجه، قدسية معنى عوضاً لا قدسية شيء.
هنا يتجلى الإنزياح الميثولوجي من مجال طبيعي محايد إلى إطار دلالي مفارق
وهذا الإطار الدلالي المفارق يزداد تعمقاً وتجذراً في النصوص الإسلامية حين
يتم التعاطي مع الحجر كشاهد على ميثاق وعهد تمَّ في الأزل بين الإلٓه وبني
آدم، وهو ما ينقله لنا القرآن في سورة الأعراف ﴿وإذا أخذ ربك من بني آدم
من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم، ألستُ بربكم قالوا بلا شهدنا﴾(114).
للحجر الأسود مكانة أولية في
الإسلام (فهو يمين الله في الأرض ومن لم يدرك بيعة النبي وتمسح به فقد بايع
الله ورسوله)(115)، (فالحجر يشهد لمن وافاه بالموافاة)(116)، لأن الله
عندما أخذ ميثاق بني آدم دعا الحجر فأمره بإلتقامه. وفي رواية أخرى تتبلور
فيها بوضوح قضية الميثاق وتجديد العهد يأتي أن (الحجر الأسود جوهرة أُخرجت
من الجنة ووضع مكانه لعلّة الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم فتراءى لهم
الحجر في مكانه [...] فاستلام الحجر لعلّة تجديد العهد والميثاق والبيعة
[...] فلما عصى آدم ربه أنساه الله العهد والميثاق)(117) فصار لزاماً على
الخلق أن يجددوا في كل سنة الإقرار بهذا الميثاق واستذكار العهد، وهذا ما
يتم خلال طقس الحج الذي يبدأ فيه الطواف باستلام الحجر الأسود. كذلك يوجد
في السرديات الإسلامية تعليل آخر لوجود الكعبة نفسها يرده إلى (أن الله جعل
البيت الحرام حذو الضُراح، أي البيت المعمور في السماء والذي وُجد أصلاً
لتكفير الملائكة عن معصيتهم التي نجمت عن اعتراضهم على خلق آدم، مما استوجب
عليهم، بعد أن لاذوا بالعرش، أن يطوفوا سبع مرات حول الضُراح، فلما كانت
معصية آدم، جعل البيت الحرام على نمط الضراح توبة لمن أذنب من بني
آدم)(118).
وهنا ما يعلل لنا حيثية بدء
الحج باستلام الحجر وتقبيله والسجود له ثلاثاً والطواف حوله سبعاً، فالمسلم
هنا لا يؤدي طقساً وثنياً لأن المقصود، بعد أن «نسخ» الإسلام إلى حد كبير
ثقافة الجاهلية الوثنية، ليس أداء طقوس التقديس والإحترام والإجلال للحجر
بل ما يقصد هنا هو تجديد العهد والميثاق الذي تمَّ نسيانه من قبل الناس بعد
خطيئة
آدم الأولى.
إذاً البدء بالحجر هو تخطي
الكائن البشري لغفلته بعد السقوط، وهو كسر النسيان وتجاوز للمكان والزمان
الراهنين عبر الانخراط في تجربة دينية تُعيد استحضار الزمن الأولي الذي
تمَّ فيه الحدث المقدس لأول مرة، إن لجهة تقبيل الحجر الذي هو شاهد على
الميثاق، أو لجهة الطواف سبع مرات لمحاكاة الطراز لنموذجي، النموذج
المثالي، والطقس الأولي الذي ظهر إلى الوجود لأول مرة من خلال طواف
الملائكة حول البيت المعمور(119) تظهر لنا ثقافة الحجر في الإسلام نزعته
الاختزالية التوحيدية، التي تفضي إلى نزعة بالغة التمركز، فبعد ان وحد
الإسلام جميع الالٓهة في إلٓه واحد، نجد أن المقدس يختزل بدوره لتتَّضح
معالمه أكثر فأكثر من خلال تعين حدوده تبعاً لمدى الاقتراب أو الابتعاد عن
المركز الأساسي لتجلّى المقدس وهو الحجر الأسود، فإذا كان المقدس بتعريف
دوركايم هو ما يحميه الممنوع ويعزله، أما الدنيوي فهو ما يطبق عليه الممنوع وما
يجب أن يظلّ بعيداً عن المقدس(120). فإنه يصبح للإحرام ـ وهو طقس أساسي في
الحج ـ دلالة بالغة الأهمية، لأنه يأتي كخطوة ضرورية لاستلام الحجر، وهذا
إن دلَّ على شيء، فهو يدل على أن الإنسان الذي يتمتع بمباهج الحياة يجب
عليه التخلي عنها في الإحرام قبل ان يستطيع تجديد العهد مع الله، من خلال
إستلامه الحجر الأسود، ولما كانت فريضة الحج بطقوسها وشعائرها تشكل بُنية
تامة، فإن الحجر يمثل بدوره البؤرة البنيوية لهذه الفريضة والتي تشد إليها
مختلف العناصر التي تكتسب موقعها في هذه البنية من خلال تراتبية القرب
والبعدا، التقديم والتأخير عن الحجر. الاقتراب من المقدس يتم عن طريق
الطواف الذي يشكل الحجر بؤرته. هذا هو الطواف الذي هو خطوة ثلاثية الإيقاع
تبدأ بطواف القدوم لحظة استلام الحجر ليأتي بعدها طواف الإفاضة والتي تشكل
الخطوات السابقة عليه من رجم ونحر وتقصير مقدمه له لتكون في النهاية امام
طواف وداع. وتتبدى الأهمية البالغة لطواف الإفاضة في التحريم الذي يقضي
بعدم حُلِّية النساء إلى الأبد على من لم يقم به، ويمكننا ـ على سبيل
التأويل ـ أن نرى أن الحاج الذي لم يقم بطواف الإفاضة يكون امتنع عن تجديد
العهد بعد عودته للتمتع بمباهج الحياة، ولأنه بعد أن يحلُّ لأول مرة تحلّ
له كل المحرمات إلا التمتع بالنساء، الذي لا يحلَّ له إلا بطواف الإفاضة،
وهذا قد يشير من قريب أو بعيد إلى إحد التفسيرات التي ترجع إن خروج آدم من
الجنة هو نتيجة لاتصاله الجنسي مع حواء مما نجم عنه خرق الميثاق الذي ينبغي
عليه أن يجدده قبل أن يحل له التمتع بنتيجة خطيئته.
الثلاثاء أكتوبر 23, 2012 2:21 pm من طرف متوكل