** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 في الذات الحي بعد كل تفكيك مطاع صفدي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هذا الكتاب
فريق العمـــــل *****
هذا الكتاب


عدد الرسائل : 1296

الموقع : لب الكلمة
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

في الذات الحي بعد كل تفكيك  مطاع صفدي Empty
27092012
مُساهمةفي الذات الحي بعد كل تفكيك مطاع صفدي

في الذات الحي بعد كل تفكيك

مطاع صفدي

قاست تاريخانية الذات –غربياً
على الأقل- من تصعيدها نحو الذاتوية، كل تراجيديات المركزية الأحادية التي
شكلت خارطة المشروع الثقافي الغربي خلال القرنين الماضيين بصورة خاصة. وها
هي اليوم قد تقاسي أكثر وهي تهبط السلم عينه الذي صعدته، مفارِقةً عرش
الذاتوية نزولاً نحو مجرد ذات. فلن تكون معرضة لخسارة ما اكتسبته إبان
ارتحالات التصعيد والتجنيح فحسب، بل عليها كذلك أن تدفع أثمان ماضيها ذاك.

تحاول الذات، بعد أن فقدت
إطلاقيات الذاتوية، التعويض عنها بإحياء مفهوم الإنسان مجدداً، بعد أن كاد
يتلاشى مع غياب مفردات (الأنوار) وتجاوز حماساتها الأولى خلال تحقيب
الشخصية الغربية، وقطيعاتها المتتابعة مع تكوينات الدولة القومية،
وانخراطها في صراعات القوة والربح فيما بين وحداتها المتطورة. إذن يغدو
الإنسان هو السعيد الجديد الذي راحت تتكنّى به أهم فلسفات العصر تحت وطأة
الغلبة الفكرية لتيارات التغيير الاجتماعي المتأثرة غالباً بالماركسية. هذا
ضداً على النزعات العنصرية التي جسدت عملياً وسياسياً المحصّلة التاريخية
لمغامرات الذاتوية على الصعيد الفلسفي ومن ثم على الصعيد الاستراتيجي
الحضاري.

هكذا يظل (الإنسان) بمثابة
المفهوم المرجعي الذي يلجأ إليه المفكر كلما اشتد اختطافه إلى ساحات متطفلة
على حدوده الأصلية. هذا لا يعني بالطبع أن الإنسان كمفهوم يمكنه أن ينجو
دائماً من عين الاختطافات التي تعرض لها تاريخ الذات، وخاصة عندما يتم
تصريفه من خلال مفردات السياسة الدولتية أو اليومية. من هنا كان لا بد من
لحظة تمعين وإعادة تمعين للفظ، والكشف عن براءته المفهومية ما فوق كل
التوظيفات البراغماتية التي تتقاذفه من كل جهة. فليست تداوليات النزعة الإنسانية
مخلصة لثقافة الإنسان باعتباره معياراً لذاته، دائماً.فإن ألفاظه وأسماءه
ومشتقاته هي من الشيوع والعمومية، بحيث يغدو الإنسان عينه محتاجاً لإعادة
تعريفه بعد كل استخدام لمفرداته، كخصائص أو كدلالات. فحالات التحريف التي
تعتري الإنسان من خلال استخداماته اليومية اللامتناهية للأشياء والمفاهيم
لا علاقة لها بكون أن للإنسان تعريفاً فلسفياً لامتناهياً أبداً. هذا ما
يجعلنا نلج المدخل الآخر الذي نقصده بدئياً لاستئناف حوارٍ مع هذا التعريف
الذي ربما لا نهاية لمعرفته في المحصلة.

كل دالة عن الإنسان تكشف عما لا
يزال ينقصها كدالة عن الإنسان. ليست المسألة في غنى لامتناه لمفهومه، بقدر
ما هي في هذا الانكشاف الشاسع للإنسان أمام صدف الوجود. وفي الآن عينه ليس
هذا الانكشاف ليعبِّر عن ماهية الإنسان، بل إنه البرهان المباشر عن انفقاد
الماهية. يكفي الانكشاف أن يكون دليل الفقْد حتى تكون هناك ماهية أبعد،
ينبغي الجرْيُ وراءها. هذا الجرْيُ يصير بدوره غاية في ذاته، لأنه في
الواقع هو جري وراء مجهول لا يمكن تحديده قبل مواجهته. وحين نصل إلى
المواجهة فما يدرينا حقاً أننا بلغنا نهاية المطاف. لهذا تبقى عبارة
الانكشاف أمام صدف الوجود، أشبه بمشروع تعريف لا يتم. لكنه قد يحدد هذه
العلاقة البدئية بين حال الانكشاف وصُدَف الوجود؛ كما قال هيراقليط في أحد
مقاطعه: “إنني باحث عني أنا نفسي” والمقصود أنه باحث عن ماهيته كإنسان وليس
كفرد. فليس الفرد سوى حقْل تجربةٍ مكشوفٍ على صُدَف الوجود التي قد تسمح
له باستطلاع الإنسان كما يتصوره أو يتوق إليه، أو ينشبك معه بجدلية الرفض
أو القبول. فأن يكون الفردُ ذاتَه، كأنما يكون الإنسانَ الذي يظل يتخطاه
مهما تقرّب الفردُ منه. وبالتالي مثلما يكون الفرد حقلَ تجارب مكشوفاً على
صدف الوجود، كذلك يصير الإنسان محطّ المعايير. إنه الاسم الكلي الذي لا
يمكن الاتصال به إلا عن طريق مفرداته. والكلي عبَّر عنه اليونانُ بأنه
إشارة اللوغوس، أو أنه هو اللوغوس عندما تلتقي عنده جميع الكليات أو تصدر
عنه.

الفرد قد يكون موضوع تحليلٍ تغطيِّه علوم كثيرة. لكن الإنسان
–بالحرف الكبير- يتحدى الفكر بأسئلة لا تنتظر أجوبتها الحاسمة. كل جواب هو
مفترقُ طُرقٍ. والاختيارُ فيما بينها أشبه بضربة نرد أو حظّ، أكثر منه
نتاجَ قرارٍ معلَّل بأسبابه الكافية. فليس الفرد هو إنسانه دائماً، كما أن
الذات ليس هو عينه تحت طائلة أية مساءلة عادية أو تراجيدية. هذه الأسماء
الثلاثة ليست مترادفات. وقد تصبُّ على تمعين، يُفترض أنه واحد، لكن لكل اسم
طريقته الخاصة في الاتصال به؛ إلى درجة أن ما كان تمعيناً أحادياً قد
يغادر خاصيته تلك، أو يصير من نوع الجوهر الذي لا تختصره أعراضه مهما دقّت
واتضحت معالمها.

الفكر اليوناني في فجره اعتقد
أن الإنسان، هو ما به يتصل اللوغوس بالعالم ويُعقْلنه. ليس الإنسان محل
اللوغوس. لكنه من دونه لن يكون للوغوس ثمة حضور ما في العالم. كما أنه ليس
للفرد حضور بالنسبة لذاته إلا بقدر ما يحمل إشارة الإنسان. أما الذات فلم
يُعِرْهُ الفكرُ اليوناني أيَّ اهتمام خاص، سوى أنه تعبير آخر عن الأنا.
وعلى هذا يمكن الاعتبار أن الذات اختراع حديث. ولعله يخصّ المشروع الثقافي
الغربي، حيثما يزدهر الذات مع حقبة الانتشار الأوروبي، ويشكَّل نموذج الأمة
الدولة.

كان الفيلسوف اليوناني عندما
يخاطب مستمعيه، يطالبهم ألا يصغوا إليه، بل ينتبهوا إلى صوت اللوغوس. كما
أعلن ذلك بكل وضوح هيراقليط –في المقطع الخمسين من قصيدة الكون- فاللوغوس
هو الواحد الذي تتلاقى عنده كل العقول، كما الأشياء. والفَرْدَنة ليست لها
قيمة في ذراتها -أفرادها- إلا بقدر ما تكشف الذرة عن انضمامها إلى الوحدة
الأصلية. ذلك هو تفسيرٌ أو تأويلٌ هيدغري يهدف إلى تبرئة المرحلة السابقة
على الأفلاطونية من أية لوثة بالذاتوية. لكن الأفلاطونية هي التي جاءت
بمصير الكارثة إلى الفكر الذي سيُنْعت مستقبلاً بفكر الغرب. إنها كارثة
الذاتوية الحالَّة مع استدخال الروح كجوهر خفي؛ وعلى الفرد أن يقضي حياته
باستكناه أسراره.

إن اللوغوس أو مفهوم
الألتيخياL’altéthéïa لا يتوافق مع مركزة الذات حول نفسه. ذلك أن اللوغوس
هو محلّ الفهم المشترك. إنه العقلانية التواصلية بمعناها الحديث. لكنها
تزيد عليها بكون اللوغوس هو عقلانية سابقة على فعل التعقيل عينه، والتي
بدونها لا يمكن لشيء أن يكون معقولاً. وقد يمكن لأقنوم الإنسانية أن يمنحه،
أي اللوغوس أو الألتيخيا، ثمة تجسيداً مباشراً عائداً إلى تداولية المفهمة
اليومية. فالإنسان هو الموجود قَبْلياً بطريقة ما، تتيح لصدفة الفرد أن
تكتسب ثمة معقولية؛ ثم إن الفرد لا ينتمي إلى نفسه، بقدر ما يحيل وجوده على
الوجود الأصلي الذي هو الإنسان. بما يعني أن الإنسان يتمتع بوجود معياري،
يقاس بالنسبة إليه بقية الأفراد. فلن يكون الفرد ذاته إلا بما يبديه من شبه
بـ- الإنسان. شبْهٌ يتوق إلى التطابق مع الأصل لكن من
دون أن يفوز به تماماً أو كلياً. فيظل الفرد في حال ضياع عن نفسه، إلى أن
يجد نفسه تتحد بما يتجاوزها. فالانفتاح على الآخر هو طريق التواصل مع
الإنسان الذي يجمعهما –الفرد والآخر- وينتميان هما إليه معاً، أو وفق إيقاع
من معاناة الاعتراف المتبادل بينهما. فالإنسان هو اللامرئي الذي يجعلنا
نرى, وما نراه هو ما يظهر. كأن العين لا تنظر إلا وهي في انتظار النظرة
الأخرى التي تلتقي معها. ذلك أن النظرة ليست هي الكاشفة، ولا هي الباحثة عن
النظرة الأخرى فحسب، لكنها هي التي تجعل المنظور يُلمح بجوهره.

حتى أن أفلاطون رأى أن الكون
–الوجود هو نظرةٌ ووجهٌ. فالتعريف المبدئي للوجود هو هذا الظهور المتفتح
إلى ما لا نهاية تحت النظر. إنه وجه العالم الذي نراه. والعين هي الحاسّة
الأولى التي تثبت وجود الشيء، إنها تراه. وهذا كاف لإثبات وجود الشيء بل
العالم. لكن ليس كل ما يظهر هو حقيقة. وقد علمتنا الأفلاطونية أن نحتقر
تقريباً الظاهر سعياً إلى كشف الباطن. في حين أن الكوجيتو الديكارتي لم
يتحصَّل على نقطة تعيين بذاته إلا بعد أن أن شكّك في كل معطيات الحواس، أي
الظواهر. إلا أنه فيما يعني رؤية العالم وما فيه، والأخص رؤية الإنسان فيه
يملأ جوانبه، فإنها لا تقدم لنا مجرد وثوق عفوي فحسب أو سطحي، أو خادع
ومضلل؛ بل إنه العالم المحيط، أو هذا الفضاء الذي أُوجد أنا في أصغر رقعة
من امتداده، كما يوجد كل الآخرين الذين لا أعرفهم؛ لكنني على ثقة بأنهم
موجودون، ولهم حيواتهم الخاصة… في المُحصَّلة إنه العالم الذي يسكنه
الإنسان. وسواء كانت سكناه شعرية أو وحشية، فإنه يبدو سيّد العالم. والعجيب
إنه السيد الذي يدّعي كلُّ أحد صِلَةً به مطالباً الآخر بالاعتراف به، بما
يحقق كذلك اعترافاً متبادلاً بين أحد وأحد. فالتعارف البينيّ الفردي يفترض
انتماء قَبْلياً مشتركاً للواحد الذي يتمفرد كلُّ أحد
بالنسبة إليه. قولي عن صديق: إنه إنسان رائع، قد يحرره من مفرده للحظة
ليجعله معرّفاً بذلك الإنسان الرائع الذي يصير إليه. لكن إذا كان ذلك
الواحد، الإنسان، غير موجود، ولا يتمتع إلا بنوع من الوجود أو الافتراض
المعياري، فهذا لا يقرِّبه من فكرة المُثل الأفلاطونية إلا من وجهة شكلية
خالصة. هذا لا يفرض على الفكر الحداثوي أن يفصل بنيوياً بين المَثَل
ومفرداته –لا يُقْسرنا على منح المثل كل القيمة والوجود، وحرمان مفرداته
منها.

السؤال الحداثوي قد يقلب
المعادلة الأفلاطونية رأساً على عقب. فالإنسان ليس تكويناً نهائياً؛
ومفرداته -أفراده- محكومة بالنقص حتى لو راحت تتشبَّهُ به وتلاحقه كيفما
كان ويكون ويتبدَّى. المفردة هي الموجودة كأحد، وأما الواحد
فهو كائن رياضي محض، وقد يصير كائناً افتراضياً في فلسفة سياسية غير منجزة
بعد، على الرغم من الابتذال الجيوسياسي المتبنّي لمعزوفة الإنسان وحقوقه.
وحتى عندما تهدف نظرة تفاؤلية إلى أن تأتي باللوغوس اليوناني وتمنحه محلاً
واقعياً كمفهوم للإنسان، فإن علوم الأنتربولوجيا قد فتَّتت وحدةَ هذا
المفهوم وأحالته إلى مجرد أفاهيم نسبية، تتعلق بأنماط الحضارة وتشكيلاتها
الثقافوية المتنوعة بين الأقوام والشعوب، وصولاً إلى المدنيَّات الكبرى؛ ثم
تتدخل علوم الجينات والذكاء الاصطناعي لتحسم مرة واحدة كل النزاعات
الماهوية حول طبيعة الإنسان. إذ تغدو هذه (الطبيعة) قابلة لأن تكون منتوجاً
صناعياً أو افتراضياً، وليست قوةَ إنتاج مالكة لخصائصها الأبدية، كما
تخيَّلَتْها ثقافاتُ الماهيات الثابتة التي لا تزال تتحكم بالفضائين معاً:
الجيو فلسفي والجيوسياسي عالمياً لإنسانية العصر.

لكن هل حقاً يمكن التوحيد بين
مفهوم اللوغوس والعقل الإنساني، كما لو كانا وجهين لحقيقة واحدة، تفيد في
تثبيت ذلك التعريف الأزلي للإنسان كونه حيواناً ناطقاً. فاللوغوس ليس
ماهيةً أو جوهراً ثابتاً في الأصل. ورغم تقريبه من النطق، فإنه قد يمثل تلك اللغة التي لم تَحْكِ بعد.
أي اللغة الشاملة للأشياء والكاشفة لدلالاتها. وعلى هذا يظل اللوغوس أوسع
وأغنى من مفهوم العقل الأفلاطوني الذي تتحدد مهمته في اكتشاف الماهيات أو
صناعتها فحسب. فأين هو ذلك العقل الذي يسبق صناعة الماهيات، أو يتبقّى
بعدها. ههنا يمكن تحديث اللوغوس بإعادة تعريفه، كونُه اللغةَ غيرَ
المتكلَّمة بعد. فهو إذن ما يجعل وجود اللغة ممكناً، لكن دون أن تستوعبه
أيٌّ من اللغات. في الوقت الذي تأتي فيه اللغة إلى العالم، فإنها تأتي معها
بالمعرفة والقيمة والمدنية والإبداع؛ يصير اللوغوس جسداً معرفياً حداثياً.

لا تسكن الألتيخيا عالماً
فوقياً، في الفكر الهليني. إنها لا تعثر على مكانها إلاّ حيثما ينجز
الإنسسان بناء عالمه، أي ذلك العالم الذي يعكس صورته. ولكن التاريخ
إنما ينبني من ذلك الفارق، غير القابل للإلغاء النهائي، ما بين متغيِّرات
ما يعرفه الإنسان عن صورته في-ذاته، وما يراه من اختلاف صورته المنعكسة على
العالم. فالعقلانية ليست خارج الحدث؛ لا يقيم الحدث بالنسبة لها، كما لو
كانت هي تسكن عالماً أعلى سكونياً لا يريم. فالحدث ليس هو كذلك إلاّ لأن
هناك عقلاً ما يعيّنه على أنه كذلك. أي أن الإنسان كما هو مُحْدث التغيير
فإنه الشاهد الوحيد عليه. لقد قيل دائماً أن رؤية اليوناني للوغوس، لمكان
الألتيخيا، تظل رؤية سكونية لما هو موطن السكون، أو تلك الحالة من تطابق
الماهيات مع ذاتها دون أي وسيط غريب عليها، في عالم من (الملأ الأعلى)، كما
سيتصوره الدين فيما بعد.

ما كان يفهمه الفيلسوف الإغريقي لمرحلة ما قبل السقراطية، عن عقلانية اللوغوس، يمكن الاصطلاح عليه من خلال عبارة الفكر بما يرجع إلى ذاته.
فهو اللغة غير المنطوقة السابقة على اللغة، ولكنها هي الراعية لها. ولقد
ميز هيراقليط بين لوغوس عائد إلى الإنسان واللوغوس الأصلي الذي هو الكينونة
عينها. ويتكشَّف اللوغوس الأصلي بالنسبة للإنسان عبر تجليات الطبيعة،
بمعناها الكوني Phusis، كما في جوهر الأخلاقEthos ، والمدينة Polis. كأنما
كلُّ هذه المساحات الدلالية لها سكناها الأصلي (ماهوياً) فيما قبل اللغوي؛
وعلى اللغوي أن يتعامل معها، بقدر ما ينزع التداول اللساني (الحوار) إلى
اكتناه المعنى. تلك هي وظيفة الحكمة الإغريقية بالأمس. وقد يمكن أن تتقرب
منها الحكمة الحداثوية في سعيها إلى الالتقاء بالفكر الذي بما هو في ذاته.
ولقد حاولت الفينومينولوجيا بناء المنهج الذي يعيد التنبّه إلى اللامفكر
فيه؛ فالايبوخيه Epoché. أي (تعليق الحكم)، ليس سوى الأسلوب المنطقي
الأنطولوجي لاستعادة براءة الأفكار والأشياء، بتخليصها من كل ما يلحق بها
من طفيليات الأحكام الأَنَوية المتسرعة، والاستقطابات المصلحية، والتأويلات
المغلوطة الطارئة.

هنالك تطلّع دائم نحو بلوغ
الفكر بما هو عيْنه، أي كونه لا يحتاج إلى سواه فيما يستكْنه ويتمعن. ليس
هو الباحث عن الحق، لأنه هو الحق فحسب؛ ولكن كل الإشكالية هي فيما يلغي كل
مسافة بين الفكر والحق. إنها المسافة الملأى بالطفيليات من أشباه الأفكار،
ومن أشباه الحقائق. والفلسفي المحض هو الذي يعيد، من عصر إلى آخر، تجسيدَ
هذا التطلع الموصوف بالأنطولوجي، نحو ذلك (الشيء) الأحق من كل الأشياء، نحو
الفكرة التي ليس لها من معيار إلاّ ذاتها. لكن يقرُّ الفلسفيُّ المحضُ أن المتحقق في السعي إلى مثل هذه الفكرة، هو السعي نفسه تحت طائلة
الفكرة، وليس في القبض عليها نهائياً. فإن استيعابها قد يعادل انقضاءها.
كل ما تخلّفه وراءَها هو الحضُّ على استئناف السعي إلى ما هو أحقّ منها،
إلى ما هو أكثر تفكيرياً منها.

وقد توسّل الفلسفيُّ المحض، في
ممارسته لهذا السعي، بأسلوبين من المفهمة، تارة يكون محلّها هو الذات،
وتارة أخرى هو الإنسان. فهما متكاملان بقدر ما هما متخالفان. فيبدو مثلاً
أن السِّعَةَ المفهومية للإنسان تحتمل معها الذات وما سواه. بينما يتحصَّنُ
الذاتُ بموقع الآمرية في أفعال الوجود أكثر منه بأفعال التقييم، تلك التي
تنتشر عبرها ملامح الإنسان. على أنه ينبغي عدم التشبث بهذا التمييز؛ فقد
يكون تصنيفاً مدرسياً أكثر منه تمعيناً واقعياً. ومع ذلك يمكن الاهتداء به
خاصة فيما يتعلق بالمضمون الحقوقي الذي انتهى إليه اسم الإنسان كأقنوم، أو
براديغم أخلاقي سياسي محوري للحياة المدنية المعاصرة.

في الأصل يكون انبثاق الذات
كفعل أنطولوجي رداً على جزافية العالم. الذات نقطة ارتكاز الكائن في خضم
من متاهات الأشياء والآفاق وكل الأشباه الآخرين. إنه بقعة المواطنة الخاصة،
الآمنة نسبياً، حيثما كل صنوف غوائل الغربة والتهديد تعصف بالفرد من حوله،
وتُشَرِّده عن سكناه الأصلي. الذات يلملم اسمَه، صاحبَه، من البعثرة خارج
عباءته. هنالك رحلةً شاقةً للذات، عبر تكوينه المتعارض مع مجهول العالم من
حوله؛ ولا بُدّ له أن يكررها مختلفةً كلَّ مرة؛ كيما يستعيد فيها الإنسان
صفاء رؤيته لمفهومه؛ بما يعني أن الإنسان لا يتمكن من بلوغ عرشه في قمة
القيم الاعتبارية، إلا بعد كل جولة جديدة من درامية الجدلية الأنطولوجية مع
ذاكرة الذات. كما لو أن الإنسان كمفهوم، ليس سوى لحظة سلام موقتة مع توأمه
الآخر المشاكس، الذات، الذي لا ينفك منفصلاً عنه؛ ومع ذلك ليس للإنسان من
ذخيرة مفهومية سوى ما يستمدها من وجود الذات. أو هكذا
الأمر على الأقل، كما يحلو للذات أن يصور علاقته الالتباسية مع الإنسان.
فلا يكاد يحلّ أحدُ الأقنومين محلَّ الآخر، ولا يبدو أن التكامل بينهما هو
من طبيعة الحدس على مستوى الحس المباشر، مثلما تقدّمه التجربةُ اليومية؛ إذ
يظل الذات منزاحاً، متشبثاً بموقع المرجعية بالنسبة لكل ما يضاف عليه من
تصنيفات، لا يمكن أن تكون إلا من طبيعة معيارية، بينما يتشبّث الذات بطبيعة
أنطولوجية إفتراضاً.

إن التعريف الإغريقي للإنسان
رأى فيه كائناً ناطقاً، أي متمتعاً بالعقل. هذه الصياغة التعريفية يمكن
قلبها إلى عبارة شرطية أنطولوجياً كما يلي: لن يصير الكائن إنساناً إلا إذا
كان عاقلاً. حول هذه النقطة يمكن للذات الادعاء أنه هو وحده الكائن الذي
يسبق كل الشروط. إنه الكائن الأصل الذي لا ينتظر تمعيناً أو تخصيصاً من أحد
سواه. إنه هو ما يكون. وأما الإنسان فإنه هو ما يجب أن يكون عليه الذات-أو أن يصير إليه.

ذاتوية المشروع الثقافي الغربي
أعفت نفسها من هذا التكليف، دون أن تستغني عن استثماره عبر شتى تحقيباتها
المعرفية، فيكون الإنسان بالنسبة لها، تارةً هو قناعها المفضل في مسار
تجسيدها لأولوياتها حسب تقدير مصالحها، وفرضها كالمحرك المحوري لجدلية
التاريخ؛ وتارة أخرى تضطر إلى وضع جاهزيتها الوجودية تحت طائلة إنسانوية
تتكلم ثقافة الحق كشرط لمشروعية المحايثة. لكن بالرغم من تكوّن أقنومية الذاتوية
(المطلقة) كإيديولوجيا مرآوية خلّف كل النزعات المثالية وتفريعاتها، منذ
أواسط القرن التاسع عشر، فقد استطاع الذات التخلّص من عبء ذلك التراث،
عائداً إلى ممارسة مفهوميته الأصلية باعتباره قائماً بوظيفة الانزياح
الأنطولوجي بين الكوني الكلي والجزئي. كما لو أن الذات يقف على حدِّ
العالم، منشغلاً بتشيكلات انزياحه الخاص بالنسبة لكليانية العالم، لكن، ومن
موقع المحايثة لها وفيها معاً.

لعلَّ هذا الانزياح
هو المنوط به أن يتمكن مفهوم الإنسان من استرداد الراية. وفي هذه الحالة
لن يكون مجرد إضافة اعتبارية أو معيارية على (أُسّية) الذات، بقدر ما سوف
يساهم في قلب العلاقة معه: إذ يغدو التعامل مع ثقافة المفهوم الإنساني هو
الطريقة الوحيدة المعرفية، في تمكين انزياح الذات؛ بدلاً من تَسَمُّرِه على
(حدّ) العالم، فإنه يغدو من نتاج صيرورته هو عالمياً، في عين اللحظة التي
تمسي فيه حدثيات الصيرورة هذه قابلة لتسميات الإنسان بألفاظه، بلغته عينها.
أي أن انزياح الذات ليس فاصلاً لا يُعبر؛ وليس من مهمته فحسب أن يحقق نوع
التمفصل بين الجزئي والكلي، بين الأنا والعالم. وهو ذلك التمفصل الذي كان
ولا يزال يُساء استثمارُه ثقافوياً سياسوياً. فيتحول تحت وطأة هذا
الاستثمار التحريفي إلى جدلية استئثار بموقع القوة المطلقة، مقصورةً عليه
ضداً على آخر، مُخضّعٍ للتشيِّؤ والاستخدام.

يعتقد الذات، وهو على طريق
تطلعه إلى الإنسان الذي يريد أن يكونه، أنه قادر على أن ينزع عن العالم
وحشته. يساهم في تحييد عدوانيته؛ وذلك بقدر ما يتحرر هو من توجسه من كل ما
هو خارج إرادته. فإن أنسنة العالم تبدأ بأنسنة الذات لذاته،
يكون الذات كالهاوية التي تمتص صاحبها إلى ما لا قرار له. صَمْتُ الذاتِ
ليس صمماً عن سماع صخب العالم، بل هو انتظار الكلام الذي هو الدليل على
وجود الآخر. إذ تبدأ فرص أنسنة الذات من اللحظة التي تتمكن فيها تاريخانية
الفكر من إلغاء ذلك الوضع التعسفي الوهمي الذي يفترض أنه لا انقيام للذات
إلا في مواجهة العالم. هذا الطرح التقابلي الاستقطابي كان دائماً هو العلّة
لانفصام المحايثة عن الكونية، تحت طائلة ألا يكون (الواحد) إلا بانتفاء (الآخر).
فليست هي مناهج الجدليات على تعددها المسقطة ما بين الحدَّين المرشحة
لقراءة العلاقة بينهما، ومن ثم تعيينها، فالذات والعالم ليسا قَبْلياً،
متعارضين أو متكاملين فيما بينهما. كأنهما حدَّان هابطان من علياء تجريد
كوني –من (الكون)- ليلتقيا في سياق محايثة لاتاريخانية. أحدهما يفاجئ الآخر
بما لا ينتظره منه أو يعرفه عنه. إنه افتراض تصوري ذلك الذي يتعامل معهما
كما لو كانا مفهومين سابقين على لحظة اللقاء بينهما. وكل منهما له مجيئه
الخاص، بما لا يحتم الاّ يُفهم أحدهما إلا باستقلال عن الآخر.

إنه الانشغال الجيوفلسفي العريق
في قدمه، بمحورية الكلام عن عزلة الذات. شكّل التحفيز الماكر لتبرير
هجومية الذاتوية، على أنها الشرط الأنطولوجي للانفكاك من نير العزلة
العدمية، واختراق سدودها إلى ما يتجاوزها. بما يعني أن رفض العزلة واختراق
السدود، سوف يبرر اكتساح ما وراءها. فإن وضع الذات(مقابل) العالم هو بمثابة
إعلان الحرب عليه. وحين يكون الوضع في صيغة الأمر الميتافيزيقي الشامل،
فإنه يفرض خياراً من اثنين: إما المضي إلى قعر العزلة، وهذا هو الانسحاب من
العالم، حتى قبل التورط في أية معركة معه. أو الخيار الآخر وهو القبول
بالتحدي ورفْعه إلى الحدّ الأقصى، بحيث يتضاعف الذات بنفسه مقابلَه إلى ما
لا نهاية ليصير إلى الذاتوية المطلقة التي تغبُّ وَسَاعةَ العالم لتجعلها
موقوفة فحسب على إرادة العمران الذاتوي وهندسته الخاصة به.

إن احتواء العالم كله أو بعضه،
يريح الذاتوية من وعثاء الصراع، إذ تصير هي والعالم واحداً؛ وذلك بعد أن
أعادت تكوينه على صورتها. فلماذا الصراع.. ضد نفسها إذن. غير أنه ليس من
سلطةٍ أو قوة من دون مقاومة. فالذاتوية لا تعرف السلام حتى وإن حمل اسمها.
كلُّ حدّ (مضاد) يقوم في وجه الذاتوية يؤكد قوتها عبْر مقاومته لها. فإذا
كانت المقاومة تولد من القوة التي تعارضها، لكنها عليها أن تتجاوزها. إنها
تلك النتيجة الفجائية التي تتخطى علّتها أو سببها. فالتسلط ينتج القوة
الأخرى التي إن لم تدمره فإنها تساهم في خلخلته من داخله وتعجِّل بانهياره.
إنها المقاومة التي تنمِّي تناقضات الذاتوية المطلقة لتحيلها إلى نسبية
عند ذاتها، أي قابلة لحدوث انفراغات في كثافتها، قد تُقوِّضها من الداخل.

الذات – في – العالم، أو الذات –مقابل
– العالم: صيغتان تنازعتا الفكر الإنساني. وهما معاً يشكلان صورة الواقع
الراهن. الأولى تفترض علاقة تضايف أصلية بين الحدَّين تنفي كل انفصال
استباقي أو التحاقي لأحدهما بالنسبة للآخر. والصيغة الثانية لا يمكن أن
تقرّ بأحدهما إلا ضداً على الآخر. فأن يوجد الذات (في) العالم، هذا لا يعني
مجرد تحصيل حاصل لواقعة قائمة فحسب. لكن على هذه الواقعة يمكن إشادة ثقافة
فكر لا يكفّ عن التمعين فيما تتضمنه من إشارات يصحّ التعويل على فكّ
رموزها، وذلك من أجل طرح الإشكالية الأساسية حول علاقة التآخذ الدلالي بين
حديِّن، كالذات والعالم، لم يعد يمكن تأملهما وهما متناظران، بقدر ما هما
متعاصران، متآنيان، بقدر ما هما موجودان معاً. ووجودهما المَعَويّ ذاك يكاد
يكون واحداً. إلا أنَّ الواحد منهما لا يدخل على الثاني إلا مختلفاً.
بمعنى أن كلاًّ منهما إنما يأتي الآخر بما ليس فيه لينال منه ما يتوقعه منه
وما لا يتوقعه في آن.

فإذا كان الذات هو الناطق
الوحيد دون العالم الصامت، إلا أنه في نُطْقه ذاك يتحمل الذات مسؤولية ذاته
والعالم معاً. يتم التعبير عن هذه الحالة بفعالية الفهم. إذ لا يمكن للفهم أن يحقق وظيفته إلا بما يحمله إلى الذات مما لم يكن يملكه قبل عملية الفهم، وهو المعنى. من هنا يجيء تشارك الذات والعالم في صنع المعرفة. يقول الذات أنه يفهم
ما يرى، ما يسمع، ما يلمس، ما يفعل الغير إزاءه. إنه فهم إجرائي يمكن وصفه
كذلك أنه يتعلق بالموجود. أي أنه لا يمكن لعملية الفهم أن تتحقق دون أن
تشتغل على موضوع. ولن يكون الموضوع من طبيعة مجردة فحسب. أي أن الفهم لا
ينصبّ على الكلمات دون الأشياء. ذلك أن الفهم مقترن بالموجودين معاً:
الذات/العالم. إنه فهم موجودي لكل ما هو موجود. أولُ شروط الفهم أن يكون
موضوعه موجوداً، سواء على مستوى الكلمات أو الأشياء. والكلمة لا توجد إلا
إذا كانت إشارةً لدلالة ما. كما أن الشيء ليس له واقعٌ إلاَّ إذا تمَّ
استيعابه عبر الحواس. فالدلالة وحدها لا تعبر إلى المعنى إلا محفوفة
بدلالات أخرى، تشكل معها ما يُصطلح عليه لسانياً بالنص. فالذات لكي يكون
على صلة موجودية بالعالم لا بد له أن يعيد تشكيله عبر نصوص الكلمات
والأشياء. الذات ليس موزعاً بين الكلمات والأشياء. إنه يمنحهما معاً طريقة
وجودهما معاً. لا يقرأهما أو يكتبهما كنص، بل لأنه يجد نفسه هو كذلك كنص
بين نصوص أخرى؛ فإنه يعمد بالفهم إلى اختصار هذه النصوص كتفاصيل زائدة عن
اللزوم ما أن يفوز الفهم بالمعنى.

ليس المعنى صورة ذهنية. فالإنسان هو الكائن الذي يكلّم العالم، ويتكلم عن العالم. والمعنى يتلامح على نبرات هذا الكلام. فحين يكلّم العالم فإنه يحقق التواصل
معه. وحين يتكلم (عن) العالم فإنه يقوم بتمعينه. والفعاليتان: التواصل
والتمعين يشكلان سيرورة اللغة، وصيرورتها كلاماً وحالاتٍ موجوديةً بين
الأنا والآخر، بين المتكلمين بالألفاظ وأصواتها، وحتى بين الصامتين
المتكلِّمين بإشارات الصمت وحدها. لكن ليس التواصل والتمعين منفصلين أو
متفاصلين. إنهما يعملان معاً. وكلٌّ منهما لا وجود له بدون الآخر. وكل
منهما في ذاته إنما يرمز للآخر، حتى بدون غياب الآخر. ذلك ما يلقي بعضَ
الإنارة حول عبارة الذات (في) العالم. هذه الـ (في) تلفيظ موجودي، تقرير
لواقع منجز. والعبارة كلها: الذات (في) العالم، ليست إخبارية فحسب؛ فقد
تُشعر القائلَ أو السامعَ بأنها أشبه بحكم. وهي ليست بحكم قيمة معينة، ليست
قولاً معيارياً، ليست موضوع إثباتٍ أو نفي، ولا يرتفع هذا القول إلى مستوى
خطاب، بل يوفِّر الأساسَ الأنطولوجيَّ لكل الخطابات، لكل الأقوال
والأفعال. حتى أنه لا معنى لذات، لعالم، دون (وصلةٍ)، أو تواصل العلاقة
بينهما؛ حتى دون الوعي بها، لعلّ الفكر هو الذي يعيد طرح هذه العلاقة موضع
التساؤل. يجعلها تنزاح من حال البداهة والتلاؤم العضوي معها، إلى حال من
التأرجح بين الإلماح والتلغيز. والكلام هو مسرح كل لحظة لهذا الانزياح. إذ
يبقى أن جهدَ الكلام بل مقياسه، هو التعبير. وما يعنيه التعبير هو أن هناك
ما يحتاج إلى القول عنه. فما يسبق الكلام هو ما لا يعبّر عنه بعد. إنها
لحظة الحاجة إلى القول، كلحظة الحاجة إلى انزياح الذات عن صمتها البدئي دون
التخلي أو الانقطاع عن رحمه. فالذات قوَّالةٌ فعَّالةٌ. وهي من دون أن
تكون كذلك فليس لها ما يعنيها من العالم. وليس لها ما يعنيها من ذاتها
عينها.

من هنا يجيء التعريف التحلينفسي بكون الذات فراغاً. إنها لا شيء. لكنها اللاشيء الطامح لأن يكون شيئاً.
هذه الذات، لحظة الفراغ لا تُعرف أو تعرف هي نفسَها، إلا بما ستمتلئ به
فورياً من حالات التذويت. لكنها ليست فحسب، لحظةَ فراغٍ حركية، نازعةٍ إلى
أن تكون قوالة وفعالة فقط، بل جامحة كذلك للإنكار. إنها تفعّل عَدَمَها
فيما تخلقه أو تكوّنه عن ذاتها. ذلك أن التذويت صيرورة لا حراك لها بدون
فجوات الفراغ في سياقاتها. على ذلك تأتي النظرية القائلة بأن الذات مشروع
تكوين ناقص أبداً. وربما كان الأصح القول كذلك أن إشارة الذات هي مجرد
القصدية بدون قصد. ليس بمعنى أنها قصدية لا تعرف لها قصداً معيناً سلفاً،
بل بالأحرى إنها قصدية منزاحة عما تقصده دائماً. وكأنما (القصد) الذي تنتجه
لا يلبث أن يصير (عائقاً) أمامها لا بُدَّ من تجاوزه. من هنا يأخذ الموضوع
غالباً صفة الحاجز الذي يصدم، ولكنه يحرِّض كذلك.

ما تفعله الذات في العالم هو
أنها لا تكفّ عن معاناة غربتها فيه، بالإمعان في الكشف عن غرابته،
لُغْزيته. إنها مضطرة أن تفترضه هو العائق الأكبر، كيما تستمر في معاودة
اختراقه. مثل هذه النظرة باعثة على الهيمنة. إنها تفصم
بداهة العبارة البدئية: الذات في العالم. تعيد تفجير علاقةِ استقطابٍ بين
حدّيها، في حين ليس هو سوى التجريد وحده، المدّعي لمقدرة الانفصام كتبرير
للاستقطاب.

هنالك شبه تسليم ساد فلسفات
الثلث الأخير من القرن العشرين، في فرنسا خاصة، يكون الذات فيها ليس شيئاً
قبل أن تنخرط في عمليات التذويت. متأبّطةً عبْرها إشارةَ الكاوس
الأنطولوجي، الذي يحاول أن يمنحه فعلُ التذويت نظامَه العياني، بحيث يصير
ما هو ذاتي شبيهاً بالموضوعي. لكن ليس هذا هو ما تعنيه فكرةُ أن الإنسان هو
الذي يمنح العالم معناه، وبالتالي كأنه يعيد إنشاءه إنسانوياً. بالأحرى،
ذلك قد يُعيدنا إلى علاقة الهيمنة، إلى علاقة الفصم بين الذات والعالم، مع
منح الأفضلية (المعيارية) للحدّ الأول على الثاني، لأنه هو الفاعل والآخر
هو المفعول. إنه، كما لا يمكن تجاوز صيغة: الذات في العالم، كذلك فلا يمكن
ردُّها إلى أحد مكونيْها دون الآخر، ولا إلى ما هو مرجعي أكثر لأحدهما في
تأسيس للصيغة، سابق عليها. ذلك، أنها هي الصيغة القادرة وحدها على انتزاع
ثقافة الأنطولوجيا من سديمها الكاوّسي، وتفعيل انفتاحها على مشهديات الحياة
بما تحتمله من رموز الكونية، دون فصلها عن وقائعها اليومية. فلماذا الذات
إذن هي القوَّالة الفعَّالة، أليس لأنها في الأصل متورطة في صيغة وجودها
البدئيّ: الذات في العالم. فأقوالها وأفعالها جهود دائمة، في السعي إلى
الكشف عن التباسيةِ (الصيغة) هذه، عما يضيء بعض لمحاتها؛ فيُعَقْلِنُها
قليلاً، بما لا يفصل كلَّ لمعةِ ضوءٍ عن ظلها المحجوب وراءها.

ليس هناك مبدأ: العالم في ذاته، كما أسّس لذلك نقد العقل المحض؛
إلا إذا ما فُسِّرَ هذا المبدأ، كتنويه مادي بصورة كوسمولوجيا أكوانية،
مجهولة وبعيدة عن الإنسان وكونه الصغير المحدود. لكن ثمة تقليد فلسفي قديم
دائم الطرح حول أصل العالم، وهل هو قديم أو حادث، وما يتفرع عن ذلك من
أسئلة الميتافيزيقا الكلاسيكية، كما يعالجها قطباها الرئيسيان المادي
والروحي. ولكن بالطبع لم تُحسم أجوبةً نهائية لأيٍ من هذه الإشكاليات التي
اعْتُبِرَتْ في النهاية من طبيعة الفلسفة التأملية، غير المؤهلة أساساً
للإتيان بالبراهين التجريبية المحسوسة.

وهكذا يظل مفهوم العالم حتى كما
تتناوله الفلسفة الحديثة، والمعاصرة منها بخاصة، حاملاً لمفهومي الزمان
والمكان المرتبطين مباشرة بواقعية الوجود الإنساني. بل هما الدَّالة على
هذه الواقعية لكونهما هما المؤسسان لها سواء على مستوى التجسد أو الحضور
الحي. غير أنه إذا كان المكان هو أرض المحايثة المادية المباشرة، فإن
الزمان لا يبدو على هذه الصورة المجسمة والمالئة للحواس. الزمان موضوع
إشكالية أنطولوجية قبل أن يكون موضوعاً علمياً، ورياضياً تحديداً. هناك
تفرقة تقليدية بين الزمان (النفساني) والزمان الموضوعي. كلاهما يتفقان على
الصيرورة، لكنهما يتباينان أشد التباين في كل ما لهما من الخصائص الأخرى
المتعارضة فيما بينهما. فالإنسان موكول إليه وحده معاناة الزمن،
من حيث أنه السياق الذي تتأتى عبره أحوال النفس ومتغيراتها المختلفة من
جهة الداخل، أو الجوّاني الذاتي، كما أنه هو القائم بوظيفة التقاط أشياء
الواقع وأحداثه، من خلال تعددية المشاهد وتتابع الوقائع. فالقول المأثور
تقليدياً أنه مع الإنسان يدخل الزمان إلى العالم، كان يعني، قبل أن يعيد
هيدغر تمعينه تأسيسياً في صلب التحليل الوجوداني للدزاين، أن الإنسان هو
الكائن الوحيد المنوط به الشعور بالزمان أو إدراكه.

ههنا يصير للذات معنى الذاكرة؛
تلك الملكة المحدِّدة بدئياً بأبعاد الزمن الثلاثة، انطلاقاً دائماً من
الارتكاز إلى لحظة الحاضر، نحو الماقبل، أي الماضي، ونحو المابعد، أي
المستقبل. وقد يمكن لذلك التوزيع أن يتقاطع برّانيا جوانياً، فيكون للماضي
ما يمثله في مشهديات الواقع وحادثاته، ويكون للحاضر ارتكازاته من مشهديات
وحادثات أخرى، متسلسلة من الأولى أو مغايرة لها. وكل هذا الشريط من مشهديات
العالم، المنظورة عبر مساحة الحواس، يكون لها مايناظرها أو يتفاعل معها
وبها على مستوى الذات، من مكونات الذكريات وحصائلها من الانطباعات المنبثّة
كمادة للأحاسيس، فالتصورات، فالمعاني والمفاهيم؛ وهي بدورها المنتجة
لخُطاطات الأفعال وردودها الراهنة أو المؤجلة كمشاريع وآفاق لما سيفاجئ به
المستقبل. هذا البعد الثالث للزمن الذي لا ينطوي على مجهوله، أو لغزه
الأعمق فحسب، بل يفتح على رحابة ما يتمتع به الذات من الإمكان، ورحابة
الانتظار لما ليس موجوداً بعد، لتلك الذات الأخرى غير المفكَّر بها بعد.

قلما يتحرر الذات من (قانون)
التقاطع الحتمي بين برَّانية اللحظة وجوَّانيتها. فلا يقف الذات على حافة
الشارع العام. ولا على ضفة النهر المتدفق. إنه مقذوف به إلى حمأة الزحام من
كل ما يحدث ولا يحدث. ليس له توقيته في الساعة الكبرى المعلَّقة في ساحة
المدينة فوق رؤوس الجميع. ومع ذلك فإنه يتشبث بمُهْلَتِهِ، بخاصيّته. قد
يشعر، وهو تتقاذفه أمواج الخضمْ الهائج حوله أبداً، أن له جزيرته، تنتظره
بين دَفَقٍ حدثيّ وآخر. كأنما الذات، بقدر ما يحسّ أنه صنيعة ماضيه، إلا
أنه يعيش انتظار مستقبله. تجربته مع الزمن تحتضن معاناته الشخصية للانوجاد
والانقضاء. فالزمن هو الذي يأتي بلحظة الحاضر وهو الذي يذهب بها. سيولة
الزمن أشبه بسماع الصوت الذي تتوالى نَبرَاتُه، بحيث أن كل واحدة منها لا
تُسمع إلا بانقضاء ما سبقها، وهي عينها ستكون السابقة المنقضية لما بعدها.
فالعدم يخالط الوجود هنا، يأتي به ويزيحه. يصير الانقضاء تأسيسياً في
المثول. فما يسبق المثول أو يلحق به هو العدمي. ومع ذلك تنبني كينونة الذات
على إمكانيةٍ في ملء هذه الهُوَى، الفراغات، بين لحظات المثول المصابة
بالتقطع والتفاصل. هذه الإمكانية المتصورة في مدّ جسور الاتصال ما فوق
الفراغات العدمية، هي التي يعّول عليها الكلاسيكيون، من فلاسفة وعلماء نفس
وإناسة في توليد الشعور بالاستمرارية، واعتبارها الحجر الأساس لمقولة
الهوية الموجودية؛ أي بما يجعل الذات يشعر أنه لا يزال هو عينه. فليست
أحوال النفس، أو متغيرات أو معطيات الشعور، بحسب برغسون،
هي الباعثة على تأكيد وجود الحامل الواحد والمستمر لاختلافاتها، دون أن
يكون اختلافياً؛ أي يظل مساوياً لذاته دائماً. إن سيولة الزمان ليست هي
كذلك إلا لكونها متقطعة. وإن هذا التقطع لا يُبقي على أشلائها. ليست هي
كالأشياء المموضعة المنفصلة عن بعضها، ولكنها المتواجدة معاً تحت الحواس في
منظور المكان أمامي. الزمن يبتلع آناته. وهذا هو معنى أن وجوده هو في
انقضائه. فالذاكرة لا تحتفظ بالحادثة، ولكن بانطباعاتها أو آثارها. الحادثة
واقعة من حيث هي زائلة وبالعكس. لا تخلّف وراءها أيةَ نسخة عنها، ولا
شبحاً أو ظلاً لها. قد تترك آثاراً، ستغدو مصنوعة من مادة الذاكرة عينها، الحافظة لها، التي لا مادة لها أصلاً.

قد يغيّر الذات من تضاريس
الأمكنة حوله، ومن أشيائها. لكنه يعجز عن احتجاز لحظة واحدة من الزمن.
بينما الأمكنةُ معروضة تحت الحواس، أو قابلة للاختفاء وللعرض، لكن ليس
للذات إلا أن يحكي قصصاً وسرديات عن أزمانه وحادثاتها، الأمس واليوم وللغد.
فليس من المغالاة القول إنَّ الذات هو ذاكرته. ولا يمكن للذاكرة أن تفارق
صمتها البديء إلا باكتساب اللغة، فإذا لم تستطع الذاكرة أن تكرر الحادثات،
إلا أنها تُلغْوِنُها، تتلفَّظُها. تمنح صاحبتَها كائنَه اللغوي. وهو بدوره
يبني للذات جسده المعنوي المناظر لجسده العضوي.

الفكرة التقليدية التي تولد
عادة التقريب بين الذات والهوية، تفترض ضمنياً أنه لا ذات بدون هوية، تكون
لها كنواة ثابتة ترتكز إليها، وهي تخوض خاصة غمار التواجد الخارجاني
ومؤثراته الكثيفة –هنالك فوارق هامة بين القول: أنا ذاتي أو نفسي، فالأولى
تأتي كصفة، والثانية كاسم، لا بد من التمييز بين الصيغتين عبر متغيرات
التحليل الوجوداني. فالذات ليست مندرجة هكذا في سياق الزمكان كشيء. وهي رغم
خضوعها لمواصفات الهوية الشخصية، إلاّ أن لها صيرورتَها الخاصة التي تعوّض
عن صيغة الثبات، بهذه الخاصية من الالتباس المنطقي الأنطولوجي معاً:
الواحد المتغير. إنها خاصية يرفضها العقل الموضوعي، لكنها تستشعرها الذات
كحميمية تخصها وحدها. فالصيرورة على مستوى هذه الحميمية، هي الموكول إليها
أن ترفع التعارض بين الواحد والمتعدد؛ ذلك أن الزمانية هي الكفيلة بتسويغ
الاختلاف، عندما تتابع دفقات الصيرورة، وفق سيولة متقطعة أصلاً، بحيث لا
تتبع آناتُها سلاسلَ علّية مترابطة، بل تتدافع فيما بينها في إيقاع من
التواصل والتفاصل؛ فلا تتشابه الآنات فيما بينها إلا عرضياً، أو وقتياً
فحسب، مع أنها لا تفارق سيولتها الأصلية. حتى يمكن القول أننا لا نكون مع
الذات إلاّ في صدد من يحاول التعيين في مسار هوية اختلافية دائماً.

فمن الوجهة الفلسفية الخالصة
ينبغي التمييز بين الذات كمفهوم، هو أقرب إلى الهوية كمبدأ منطقي، وبينها
–في صيغة التأنيث- كحامل للمتغيرات السيكلوجية. أن يبقى الفرد هو نفسه
دائماً، فهذا لا يعني أنه مجرد حامل لانفعالاته وأفكاره وأحلامه، أو أنه هو
المتلقي لمؤثرات المحيط من حوله فحسب. فأنْ يظلّ المرء هو عينه مهما
تقلَّبت عليه أحواله جوانياً وبرانياً، هذا قد يعطي تجريدياً، ثمة يقيناً
ما من نوعٍ وجودي بل أنطولوجي، يعادل تعريف الهوية المنطقي أو الرياضي.
(1=1). وبناءً عليه يمكن تمثيل الذات كمبدأ للثبات، باستمرار الواحد
الرياضي في كل الأرقام الأخرى التي تليه مهما تزايدت أو تناقصت. فالفلسفيّ
يميل دائماً إلى الانطلاق من الذات كبدْءٍ نحو كل ما يغايرها. مني أنا
يبدأ كل شيء. ولا يمكنني أن أتعامل مع أي شيء آخر، إلاّ وأنا شيئي الذي
يخصُّني وحدي. لكن الذات الفلسفي لا يقنع بمثل هذا التأكيد البدئي كأساس
لتأكيد كل شيء آخر من بدئه أيضاً، أي بما هو عليه مساوياً لما هو عليه
دائماً، إن لم تردفه بما يقابل الذات، وهو العالم، كمسرح لتحقق الذات،
نفساوياً وهي عينها دائماً.

هذا التعريف العضوي العفوي
للذات باعتباره هو البدء بالنسبة لصاحبه على الأقل، شجّع نوع الفكر
الإطلاقي على تجذير لحظة التمييز بين حديّ المعطى الأولي: الوجود في
العالم؛ فصار الوجود رديفَ وجودي كذات. أنطلقُ منه بدئياً نحو العالم.
هنالك نوع من التراتبية أو المتوالية المنطقية التي تمنح الذات حق الأولية،
دون وضع هذا الحق موضع نقاش أو تساؤل. وقد يتمّ رفعُه إلى مرتبة البداهة
التي تُغْني الفكر عن استفهامها. لكنها تغدو تلك البداهة المعادلة لمعيارية
لا تقبل النصّ عليها بأية عبارة نسبية. حتى أن الكوجيتو الديكارتي يأتي
تالياً على هذه البداهة. ذلك أن الكوجيتو احتاج إلى التفكير كيما يثبت
وجوده. “أفكر؛ أنا موجود” أي هناك عدم اكتفاء ببداهة الذات، كبدء. إلا إذا
كان البدء هو لحظة ولادة الفكر بالنسبة له وحده. هنا يتكوّن لدينا تعريف
حداثوي اختلافي للكوجيتو. إذ يصير الكوجيتو محلّ استفهام خاص لسؤال: ما هو،
ويكون جوابه الفوري: أنه بدؤه الخاص نحو العالم. إذ لا يمكن فهم البدء إلا
من خلال ما يأتي بعده. هذا الآتي -فيما- بعد هو العالم، أو المغاير أو
الآخر. فالذات لا يكون ذاته كلياً وهو في لحظة البدء. إنه البدء الذي لا
يكون تماماً، إلا بما سيكونه بعد. إنه (كون) الذات المعلّق وجوده على ما
يغايره. وهذا المغاير لن يفارق الذات، سيظل مصاحباً له من بدئه حتى منتهاه.
وعلى هذا لا يأتي العالم، الذي هو المغاير ووطن كل مغاير، لا يأتي تالياً
على الذات كبدء، لكنه هو قرينُه. الذي هو بقدر ما يكون متخارجاً مع الذات،
فإنه مشارك في جوانيته.

هذا الكلام حول تمايز
الذات/العالم بين حديها كعبارة ، هو توصيفيٌ اضطرارياً بحكم تفسير الظاهرة
كونها واحدة. لكن الفكر الكلاسيكي اعتمد هذا التوصيف ليس كمنهج فحسب، بل
كتمعين أنطولوجي. فقد اعتبر أن بداهة البدء إنما تنطلق من الفصل بين حديّ
العبارة، ومن ثم اشتغل دائماً على عمليات البحث عن، واختراع (الوسائط)
لإعادة الوصل بينهما. كان الكوجيتو الديكارتي هو النواة الصلبة لثقافة
المرجعية: تلك التي تسجن الفلسفي في سيرورة الارتجاع الماهوِّي الذي
دَأْبُهُ التخلص من العرضي، والارتداد نحو الجوهري. وقد شكلت عبارة الذات
في العالم، المادةَ المركزيةَ التي تشتغل عليها أفعال التفكير، على اعتبار
أنها أفعال تفضيل. يظل التقويم الحاكمُ بأمره في كل ما من شأنه إما تذويتُ
العالم، أو علْمنة الذاتِ.

كانت هناك شبه استحالة التصور
في البدء من حدّي العبارة الأنطولوجية معاً كواحد، وليس من أحدهما (ضداً)
على الآخر؛ إنها استحالةٌ يجري تأويلُها دائماً من مذهب إلى آخر، استناداً
إلى الصعوبات المنطقية الخالصة ، الحافَّة بالعبارة، والمانعة لإمكانية
النظر إلى الذات إلا كفاعل البدء، السابق حتماً على موضوعه، على كل ما
سيُخضعه لأفعاله المتعالية أصلاً. فالذات هو بَدْؤُه
الخاص، مهما كان متواضعاً أو هامشياً بالنسبة للعالم. هذا البدء الذي يمكن
أن يُذْهَبَ به إلى حدود غير معينة من الغلوّ، تفسره فلسفات الحياة بأنه
غلوّ التعلّق بالوجود والحفاظ عليه، والعمل على ترقيته. كما أن الاجتماعيين
يرون فيه مصدر الخصوصية المكونة للفردانية التي قد تصبح عنواناً إيجابياً
لنمو اجتماعيةٍ إنسانيةٍ مزدهرة. لكن بالنسبة للفلسفي المحض فإن هناك
ثقافة تاريخية غنية بالتنوع انطلقت دائماً من البدء كبداهة أنطولوجية، وليس
كأولوية منطقية. وهي تلك البداهة التي سمحت بإطلاق مفهومية المتعالي
وتمثيلها عبر العقل المحض. بمعنى أنه إذا كان هناك ذات فهو أنه حامل العقل
الذي يسميه هكذا، في عين اللحظة، التي يمارس فيها عقْلنته لمعطيات العالم
من حوله. فقد يمكن التصور مع كانط أنه إذا كان ثمة تعريف
حقاني للذات فهو أنه موطن العقل المحض. ولقد فهمت المثالية الألمانية هذا
التعريف على أنه يعني القول بالذات المطلقة عبْر مفهوم العقل. إذ كيف يمكن
قيامٌ للذات المطلقة إلا على أنها هي العقل المولج بدئياً بعقل ذاته. إنه
أقصى التجريد المنطقي، لكنه في الوقت عينه يشكل ضرورة التفلسف المحض. فإذا
كان الذات هو العقل المحض، أو هو مقرُّه البدئي فإن وظيفته الأنطولوجية هي
وظيفة هذا العقل عينه، أي الفهم. فكل تفلسف محض لا بد أن
ينطلق من فهم الفهم، أي من تمعين للعقل بما يفعله أولاً. هذا التمعين يميزه
عن ثقافة الابستمولوجيا كونُه لا يتوقف عن طرح السؤال الكانطي الأصيل:
ماذا عليَّ أن أفهم، إنه يتعداه إلى سؤال: ماذا يعني أن أفهم،
وقد يتضامن السؤالان معاً، وهذا ما نقصده نحن، عندما لا نرى توحيداً
تطابقياً بين الذات والعقل. فهنالك مساحات من الذات لا محل للعقل فيها، كما
أن هناك للعقل آفاقاً، قد لا تستثير شغفاً لدى الذات.

فالتأويل الذي يرى جنتَه
الفلسفية في هذه العلاقة اللغزية لعبارة فهم الفهم، كان مع ذلك، يرفض
الاستغناء عن الذات كتمثال نفسه. بل هو على العكس تماماً، إذ يصرّ على وضع
فهم الفهم تحت طائلة انهمام الذات بوجودانيته. ما يؤدي إلى كون هذا
الانهمام هو الذي عليه ممارسةُ وجودانيته بطريقةٍ تأويليةٍ لأحواله في
العالم. إنه انهمام درامي بمعنى ما، بل قد لا يكون إلا هكذا. إذ لا يدّعي
الإحاطة المعرفية بالموضوع بقدر ما يقر بأنه ليس ثمة من حقيقة تقال عن
الذات أو العالم، إلا وهي مجتزأة عن مجهولٍ كلٍّ منهما، الذي يظل أبعد من
كل استفهام يتناوله. وبالتالي فالتأويل ليس قراءة موضوعية أو آلية لأشياء
العالم، إلا وهي ملوثةً بغبار الطَلْع الذي يعلق بحوافي أجنحة النحلة وهي
تمتصّ رحيق الزهرة البكر من شجرة الربيع. أي أن التأويل يعيد الذات إلى
مركزية فهم الفهم. إنه أسلوب المعرفة الوجودانية المستقلة عن شروط المعرفة
(العلموية) المتمسكة أصلاً بالموضوعية الجامدة.

هنالك المنهجية العلمية التي
تستهدف بلوغ المعارف القابلة لصياغاتها بلغة الرياضيات. وهنالك التأويل
الذي لا يمكن القول عنه أنه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

في الذات الحي بعد كل تفكيك مطاع صفدي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

في الذات الحي بعد كل تفكيك مطاع صفدي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» في التفلسف ما بعد «الفلسفة» التقاط الفوري مطاع صفدي
»  مطاع صفدي: فيلسوفُ التفكيك والبناء جوزيف معلوف
»  أوباما/إيران: مشروع إعادة تصنيع العرب مذهبيا مطاع صفدي الإثنين، 27 يوليو 2
» سؤال الحداثة السياسية عن «المدنية الوطنية» التحقيب الحضاري والهُويّ النقدي مطاع صفدي
» فاشية بوتينية أو نظام أوروبي عالمي جديد؟ مطاع صفدي March 11, 2014 فاشية بوتينية أو نظام أوروبي عالمي جديد؟

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: