سؤال الحداثة السياسية عن «المدنية الوطنية»
التحقيب الحضاري والهُويّ النقدي
مطاع صفدي
لا يستطيع الهُوِيُّ النقدي أن يتوقف عند تعريف محدد، لا للفرد، ولا للمجتمع، ولا للدولة. ذلك أنه هو عينه لا يكف عن تعريف نفسه، لأنه غير قادر على التعرف إلى ذاته نهائياً. وفي هذا ضعفُه وكذلك قوتُه. فالقول الإغريقي العريق إن الإنسان كائن عاقل، أو إن الإنسان كائن أخلاقي أو سياسي بالطبع، لا يمثل كل الحقيقة لدى الهوي النقدي. مثل هذه التعريفات أشبه بتكئات منطقية، أو افتراضات يحتاجها الوعي الفلسفي كيما يعرض ما يتجاوزها ويعدلها باستمرار. لكن الهوي، حتى لو لم يتُبَّع لفظَه بصفة النقدي، إنما ينطوي على النقد كعنصر داخل في إِنِّيَتِه بالذات. إذ أن الهوي لا يمكنه إلا أن يكون من طبيعة تجاوزية، على العكس من مصطلح الهوية التي تُلصق به من خارج. فهو يتعامل مع الإنسان باعتباره أولاً مجرد كائن، ليس له من الصفات أو الخصائص إلا ما تأتي به كينونته بدئياً. ولا يمكن القول على الكائن إلا أنه الهويُّ مع ذاته. فهو البعدُ الصانع لحدهِّ، والمتجاوز له في كل آن. لأن البعد إذا ما اتحد مع الحد لم يعد بعداً، وقد يضحي مجرد تكوين ما. والفارق بين الكائن والتكوين، كالفارق بين الصانع والمصنوع. ذلك أن الكائن هو فاعل نفسه، والمفعول بها وحدها. هذا لا يعني أنه ليس وليدَ سلالة معينة. لكن الإنسان يحس أنه مدين أولاً لذاته. فهو ابن لوالدين، ويصير أخاً لأخوة، وأباً لأبناء. لكنه هو عينه اختلافيّ. إنه الهوي مع نفسه، غير النفسية تماماً، وغير المحسومة حدياً. هذا الشعور لدى كل فرد كما لو كان العالم يبدأ به، إنما هو الهوي عينه، وهو التعبير الوحيد الذي يسمح بجوازه عليه.
مع ذلك فإن الفلسفي هو الذي يجهز المنطقي، لكنه لا يسمح له باستيعاب منطوقه الخاص. فلا بأس من استخدام الحدود المنطقية كوسيلة تنظيم وتأهيل للمعاني، وشدّها من برِّيتها الموحشة، وفرض ألاعيب التعليب والتنميط على موادها المتمردة، وصياغة دلالات معينة منها. لكن ما أن يغدو كائن الإنسان موضع تساؤل فلسفي، حتى يسترد الهويُّ مركزيتَه الأنطولوجية بالنسبة لكل ما يمسّ إشكالية الكائن، بما أن الكائن هو الأول فيما يعنيه لذات النفس، وذات الآخر، وما يعنيه هو هذا الهوي. ثم أنه أبعد من هذا التعريف المنطقي: هو ما هو. أو حسب الترميز الرياضي: [أ=أ]. فما يعرفه الكائن عن نفسه قد يستغرقه حياته بطولها وعمقها. وقد يخرج من حياته وهو لا يجزم أنه عرف نفسه أو عرف سواه، من أقرب القريبين منه. ليس ذلك إلا لأن الكائن يمارس الهويَّ كأنه هويته، لا كتملك من شيء آخر، ولكن كانتظار حي مجهول ومشغوف لما وبما لا يدري به بعد عن نفسه، وعمّا قد تفذفه من مفاجأة ذات النفس للنفس.
فالهويّ إذن هو ما يُكمل كلَّ تعريف للكائن، وما يُستثنى منه في آن معاً. هو ما أعرفه عن حالي، وما أجهل أنني عارفه أو جاهله. فالأنا، والأنت، والهو، ضمائر نحوية، أو مرجعيات منطقية؛ لكنها تحتاج إلى الشخص الذي يجسدها؛ فحين يحضر الشخص ليس من الضروري أن يحضر الكائن، أي مستنفذاً أو مكتملاً في إطار هيئته الخارجية. فالشخص قد يعطي الإنسان حدَّه المادي والمعنوي. أما الكائن فإنه يبقي عليه انتظاراً مبهماً على خطّ البعد. ما (يكونه) الشخص الحاضر، هو ذلك الغائب الدائم أمامه. والهوي ينسج همزة الوصل، ليس بين الحاضر والغائب فحسب، ولكن بين أحواله المتغيرة، وما لا يعرفه من ثباته الدائم خلْفَها. إنه ذلك الثبات، القابل كلَّ لحظة، لأن يكون نقطةَ الانفلات من المحدود كذلك. ولقد اكتشف برغسون أن هذا الثبات غير الثابت تماماً، إنما هو (ديمومة). إنه ما يفوز به الكائن عن نفسه كلحظة زمانية لها امتدادها إلى الما ـ بعْدُ، كما إلى الما ـ قبَلْ.
ولقد بُنيت الحداثةُ الفلسفية على هذه الفرضية الضمنية وهي أن الكائن هو زماني في جوهره، وبالتالي فإن ديمومة اتصاله بذاته، إنما هي اتصال بالمتغير فيه، وفيما حوله. فلا يتأتَّى له شعورُه بالتواصل مع ذاته إلا عبر الانقطاعات التي تحدثها المتغيرات، أي الاختلافات مهما كانت ناعمة ودقيقة، الحادثة في سيولة أحاسيسه؛ فالديمومة هي من شأن الذاكرة، أما الواقع الوجودي فهو شبكة مليئة بالفجوات والفراغات. والذاكرة هي التي ترتق الأنسجة المتمزقة، وتسبغ عليها شيئاً من الوحدة التسلسلية، أو التضامن الشبكي، وتسمح للاستبطان أن يؤدي وظيفَة فرضْ العليْة، لتبرير العقلنة، وإيجاد التعليلات الإدراكية لأحوال النفس الإنسانية المضطربة والمتعارضة أبداً. فلقد لا يكون الهوي عملاً ذاكرياً خالصاً، لكنه بدون الفعل الذاكري الذي يتلبَّسه، لن يفوز الهوي بآمرية استمراريته، بالنسبة لذاته، وللفرد صاحبه الذي لا ينفك عن تنادي حضوره الصميمي كمدخل أو كإسناد لا بد منه للتعامل مع أشباح ذاكراته الماضية، وتوقعات أحواله الآتية، ومع حضورات الخارج كوقائع وأجساد أليفة أو غريبة. رغم ذلك فالهوي يظل هو كل ما يختلف عما يعتريني من مؤثرات الجوي والبرّي، الحميمي والطارق، ليس لكونه هو نقطة الثبات الوحيدة وسط بحر هائج متغاير في الدفق واللون، في الزبد والعمق، بل لأن ثبات الهوي، وتطابقه مع ذاته ليس هو إلا من ثبات العلاقة مع المتغير عينه في كل ما يلتقطه ويغمره ويناوشه، أي تلك العلاقة مع استمرار التغير. وما ترداد المعيار الكلاسيكي: التطابق مع الذات، سوى علاقة الافتقاد المتواتر. وأن معاناة هذا الافتقاد هي الكفيلة وحدها بتسجيل انتظار الهوي لذاته، ودأبه في البحث عن ذاته فيما يغايره. فما يعلنه الهوي لصاحبه، عن وجوده، هو أنه لا يزال ـ دائماً في طور القاصد نحو الذات الأخرى ـ المختلفة، التي لا يعرفها، وليس الممتلك راهنياً لبعض أَدلّتها، أو محتواها المبهم. وإنه لإبهام استفزازي، حريفي ومُلِذّ بسرية عصّية على التسمية، لأنها أخص ما يعنيه الهوي مع نفسه أُسّياً.
لكن الهوي ليس علاقة نفساوية، وإن كانت محفوفة بسمفونية كثيفة من المشاعر والانفعالات الفردية. إذ أن ما يربط الفرد بالهوي، هو أنه بقدر ما يخصه وحده، فإن الهوي يتجاوزه دائماً. وهذا التجاوز ليس كمياً، يستوعب كل الآخر أيضاً، بل إنه لا يتوقف عنده، عند كل آخر. ليس جميعاً إحصائياً، بل كلياً ناقصاً، متغيبّاً عن تعريفه النهائي. وقد يُقال عنه إنه المتناهي الحركي الذي لا يكف عن تناهيه، حتى يبدو لامتناهياً، أو كاللامتناهي. وحين يتقبل الهويّ أن يُطلق عليه صفةُ النقدي، ويُحاصر في إطارها، فليس ذلك إذعاناً منه لنقيضه، وهي خاصية التغير، لكنه إقرار منه بواقع الحال. وهي أن الهوي كائن تاريخاني كذلك، ولا يمكنه أن يعزل نفسه خارج التدفق التاريخي ـ الشخصي ـ أي الزمني الخاص. فقد يكون علامةَ سكون في سيالته، أو أنه ترميز انكسارٍ ما في تواصله. والنقدي هو التوصيف الذي يلتقط التباس الهوي بالاختلافي. فكما قال بارمنيد عن الكائن إنه عدمي، وشيء آخر يمنحه الوجود، وهي صيرورة الكائن إنساناً، أي أن يتأتَّى الكائن بطريق الفهم، إلى ذاته كإنسان. فالأصل في الهوي أنه ليس نقطة ثبات إلا نسبياً وتجريدياً؛ على العكس من الهوية التي تتشبث بالجزيرة الساكنة وسط البحر المتلاطم. وقد لا ينبثق الهوي إلا من لحظة انكسار الهوية، وانفصال شكلها عن مضمونها. عندئذ ينبجس الهوي كسؤال الذات عن نفسها، وهي في مواجهة انكسار الهوية، أو إمكان التهديد بفقدان التلاحم مع الديمومة، أي مع سيالة التغير عينه. فالهوي إذن هو سؤال ذات النفس عن نفسها أكثر منه جواب الاستقرار والثبات المحسوم. وهو كالنهر الذي لا يكاد يمسك بموجة من تدفقه حتى تداهمه الموجة التالية والتالية من ذاته. لكن الفرق هو أن النهر مليء بتدفقه، بينما الكائن متقوّم ـ منهار، على فجواتها، مستشرف/مترامٍ على فراغاتها؛ والسؤال عن حاله، عن سؤاله عينه، متجدّد دائماً حتى ولو كان صاحبه يحيا صحراءً من اللاحدث، له أو لمحيطه. فهل يغدو الهوي سؤالاً مفتقداً للجواب الممتنع، ما دام الكائن لا يمكنه أن يقدم شبكة علّية من الأسباب والنتائج، تَفيه حقَّه من كشُفِ هويةٍ محددة له. ذلك أنه لا سبيل له إلا أن يتقارب من الهوي الذي يحدس به ولا يعرفه، مُقِرّاً أنه لا يستطيع أن يفسر نفسه، وإن كان لا ينقطع عن محاولة فهمها. فالفهم وليس التفسير أو التعليل، هو الذي يبقي على الهوي كسؤال ذاته، وقد يَجْسر على ضِفّة الانطلاق دون أن يبلغ ضفةَ الوصول.
هنا لا بد من التوقف قليلاً حول الأهمية القصوى التي يُعيرها الفكرُ المعاصر إلى ثنائية الفهم والتفسير، وخاصة تحت طائلة عودة الفلسفي السياسي المنشودة إلى صميم التفكر الحداثوي. فالهوي لا يمكن أن يخضع لآلية التفسير كما لو كان موضوعاً طبيعياً، أو موضوعياً خالصاً. ذلك أن الهوي متصل بالذات، ومعجون بمادتها. فهو أمر إنساني خالص، لا يحتاج إلى توسط من منهج تجريبي أو إحصائي. فما يفصل علوم الطبيعة عن علوم الفكر، هو أن الأولى لا تقوم بدون توسط المنهج، حتى أن المنهج هو الذي ينتجها، وخاصة عندما اكتسب خواصُّ التجربة العلمية والمختبرية. وأما علوم الفكر، ومع موجتها العالية المستجدة تحت اسم العلوم الإنسانية، فإنها تطرح أولوية الفهم الذي لا يكتفي بتسجيل حصائل الاختبار، ولا يتوقف عند تفسير هذه الحصائل، بل يسعى إلى فهمها. وذلك باستنهاض خصوصيتها من شمولية الحياة التي تنتمي إليها. فالحادثة الاجتماعية أو التاريخية لا يمكن استيعابُها بالكشف عن شَبَكتها العلّية فحسب، بقدر ما ينبغي أن يُعاد استبطانُها ذاتياً في مخيال المفكر الباحث عنها وفيها، ومحاولة معايشتها من الداخل بما هي كلية عضوية حية. ولا تحتكر هذه الوظيفيةَ السيكولوجيا وتفريعاتُها المختلفة وحدَها. بل هي تعمل كجاهزية مساعدة لتقريب خارجانية الحادثة إلى داخلانية الوعي، حيثما يُترك لِسر الفكر أن يتكاشف مع سميه حول سر الحادثة، وما أن يتحقق الفهم حتى يصدر عن جاهزيته الخاصة ما يُعرف بالتأويل. لكن التأويل ليس نتاجاً خالصاً للفهم. إنه بالأحرى طريقة للتعبير عنه، وليس لتأطيره كلياً. وهكذا فإن العلوم الإنسانية في محصلتها الأخيرة، ليست سوى حقل شائع من التأويلات لا تستنفذ عمليات التواصل معها. فلا بد لها من مضاعفة نفسها بعلوم الفكر الخالص التي تشتغل على الفهم، مصحوباً دائماً بفهم الفهم، أي بالمعرفة ونقدها معاً.
ودون أن ندخل غابة النظريات الإبستمولوجية الكثيفة حول ثنائية التفسير والفهم والغرق في طوفان من لونياتها الدقيقة، فإننا نفيد من آخر حصائل النقاش الفلسفي حول الفهم والتفسير، كما عند فيلسوفها الأصيل اليوم بعد هيدغر، وغادامير، وهو كارل أوتو آپل، من أجل معاودة المقاربة مع أقنوم الهوي النقدي، ودوره المركزي في مفهمة الحداثة السياسية لعصرنا
(1). ذلك أن هذا الأقنوم وحده يكاد يبرز تضامن الثنائية وتفارقها التداخلي في وقت واحد. ونحن هنا لا نريد التعرض إبستمولوجياً لهذه الإشكالية، بقدر ما نحن منصرفون إلى تتبعها أنطولوجياً. فالهوي هو بيت الكائن الذي لا ينتهي من سكناه، لأنه لا ينتهي من سكنى العالم الذي يحتويهما معاً، أو يحتويهما واحداً. والتفلسف الحداثوي اقترن بالبحث عن الذات كمدخل كينوني لاكتشاف الكلي بطريق الخاص، وتبرير أحدهما بالآخر، تارة لصالح الخاص وحده، ونادراً لصالح الكلي الذي يظل تجربة استثنائية يفوز بها الفكر عندما يتمكن من رجوعه إلى ذاته وحدها.
ولقد كان التفكر بالذات محمولاً دائماً على جناح الخصوصية، ومدى قدرتها على تلوينه بانعكاسات المسافات التي تختارها هدفاً لتحقيقاتها، واختراقاتها المتغيرة، من منظور تكويني إلى آخر. فلا ننسى أن التفكر بالذات فلسفياً، إنما كان تفكراً بالماهية القومية واشتباكها بالهوي الإنساني الذي يعزوه إليها، كتأويل لشخصها المفهومي بعين نفسها؛ إذ أن شهادة المشروع الثقافي الغربي على تاريخه إنما تمر عبر تحقيب تلك العلاقات الملتبسة بين الهوية السياسية، أو المرحلية، وبين الهوي الإنساني. وهذا التحقيب منح المشروع الثقافي الغربي ميزة التكون التاريخي وتراكمه الاختلافي، لكنه في الوقت عينه، زَوَّدَ الأنا الغربي بذخيرة من تضخيم الهوية على حساب الهوي الإنساني المعبر عنه بالعلاقة مع الكوني (اليونيفرسالي)، إلى درجة توحيد الكلي بالخاص، واعتبار الثاني كما لو كان هو عين الأول. فالذاتي، بالمعنى الكلي، ينقلب إلى الذاتوي الأحادي الذي سيخص نفسه بثقافة معينة، مما يجعله يستثني نفسه خارج كل آخر، ناهضاً وحده بعبء الهوي الإنساني من دون الجميع، أو ما فوق الجميع.
لا ريب أن مسيرة الفلسفي السياسي حسب إيقاع الفصل مع الماضي والوصل بما لم يأت بعد، قد ابْتَنتْ عمارة الأسس العقلانية وجاهزياتها الواقعية للإنسانية الحقوقية، عبر تلك القطيعات الثلاث التي أثمرت فوز الجماعة الغربية بالحقوق المدنية، ثم بالحقوق السياسية، ثم بالحقوق الإجتماعية، ومن خلال القرون الثلاثة الأخيرة التي جسدت عمر الحداثة الراهنة. وهكذا فإن التاريخ يبرر، للتحقيب الغربي، فلسفَته عن (التقدم) التي تعطي المجتمع ثمة توجهاً تكاملياً عبر الزمان، يمكن إخضاعه للمفهمة االخطابية المتماسكة. ومثل هذه الحال تدفع إلى نمذجة الذات، واجتراح ثمة علاقة خصوصية وتمييزية مع الهوي الكوني، يسمح لها بادعاء خَوْصَنةِ الكلي لحسابها العيني المباشر الذي يفرقها عن الذوات الثقافية الأخرى. لكن ذلك لا يحذف الصورة الأخرى لهذا الواقع. وهي أن من طبع كل ثقافة أن ترفع خصوصيتها إلى درجة النمذجة وادعاء الفرادة. لكن الاختلاف في هذا الميل الطبيعاني هو في مدى ما تقدمه ثقافة معينة عما يكشف عن فرادة تحقيبها التاريخاني الذي يخصها وحدها. والغرب لا يقدم هذه الفرادة فحسب، بل هو قادرٌ على الدفاع عنها أمام أجياله، وعلى مرأى من المجتمع العالمي حوله. ذلك أنه أصبح بإمكانه أن يوّحد بين خصوصيته وكلية الكوني. فإذا كان ثمة كوني على مستوى الواقع وليس في التجريد، فإن المشروع الثقافي الغربي، وخاصة في حقبة الثقافة الإلكترونية الراهنة، يستطيع أن يطرح طريقَه الحضاري الخاص، كطريق محتوم للجميع. فالكوني يمتلئ بالإنجاز الواقعي، ولكن بطريقةِ ثقافةٍ أُحاديةِ الهوية، وترجع إلى الاسم الغربي وعنوانه الدائم في ريادة التاريخ.
نريد القول إن ثنائية الفهم والتفسير تلقَى تجريبَها الأخصب عندما تنجح الحضارة في تشفيف تاريخها عبر شبكية الأسباب والنتائج لإنتاجاته، أي أنها تقدم تفسيره العلي، وفي الوقت نفسه تقوم بمفهمة تكامليته، تسرد قصة هذه التكاملية؛ أي تكشف عن فرادة إنتاجيتها، كعمل إبداعي (يخص) جماعتها الإنسانية، وقصةَ أية ثقافة تنسج هوية التشابك العلي لأفعالها؛ وفي الآن عينه فإن (الفهم) يحقق مدى التواصل بين هذه الوحدة وهويتها، وبين ما تدّعيه من اتصال مع الهوي الكوني. هذا التحقيق، مهمته في الثقافات الحية، الاشتغال المتجدد على ما يضيفه، إلى شبكة الأفعال العلية وتفسيراتها الآنية، من حصة المجهول المسكوت عنه، أو المتلاعب به، وهو المعشش في غابة من التباس الكوني بالخصوصي، من تفسيرات الهوية على أنها تجليات الهوي، أو أنها من مفاهيمه. فلا نشك أن الإشكالية الذُروية التي تواجه الحداثة السياسية المعاصرة، إنما تتحدد اليوم في حتمية التواصل مع العالم، وفي الانكفاء عنه، ضمن الحركة عينها، إلى أضيق استهواء قوقعي ممكن. وهذا التواصل، حتى وإن لم تتابع بوادره الإيجابية نتيجة قرارات من الدول، فإنه يشرع في الحضور كأمر واقع، بسببٍ من تطورات المعلوماتية الإلكترونية عينها التي تنشئ شبكيات الاتصال بين الأفراد مباشرة، ما فوق الحدود والمسافات. فالكوسموبوليتي يدخل حيز الإثارة والتأثير الفوري؛ ما يسمح بولادة ظاهرة الرأي العام الإنساني، مخترقاً منطق العلاقات الدولية وقواعده الفوقية.
لم تعد الدولتية L’etatisme تمسك بناصية التنظير الاستراتيحي وحدها، وقد أصبحت تنافسها واقعية الحدث، عندما ينتزع صفته العالمية بقدرته الذاتية على التحرر من دلالاته المحلية، بالرغم من تلاعب المرآوية بأصوله والحؤول دون انكسار تلك الدلالات واختراقها نحو المعنى، نحو التماسّ بالكوني، واستفزاز الهوي الإنساني الذي يحتضنه، والتوصل إلى إخراجه إلى طور الإفصاح عن حضوره العيني المباشر. فإن (الفهم) هو الذي يسبق (التفسير) في مثل هذه اللحظات الحدية، حيثما لا تتمكن الدلالة من سجن مُفردتها، ومنع انفجارها نحو الأفق الأوسع. تفقد الحداثة الفورية شبكيتها العلّية، خاصَّتها، لتحلّق مع تصاديها لدى الكل، الذي يحس أن الحادثة غدت من خاصته كذلك. فإن صورة قصدية إعدام الطفل الفلسطيني (محمد) في حضن أبيه، جعلت كل إنسان يراها، يحس أُبُوَّة الطفل الضحية. تلك هي فورية التواصل التي تنزع عن الحادثة أَرْضَنتَها (نسبيتها) لتحلق بها في مدارات الزمن الكوني، ثم تعيد أَرْضَنتَها، أو زرعها، في فورية الزمن المتآني [المعوي] مع كل أحد. لا يصبر الزمن المتآني على مهلة التعليل حين يصير لاحقاً على فجائية التواصل الفوري، الذي يفهمه الكل وجودياً، مبدئياً. إنه ذلك الفهم الذي يتعدى التعاطف، كما مَفْهمه شيلر؛ مثلما أنه يتجاوز التواصل عند هابرماز، المبني أصلاً على (مهلة) الحوار. ذلك أنه هو الفهم الذي لا يكتفي بالقفز فوق الفراغات ما بين الهويات، الدلالات المتفاصلة فحسب، ليفتح على الهوي؛ بل يجعل من الأحد عرضاً مكوناً لأُسّية الكل. إنه يمنح المفردُ أحقية الإنسان في أن يلتقي الإنسان؛ أن يستوطن المفرد رحابةَ الكل. أن يفارق محدودية مجهوله وعرضيته، ليقوم ـ مع ـ القوم، وبقيامه عينه؛ ودون أن يفارق فعلاً تقوَّم جَسَدانيته..
في بحث المتكلم عن المخاطبولكن أين تقع هذه الدلالات. فليس مكانها العقل الباطن وحده؛ وقد يتم عرضها ترميزياً عبر السلوكيات الفردية والجماعية. ولا تلاقي تعبيرها الأوضح إلا على مستوى الحوار اليومي. وهو حوار لا يكتفي بالسرد اللغوي فحسب، لكنه مشتبك بالوقائع والأحداث. هنالك حالة لسانية تعم الظرف الواقعي. من دونه ليس ثمة ما هو واقع بل أشباح أوهام. فلا تدخل الذات العالم إلا عن طريق اللغوي؛ واللغوي في الأصل هو كلام الأنا، والهو، وكل كلام يجد مستنده المشخص في هذه النسبة المبطنة لكل عبارة. وهي أني أتكلم وأحاور كلام ـ الآخر. فالصامت لا هوية له إلا عندما يشرع بإصدار أصوات تنسج عبارات قابلة للفهم من قبل الآخر. والسياسي الإغريقي كان خطيباً، بمعنى أنه كان يسرد على المجموع أمامه، حكاياتِه الخاصة التي توقظ حكايات صامتة في نفوس مستمعيه. وسوف يظل للسياسي المعاصر هذا الامتياز، وهو أنه أصلاً خطيب يشتغل على أحوال المجموع، الناس، بالكلمات، التي هي مادة الآراء والشعارات. إنه يصدر عن هوية لا يمكنها أن تخاطب هويات الآخرين، إلا في مدى إثارة (الهوي) المشترك بين الخاص والعام، والجامع بين الخطيب المتكلم، والمخاطبين الحاضرين والغائبين. ذلك أن العام إنما يسكن في اللغوي. فالاشتغال على الشأن العام إنما هو التعاطي اللغوي الذي يُسمى الحوار، بمعناه الشامل. والإنسان الأول لم يكتشف اللغة إلا لحاجته إلى العام؛ وذلك من أجل تدبر شؤون حياته المباشرة. والعام لا يقع في الفراغ. يتجسد في هذا الكل الذي لا ينتهي المتكلم عن إثارة وظيفة المخاطب فيه. فالبحث عن (الـ أنت) متضامن أنطولوجياً مع البحث عن الأنا، ولا يمر طريق التعارف والتضامن بينهما باكتشاف أسباب كل منهما بالنسبة للآخر، بقدر ما يُبنى على التقاء هوية كل منهما، في أفق الهوي العام، الذي يجمعهما قبلياً، هما وكل الجماعة اللغوية التي تحيط بهما، ولا يحيطان بها أبداً. إذ أن اللغوي هنا هو اللساني، وليس الناطق بهذه اللغة دون سواها فحسب. ولذلك كان تعريف الإنسان بالحيوان الناطق يفترض قيام اللساني أصلاً للعقلاني الذي يميز الكائن البشري. فالتعريف الجامع المانع هو الكون ـ الحيوان ـ الناطق الذي سوف يبني نطقه كل ما تنطوي عليه حضارة الكائن الوحيد في هذا الكون، الاختلافي اطلاقاً بالكلام وحده. وسوف يظل الإنسان هوية نسبية ناقصة، محتاجة إلى الاغتراف من الهوي الذي يصدر عنها ويتجاوزها، وهو النطق. وأفضل ما يعبر عن هذه العلاقة الالتباسية المتوترة بين الهوية والهوي هو بحث المتكلم عن المخاطب؛ ما يؤدي دائماً إلى انتهاض السؤال الفلسفي السياسي مجدداً، في المنعطفات الحضارية الكبرى؛ إذ أنه يعود إليه وحده تقدير المسافة المفهومية بين إنتاج الهوية، ومدى الالتباس، وتفكيك الالتباس، الذي لا يزال يمفصلها، أو يفصلها عن الهوي، تحت طائلة اسمه التداولي: الإنسان.
إن هذه المسافة المفهومية، وطريقة تأويلها والتعامل معها، هي المسؤولة الأحق عن ذلك الفيض الهائل من الثقافات وعلومها، وأدلجتها، عبر بنى خطابية؛ وغالباً ما سعت إلى التدخل والفصم بين حدَّي العبارة الواحدة: الفلسفي السياسي. فإما أن تغلق طريق التلاقي بينهما، أو تجعل أحدهما يطغى على الآخر. فتصير العبارة مع الواحد وضد الآخر، أي في النتيجة ضد بنيتها بالذات، كلما فازت العبارة بتوازنها المفهومي دون تفريط أو إفراط. ذلك أن السردي هو حاضن كل هذه العمليات القولية أو التعبيرية التي ستتفرع إلى علوم ومعارف مصنفة، وخاصة منها علوم الفكر. وقد يصنف السياسي في خانة السردي المعياري. إنه ليس تعبيرياً عن حدس ذات النفس بما تفضله أو ترفضه لنفسها وعلاقتها بالآخر فحسب، بل لا بد لهذا الحدث من إعادة صياغته في العبارة المعقولة، أي المالكة للبرهنة المقبولة من الذوات، أو العقول الأخرى. وعندما يدخل على كلام لشخص، أنه يقول كلاماً سياسياً، فإن العبارة المقولة هنا جاوزت مجرد السردي الشخصي، والمعبر عن حدوس النفس الصامتة، ودخلت سياق القول القابل للفهم من الآخر، للتعاطف معه أو لرده أو إهماله. ثم في خطوة ثالثة؛ فإن السردي الذي امتلك عقلنته الخاصة، قد راح يطرح خيارات معينة حول سلوكات عامة، تتعلق بالجماعة الأقرب أو الأبعد، بالمؤسسة العامة، أو الدولة، بل العالم واتجاهات الأمم بصفة شاملة. فالسردي هنا احتاز على عقلنته وطرح على الآخرين بعداً ما. فأصبح هو السريد المتوثب إلى المعياري. وهكذا فإن الفلسفي يُعَقْلن السردي المفرد، يزيحه من (ترميز) المتكلم ـ أي تعبيريته عن أحواله ـ
إلى وضع الإعلان عن موقف لا يكتفي بقيامه المنفرد، بل يتوجه إلى الآخر، ويفترضه قبلياً. بمعنى أن خطاب المتكلم يتطلب فهم المخاطب، وإشراكه معه بطريقة ما. فليس ثمة كلام يخصني أنا وحدي المتكلم دون أن يعني الآخر، وبطريقة ما اختلافية، تدفعه كذلك إلى أن يصير متكلماً آخر، نداً مقابلاً. ومن تبادل المواقع بين المتكلم والمخاطب يتم إحضار الغائب كذلك، لأن المخاطب قد يكون الماثل المباشر، أو المفترض حضوره، مما يشمل كل غائب آخر.
(2)عدا عن كون السردي أنه يستعمل اللساني ـ أي العام ـ كوسيلة تعبير عن أحوال الخاص، أو ذات النفس، فإنه لن يكون عليه أن يتقن اللغة التي يتكلمها فحسب، بل عليه أن يصوغ منها ما ينشئ عقلانية كلامه الخاص كذلك، حتى لا تصير أقواله هذراً لفظياً. ولا دليل على هذه العقلانية إلا بإمكان قيام الآخر بالرد. فما أن يجيء الرد، بالسلب أو الإيجاب أو الحياد، أي ما أن يغدو الكلام مفهوماً، حتى يفوز بأولى درجات المعيارية. كل قول هو معياري ما أن يقابله القول الآخر، وهذا ما يطلق عليه صفة الفهم الناشئ عن المخاطبة أو المحادثة. لذلك كان أول ما اشتغل عليه الفيلسوف هو مصطلح الرأي، وهو القول الحامل لمقترح (معقول) ما؛ لدلالة قابلة لإثارة المنطوق الآخر القادم من لسان المخاطب العيني، أو الافتراضي. وليس من الضروري أن يصفه هذا المقترح المعقول إلى مستوى المعرفة أو شبه الحقيقة، لكنه هو عينه مادة أولى لها، لا غنى عنه. مثلما أن الرأي هو مادة أولى للمعرفة، أو أنه مشروع ابتدائي على درب الحقيقة، فإن الفلسفي يلتقط خامته، مشتغلاً على إمكانها من الصواب أو الخطأ؛ فهي خامة للمعيارية المنطقية أولاً. لكن الصلاحية المنطقية ليست بالضرورة مدخلاً للصلاحة المعيارية عامة؛ ومنها الأخلاقية والسياسية. فإن مصطلح (الفعل) الفردي أو الجماعي، لا يتقيد بالمعيارية الموصوفة بالقبلية. إن أفعال الأخلاق وأفعال السياسة تنحدران من جدلية الوقائع، ولا تندرجان حتمياً على سجل المفاهيم أو الأفكار. ومن هنا تعاظمت مهمة الفلسفي السياسي، لأنه ينيط بنفسه الجسر على الهوة بين المعيارية كصلاحية إصلاحية، وبين جدلية الفعل كجماعة ظرفية ومواقعية.
وعلى هذا جرى التفريق بين الخطاب السردي والخطاب السياسي، على أساس أن الأول يتحدد بحاجات الفرد وقدرته على ترجمتها للآخر، أو للجهة التي تقدم له الأداتية المؤدية إلى إشباعها؛ بينما ينطوي الخطاب السياسي على الرأي الذي يقطع المباشرة مع الآني والعرضي
(3). إنه يجاوز الوصفي إلى المعياري. وعندئذ فإن الإسنادات لا تظل شخصية، وتنادي على السرديات المحفوظة من قواعد السلوك، أو الاعتقاد، ومن الأمثال والحكم، وسواها من خزين الموروث الجماعي. لكن الرأي كذلك لا يكتفي بهذه المقارنة الضمنية بين قوله، والمسند المتعارف عليه في المدون أو المتداول. ذلك هو الرأي الذي يحاول أن يطلق ثمة أحكاماً سلبية وإيجابية على المتداول نفسه، أي أنه يبحث لمنطوقه عن مستند آخر يقترحه كمفهوم أو قاعدة سلوكية أخرى، أو كهدف متصور ومقبول لدى الجماعة. إنه الرأي الذي يعبّر أولاً عن هوية برهانية، ويتعرف صاحب الرأي عن ذاته من خلالها، وعبر ما يمكن أن تثير لدى الآخر من تقبل أو رفض، أي من قابلية الفهم المتجسد في التجاوب أو التنافر. فليس الإنسان حيواناً سياسياً لأنه يحيا بين الجماعة فحسب، لأنه يتداول موروثها المكرر أو نوازعها الآنية، بل لأن الإنسان هو الكائن العاقل، أي أنه لا يعيش أية حياة جماعية مفروضة أو مفترضة، مسوغة بموروثها، أو متواجدة بقوة مصالحها المباشرة. بل إنه يصدر كذلك أقواله الخاصة حول الشائع، والمرفوض والمقبول منها.
الرأي هو نظرة الواحد إلى الكل بما يجعل الكل يصير الواحد الجامع الأكبر. والمرفوض منه والمقبول مضطر إلى تسويغ منطوقه. فالرأي (العامي) مثير للرأي البرهاني، إن عجز عن إعاقته. فإن جدلية سقراط نشأت في أجواء السفسطائيين، وأدت إلى مثالية أفلاطون، وهذه أوصلتنا إلى عقلانية أرسطو الشمولية. وقد أتقن السفسطائي فنون التسويغ الخطابية المصاحبة لصناعة الرأي بمعزل عن جدارته الأحقية. ولم يستطع أفلاطون أن يتغلب على براعة التسويغ مع ألاعيب اللفظيات، إلا عندما قام بترحيل جاهزية المفاهيم إلى خارج اللعبة اللفظوية كاملة، ووضعها في مرتبة الأقانيم السكونية، في طبقة المثل العالية كلياً فوق اللعبة اللغوية؛ مما أسس لانفصالية أنطولوجية بين العالم المعقول والكامل، وعالم النقص والفساد. لكن أرسطو استرد سكونية الفصل هذه، وحركها في جدلية المحايثة، عبر تكاملية القوة والفعل. وبالتالي أناط بالفلسفي السياسي من جديد، إعادة المعقولية إلى صلب العملية الواقعية، وذلك باسترداد المعيارية إلى جسدانية السردية، ومن هنا كانت إشادة المنطق لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني، بأدوات فقه اللغة، وقد أصبح محروساً، جوانياً، بفقه العقل نفسه. فالرأي doxa ليس وحده فارس الساحة، لكنه متنافر ومتلاحم دائماً مع المفهوم orodoxa.
ما تصنعه (المدنية) من مرآوية عاكسة لأحوالها الدنيوية بجاهزيات آرائها الموروثة أو المتصورة عن ذاتها، قد يشكل مادة أولية لنسج هوية تلقائية، تعتبرها بمثابة الطبيعة الثابتة لها. إن هذا النوع من المرآوية هو انتقائي في أصله، إذ يختار الإيجابيات ويضخمها، ويتجاهل السلبيات ويكاد يمحوها. فهي ليست هوية تلقائية بمعنى الكلمة، بقدر ما تصير إلى تشكيل إرادوي إلى حد ما، وقريب من صنع وعي جمعي صامت؛ لا تلبث المدونات وثوابت الخطابات المتوارثة، والحكايا المأثرية، أن تضفي عليها طابع القدسي السكوني، المقصي عن الأحداث العارضة. فالهوية التلقائية هي معيارية، بدون موضوعية المعيار ولا إعلانه الجمهوري. وتلعب دور المرجعية لنوع من عقلانية خصوصية، تمارس منطقها الحلّقي حول ثوابتها، المتلائمة مع تطورات الأحوال الاجتماعية والتاريخية، وإنتاجاتها من تصورات الذات المجتمعية عن نفسها. ولا تبلغ الهوية التلقائية مستوى الهوية البرهانية إن لم تقف حائلاً دون الارتقاء إليها، في تلك المرحلة من الاندماج العضوي الذي تفترضه النزعات القوموية، وتؤكده بديلاً عن إعادة التكوني المفهومي للأمة. تلك هي العملية العقلانية المتجددة التي تُشفّف الذاتَ القومية، على ضوء المشكلات المجتمعية والمصيرية التي تطرحها (الأمة) على نفسها كمجتمع مشخص وراهني. ومع ذلك فإن كلا الرابطتين النفسية، كالانتماء الإثني أو الجنسي، والاجتماعية كالمشاركة في الأوضاع الاقتصادية والسياسية، والأدوار الوظيفية للأفراد والجماعات، لا تشكلان معاً سوى أرضية الواقع المعطى الذي ينبغي المرور منه إلى واقع آخر، يجسده الكيان الجمهوري لدولة المواطنة الحرة. تلك هي المسافة المفهومية التي تتجاوز حدود الهوية التلقائية المعطاة، إلى الهوية الأخرى المدنية، المرادة والمختارة بوعي وتصميم الناس، حين يغادرون جمعانيتهم الفطرية الأولى، إلى البناء التضامني للجمهورية ودولتها الديمقراطية.
وقد يصل الأمر بالبعض من الجمهوريين الحداثويين في أوروبا الغربية، إلى حد الفصل القاطع بين القومية وصيغة الدولة/الأمة، القائمة على بناء المشروع المدني وحده، الذي يتضمنه خيار المواطنية وجمهوريتها القائمة على الأحقية الإنسانية وحدها. ذلك أن جواز المرور من الإثني إلى المدني، ethnos ـ demos يظل مرهوناً بانفتاح الهوية التلقائية، على الهوي النقدي، بتوسط خيار مشروع الدولة/الأمة، على أن تفهم الدولة في صيغتها الحداثوية، بما هي سيادة الشعب الحر على كافة شؤونه، كما أرسى مبدأها كانط خاصة، حسب عبارته الشهيرة: “الواحد للجميع، والجميع للواحد، يقررون الأمر عينه، الذي يغدو تشريعياً”
(4). فلا يترك أمر التشريع للحاكم وحده بالنيابة عن السلطة الغيبية المفارقة، كما هو الحال قبل الثورة الفرنسية؛ ولا يغدو التشريع محل عقد بين الحاكم والشعب، تطبيقاً لنظرية العقد الاجتماعي عند روسو، بل ينبغي أن يصبح التشريع مرادفاً لسلطة الشعب على أحواله ومصيره العام، متحداً بإرادته وحدها. فالحاكم ليس سوى المنفذ المنتخب لهذه الإرادة، ويستمد مشروعيته الخاصة من إرادة ناخبيه هذه دائماً. ليس ثمة عقد ما بين السائد والمسود (عمودياً) مهما تعينت الواجبات والحقوق المتبادلة بينهما. فالدستور والقانون هما معاً نتاج اتفاق الشعب مع ذاته (أفقياً). والحاكم يخرج من هذا الشعب بالذات عندما يتم اختياره من قبل مؤسسات المشروعية القانونية القائمة. حتى مصطلح الشعب يتحول إلى جمهور المواطنين. والمواطن ليس نسخة عن العنصر الإثني، لكنه شخص إنساني اختار المواطنية والانتماء الإرادي لدولة القانون التي يعيش في كنفها، ويساهم في الدفاع عنها، ما دامت هي دولة المواطنين الأحرار، بدون تمييز عرقي أو عقيدي.
إن معنى المواطن هو أنه الشخص الإنساني المعين بذاته أولاً، ولا يمكن اسبتداله بسواه. يتمتع بحماية الآخر، كما هو الآخر حاميه على صعيد المساواة. يتمتع بحماية كل أقرانه، عن طريق القانون الذي يخضع له الجميع. ومن هنا يتقدم حق الأرض على رابطة الدم. وتغدو الهوية الجنسية تعبيراً عن رابطة العيش المشترك على أرض واحدة هي الوطن، والانضواء الطوعي إلى مشروع المجتمع المدني القائم. فالمواطنية انزياح واع عن الترابط الميكانيكي بالجذور العرقية، والذخيرة النفسية الغريزية التي تؤلف مضمونه اللازمني. لكن هذا الانزياح لا يبطل التراث، ولا يحرمه من حق التواصل معه. بل إنه يحوله من موروث تصنيمي إلى تاريخ إنساني، لا يُمتلك بقضه وقضيضه، ولا يُدافع عن أباطيله على ذات المستوى من حقائقه. إنه يدخل تحت طائلة الهوي النقدي المضطلع بمهمة إعادة النظر، والتصحيح، وتقويم الروابط العضوية على ضوء الفهم، وليس التسويغ وحده. فالعضوي، في العلاقات الهووية، يعبر عن الناتج المنعكس والانتقالي في السياق الاجتماعي دون أن يغطيه كلياً، أو يضع له حد النهاية؛ بما أن ربيع الأرض لا يختصره أي موسم سنوي واحد.