مدخل إلى الفكر الأنثروبولوجي والنظرية الأنثروبولوجية
مصطفى الزاهيد
”لاحظ الإنسان بصفة عامة
الفروقات القائمة بين شعوب الجنس البشري، كما اهتم بمعرفة الطبيعة
الإنسانية للإنسان و تفسير الاختلافات في الملامح الجسمانية، ولون البشرة
والعادات والتقاليد والفنون وغير ذلك من مظاهر الحياة. وفي إطار هذا
الإهتمام والتساؤل تطورت الدراسات خلال العصور وتبلورت بنشأة فرع جديد من
فروع المعرفة، اصطُلح على تسميته بالأنثروبولوجيا” أو علم الإنسان، فما هي
الأنثروبولوجيا؟ وكيف ظهرت الأنثروبولوجيا كعلم قائم بذاته وكتخصص أكاديمي؟
هل يوجد في القديم علم إسمه الأنثروبولوجيا؟ هل الأنثروبولوجيا وليدة
القرن التاسع عشر، أم أنها حصيلة تراكم معرفي حتم الشرط التاريخي اكتمال
معالمه وقيامه كفرع معرفي جديد؟ وأخيراً ما هي أهم الإتجاهات النظرية داخل
حقل الأنثروبولوجيا؟
حول تجديد المفهوميختلف تعريف مفهوم
الأنثروبولوجيا باختلاف المرجعيات الثقافية للباحثين الأنثروبولوجيين،
فهناك من يستخدم مفهوم الأنثروبولوجيا كمفهوم عام ليشمل كافة النواحي
الإجتماعية والثقافية للإنسان، أي: دراسة الإنسان ككل معقد، و دراسة إنتاجه
عبر التاريخ من ثقافة و تقاليد و عادات و معتقدات. وهناك من يطلقها لتقتصر
على ما هو عضوي أو حيوي في الإنسان ”فيستخدم الأمريكيون مصطلح
الأنثروبولوجيا الجسمانية، الفيزيقية Phisical Anthropology للإشارة إلى
دراسة الجانب العضوي أو الحيوي في الإنسان، بينما يستخدمون مصطلح
الأنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology ليعني مجموع التخصصات التي
تدرس النواحي الاجتماعية والثقافية لحياة الإنسان (يدخل في ذلك الدراسات
التي تتعلق بحياة الإنسان القديم أو حضارات ما قبل التاريخ) ”. فإذا كان
هذا الإهتمام بالأنثروبولوجيا كعلم يدرس الثقافة البشرية، بمعناها الشامل
داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فإن في فرنسا نجد العكس، فقد ارتبط مفهوم
الأنثروبولوجيا عندهم بدراسة التاريخ الطبيعي للإنسان، ويذكر الباحث
الفرنسي جان بواريه J.Poirier أنها ظهرت أولا في كتابات علماء الطبيعة إبان
القرن الثامن عشر، لتعني دراسة التاريخ الطبيعي للإنسانL’histoire
naturelle de l’homme، وربما كان عالم الطبيعة الألماني جوهان بلوميناخ في
رأي بواريه أيضاً أول من أدخل كلمة”الأنثروبولوجيا” في منهج تدريس التاريخ
الطبيعي في المقررات الجامعية، كما استخدمها في الطبعة الثالثة من كتابه
الذي صدر عام 1795 تحت عنوان ”عن التنوعات الطبيعية الجوهرية بين البشر”،
وإذا كانت الأنثروبولوجيا علما يهتم بدراسة الثقافات والتقاليد والعادات
وكل ما يتعلق بالإنسان، هذا يعني دراسة ذلك الكل المعقد الذي يُسمى ثقافة،
فإن هذه الدراسة تحتاج إلى مادة لتقوم بتحليلها وهذه المادة توفرها
الإتنوغرافيا والتي شكّلت على الدوام إرهاصاً تاريخياً لحقل معرفي سُمْيَ
بالأنثروبولوجيا.
وحول مصطلح الإتنوغرافيا ”نجده
يعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموع التقاليد والعادات والقيم
والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة أو مجتمع معين خلال
فترة زمنية محددة” بيد أن الأنثروبولوجيا تختلف عن الإتنوغرافيا، فهي لا
تعتمد على أسلوب الوصف فقط، بل تتعداه إلى تحليل هذه المادة الوصفية، وإلى
تركيبها بهدف الوصول إلى تصورات نظرية، فهي ”تهتم بالدراسة التحليلية و
المقارنة للمادة الإتنوغرافية بهدف الوصول إلى تصورات نظرية أو تعميمات
بصدد مختلف النظم الاجتماعية والإنسانية من حيث أصولها وتطورها وتنوعها.
وبهذا تشكّل المادة الإثنوغرافية قاعدة أساسية لعمل الأنثروبولوجي،
فالأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا مرتبطتان إذن بحيث تكمل الواحدة الأخرى”.
قد يكون هذا الاقتضاب المخل لا
يفي بالغرض، غير أنه يفي ببعضه، وجدير بخلق إرهاص للطالب حول إشكالية تحديد
مفهوم الأنثروبولوجيا بشكل عام وتحديده بحسب المرجعية الثقافية لكل مدرسة
أنثروبولوجية بشكل خاص.
التأصيل التاريخي للأنثروبولوجياتزامن تبلور حقل معرفي جديد
إسمه الأنثروبولوجيا بتوالي الكتابات حول تاريخ تبلور هذا الحقل المعرفي،
وذلك للتعريف بالجذور المعرفية والأصول النظرية لهذا الحقل. ”وباطلاعنا على
عدد من الكتابات عن تاريخ الأنثروبولوجيا، يمكن القول بصفة عامة :أنه
بالرغم من تعدد الإتجاهات في تناول هذا الموضوع، إلا أنه يمكن أن نشير إلى
ثلاث مقاربات رئيسة. هناك أولاً: من تناول الأنثروبولوجيا من خلال العرض
لمجموعة من الرواد الأوائل لهذا العلم والمحدثين على السواء”، و هناك مَنْ
تطرق لهذا العلم الجديد عبر المراحل التاريخية التي مر منها و اعتبر
الأنثروبولوجيا نتيجة لإسهام حضارات إنسانية، حيث لم تخلوا مرحلة تاريخية
من وجود إرهاصات لفكر أنثروبولوجي، ونحن نميل إلى العرض التاريخي الذي يوفي
الفكر البشري حقه ويجعل إسهامه بعيداً عن أي نزعة ذاتية. صحيح: أن
الأنثروبولوجيا كعلم لم تتبلور إلا في أواخر القرن التاسع عشر، لكن وصف
ثقافة الشعوب قد جذب العديد من المفكرين والرحّالة والمستكشفين، وحاول
بعضهم إعطاء تفسيرات لهذه الاختلافات، وإذا كان الإختلاف لا يُدْرَك لذاته
إلا عن طريق المقارنة والإتصال. فالحروب والرحلات التجارية والإستكشافية
وكذلك البعثات التبشيرية مثلاً ساهمت في حدوث اتصال بين الشعوب. ففي
الحضارة المصرية شكّلت الرحلات التجارية نقطة التقاء بالآخر والتعرف عليه
ثقافياً واجتماعياً، وفي هذا الصدد ”كتب مودي في عرضه لتاريخ الإتنوغرافيا
بأن الرحلة التي قام بها المصريون القدماء عام 1493 ق.م. تعد من أقدم
الرحلات التاريخية على الإطلاق ذلك حين أبحر في النيل باتجاه جنوب مصر
أسطول مكوّن من خمسة مراكب، و على متن كل مركب واحد وثلاثون فرداً، وذلك
بهدف تسويق بضائعهم النفيسة من البخور والعطور. وقد نتج عن هذه الرحلة
اتصال المصريين القدماء بأقزام إفريقيا، وإقامة علاقات معهم فيما بعد، وقد
صورت النقوش في معبد الدير البحري إستقبال ملك وملكة بلاديونت لمبعوث مصري،
كما أوضحت النقوش كذلك بعض تفاصيل الصفات الجسمانية لتلك الشعوب، وبدا
واضحاً ما اتصف به أهل المملكة من تراكم السُمْنَة بإفراط”. ولم يكتف
الإسهام بأفكار أولية في الأنثروبولوجيا فقط على الحضارة المصرية، بل حتى
في
الفكر الإغريقي نجد
مادة وصفية جاءت في كتابات عدد من الكتّاب الإغريق، مثل الشاعر اليوناني
هوميروس Homier الذي عاش خلال القرن التاسع أو الثامن ق.م.، وهو صاحب
ملحمتيّ الإلياذة والأوديسا. غير أن أشهر من نجد في كتاباته بوادر فكر
أنثروبولوجي داخل الفكر الإغريقي فهو المؤرخ هيرودوت الملقب بأب التاريخ
”ففي كتابه ‘التواريخ’ حرص هيرودوت على تقديم كل ما يستحق التسجيل عن
التاريخ الإنساني حتى زمانه، فقد قدم معلومات في تسعة فصول عن حوالي خمسين
شعباً من خلال رحلاته وقراءاته وذلك إلى جانب وصفه الدقيق للحرب التي دارت
بين الفرس والإغريق إبان القرن السادس ق.م.”، ولم يكتفي هيرودوت عند هذا
الحد، بل كان يصف المعتقدات والعادات ويقارن بين الشعوب وبين معتقداتها
وعاداتها وفي هذا الصدد يقول: ”وفي غير مصر يطلق كهنة الآلهة شعورهم، أما
في مصر فيحلقونها، ويقضي العُرْف عند سائر الشعوب بأن يحلق أقارب الميت
رؤوسهم أثناء الحداد، ولكن المصريين إذا نزلتْ بساحتهم محنة الموت فيطلقون
شعر الرأس واللحية”.
إن المادة التي قدمها هيرودوت
برأي الأنثروبولوجيين هي عبارة عن إرهاص لفكر أنثروبولوجي سيتبلور لاحقاً
في القرن التاسع عشر، لكن إلى أي حد وكيف يمكن اعتبار هيرودوت أول باحث
أنثروبولوجيا بصفة عامة ومؤسس إثنوغرافيا بصفة خاصة؟
تكمن أهمية هيرودوت في كونه
استطاع في ذلك الوقت المبكر أن يطرح فكرة وجود تنوع بين الشعوب في النواحي
الثقافية والسلالية واللغوية والدينية والعقائدية…ولم يفت هيرودوت أن يشير
إلى عناصر التبادل الثقافي واقتباس الشعوب بعضها عن بعض، وهو ما سيتبلور
داخل حقل الانثروبولوجيا بمفهوم التثاقف والإنتشار الثقافي مع المدرسة
الإنتشارية، وبصدد نقطة الانتشار والتثاقف بين الشعوب كتب هيرودوت أن
الإغريق قد أخذوا عن الليبيين الثياب والغناء والعربات. ويقول هيرودوت في
الفقرة 189 من النصوص الليبية: ”يبدو أن ثوب ودرع وتماثيل أثينا نقلها
الإغريق عن النساء الليبيات، غير أن لباس النساء الليبيات جلدي وأن عذبات
دروعهن المصنوعة من جلد الماعز ليست ثعابين بل هي مصنوعة من سيور جلد
الحيوان”.
وفي
العصر الروماني سيبتعد الفكر عن التجريد الذي تميّز به الإغريق، و البحث في المسائل
العقلية الخالصة ويتجه نحو الواقع الملموس، ومع ذلك ينفي الأنثروبولوجيون
أي وجود لإرهاصات فكر أنثروبولوجي في الحقبة الرومانية، باستثناء أشعار
كروس لوكريتيوس lecretuis (98-55 ق.م.) التي احتوت وبلا شك بعض الأفكار
الإجتماعية الهامة. إن القارئ لكتابه ‘طبيعة الأشياء’ الذي نُشرت ترجمته
الانجليزية في سلسلة penguin يجد أن لوكريتيوس تناول عدة موضوعات في ستة
أبواب رئيسية و ضمنها أفكاره ونظرياته عن المادة، وحركة وشكل الأجرام
السماوية، وتكوين العالم. وعلى سبيل المثال تطرق في الباب السادس خاصة إلى
فكرتيّ التطور والتقدم حيث تحدث عن الإنسان الأول والعقد الاجتماعي ونشأة
اللغة ونظاميّ الملكية والحكومة، إلى جانب مناقشته للعادات والتقاليد
والفنون والأزياء والموسيقى، ويرى بعض الأنثروبولوجيين أن لوكريتيوس إستطاع
أن يتصور مسار البشرية في عصور حجرية وبرونزية ثم حديدية
11. ”غير أن تدهور الإمبراطورية الرومانية صاحبه انتقال إلى
العصور الوسطى”، والتي تحددت بنهاية الإمبراطورية الرومانية حتى عصر النهضة حسب التحقيب
الأوربي.
و يذكر لنا المؤرخون أنه مع نهاية القرن الخامس الميلادي تقريباً بدأت
السلطة بروما في التدهور والانهيار ودخلت أوربا في فترة زمنية طويلة ترتبط
عادة في أذهان الأوروبيين بالنكسة الحضارية وارتداد الفكر إلى حقبة مظلمة،
وتُعرف هذه الحقبة ”بالعصور الوسطى”. وهي حقبة سيطرت فيها الكنيسة والفكر
اللاهوتي سيطرة مطلقة على جميع الجوانب الفكرية والاجتماعية والثقافية، حيث
أصبحت المعرفة خاضعة لسلطة المؤسسة ومعبِّرة عن إيديولوجيتها المتمثلة
بالكنيسة المالكة للحقيقة آنذاك –هذا برأي رجال الدين-.
وعن صلة هذه الحقبة بالفكر
الأنثروبولوجي، يمكننا أن نستشف ذلك من الموقع الجغرافي لأوربا و الذي
جعلها تنظر إلى الشعوب التي تقطن المحيطات الأخرى بكونها متبربرة، وعلى
أنها رمز الخطيئة الأبدية. هذا الجهل بعادات تلك الشعوب وتقاليدها إضافة
إلى التمركز الذاتي حول الدين المسيحي الذي فرضته الكنيسة كنموذج للخلاص،
جعل الأوربيين يتجهون إلى تطهير ذاتهم عن طريق الغزو والحروب رغم ظهور
إرهاصات للكتابة حول تلك الشعوب، إلا أن الوصف جاء غالباً في إطار من
التخيُّل وليس المشاهدة المباشرة. فنجد مثلاً ”أن الأسْقُف ‘إيزدور ISDOR’
كان قد أعد موسوعة عن المعرفة في القرن السابع ميلادي، وأشار فيها إلى بعض
تقاليد الشعوب المجاورة وعاداتهم ولكن بطريقة عفوية تتصف بالسطحية
والتحيّز، فقد ذكر مثلاً أن قرب الشعوب أو بعدها عن أوربا يحدد درجة
تقدمها، فكلما كانت المسافة بعيدة كلما كان الإنحطاط والتدهور الحضاري
مؤكداً، وليس هذا فحسب، بل: إنه وصف أولئك الناس الذين يعيشون في أماكن
نائية بأنهم سلالات غريبة الخلْقة، حيث تبدو وجوههم بلا أنوف”. ولم يتوقف
البحت الإتنوغرافي الذي شكّل بدايات الفكر الأنثروبولوجي في القرن التاسع
عشر على الأوربيين، ولم يبقى حكراً عليهم، بل كانت
هناك إسهامات للحضارة الإسلامية، وعلى سبيل الإيضاح: نشير هنا إلى كتاب البيْروني عن الهند، لِما حضي به من
شهرة كبيرة في الدوائر العلمية الأوربية ولِما احتواه من مادة إثنوغرافية
هامة، وهو بعنوان ”تحرير ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مردولة”،
وفيه وصف البيروني المجتمع الهندي من ناحية نظمه الدينية والاجتماعية
وأنماطه الثقافية،كما اهتم أيضا بمقارنة تلك النظم والسلوكيات الثقافية
بمثيلاتها عند اليونان والعرب والفرس، وقد أبرز البيْروني حقيقة ”أن الدِين
يلعب الدور الرئيسي في تشكيل الحياة في الهند وتوجيه سلوك الأفراد
والجماعات وصياغة القيم والمعتقدات ”.
عصر النهضة: تحول الكمّي والكيفي في نظرية علم الإنسانتكمن أهمية عصر النهضة بالنسبة
للأنثروبولوجيا في المادة الإتنوغرافية التي توافرت فيه والتي تُعتبر عملاً
أولياً في المعرفة الأنثروبولوجية، فمن خلال تدوين سِيَر الرحّالة وما
يشاهدونه، ومن خلال وصف الأقاليم والشعوب غير الأوربية، وقف العقل الأوربي
على حقيقة الجنس البشري، وعلى تنوعه وتنوع إنتاجه الحضاري ”وهو الأمر الذي
جعل المؤرخ الفرنسي ميشيليه MICHELET (1894-1798) يصف عصر النهضة بأنه كشف
للعالم وللإنسان” و في هذا يكمن في حقيقة الأمر موضوع الأنثروبولوجيا
وهدفها أيضاً، لذلك يجد المؤرخ لتاريخ الأنثروبولوجيا أو الكاتب لقصتها أن
لعصر النهضة ينابيعه الأنثروبولوجية الأصيلة والعميقة التي تتمثل في تحصيل
المعرفة عن ثقافات لم تكن معروفة من قبل”. كما لا يمكن إغفال الدور الحاسم
لرحلات الإستكشافية الأوربية ولعل أهمها ذاك الحدث الذي غير مجرى التاريخ
ومجرى الفكر كذلك ألا وهو اكتشاف العالَم الجديد عِبْر رحلة كريستوف
كولومبس (1886-1481). ”فمن الناحية الأنثروبولوجية نجد أن مذكرات كولومبس
عن رحلته ومشاهداته واتصالاته مع ‘أهالي’ العالَم الجديد قد زخرت بالمعرفة
والبيانات والشخصيات الإتنوغرافية، وفي الحقيقة أن الأمر لم يقف عند هذا
الحد بل اتصفت كتابات كولومبس أيضاً بميل نحو الموضوعية محاولاً تقصي
الأسباب وراء ما شاهده أو سمع عنه من تقاليد أو طقوس أو ممارسات يومية.
وتلك صفة قلما وجدت في الكتابات الإتنوغرافية التي كانت سائدة حينذاك”. ولم
يتوقف إسهام الإكتشافات الجغرافية فقط عند هذا الحد بل أعاد النظر في
الأحكام القيمية التي كان الأوربيون يصدرونها على الشعوب الأخرى، وكلها
كانت تتعلق بنفي انتمائها لنفس الوحدة البيولوجية التي ينتمي إليها النوع
البشري، و في هذا الصدد يشير جوزيف جيرنبرخ إلى بعض تلك التساؤلات على
النحو التالي ”هل الشعوب التي لم تُعْرف من قبل والتي أمكن التعرُّف عليها
عن طريق الإستكشافات، تنتمي إلى نفس النوع الذي ينتمي إليه الإنسان الغربي،
ومن ثم هل يتحتم المحافظة على أرواحها؟”. و في ضوء ما تقدم يمكن القول أن
”الإستكشافات الجغرافية ساهمت جنباً إلى جنب مع الإتجاه العلمي، علاوة على
سيادة المذهب الإنساني، بل وقد أثروا جميعهم ولا شك ولو بدرجات متفاوتة وفي
مجالات متباينة في تشكيل منطلقات الفكر الاجتماعي النظري، وفي إبراز
اهتمامات جديدة في مجال دراسة الإنسان الأوربي وغيره”.
كل هذا، شجع على الإهتمام
بالإنسان وبدراسته وبتطوره وتطور إنتاجه الثقافي واختلافه، فظاهرة التنوع
الحضاري بين البشر الذي أبرزَته وأكدَته كتابات الرحّالة، جعل الأوربيين
يتجهون نحو فحص الذات والتأمل في أحوالهم. أجل فعلوا ذلك عن طريق المقارنة
بين أنفسهم وبين الشعوب المكتشفة في ضوء ما ورد عنها من كتابات وأوصاف،
لأنه قد ساد بصفة عامة نوع من التأملات التجريدية والرومانتيكية عن الحياة
البدائية والطبيعية وربما ترجع أولى المحاولات لتدوين المادة الإتنوغرافية
والتنظير بشأنها إلى الرحالة الإسباني جوزيه اكوسا J.Acosa في القرن السادس
عشر، حينما حاول ربط ملاحظاته الشخصية عن السكان الأصليين في العالم
الجديد ببعض الأفكار النظرية، ”فقد افترض مثلاً أن الهنود الحمْر كانوا قد
نزحوا أصلاً من آسيا إلى أمريكا وبذلك فسر اختلاف حضارتهم عن تلك التي كانت
سائدة في أوربا حينذاك، كذلك قدم أكوسا فرضية أخرى حول تطور الحضارة
الإنسانية عبر مراحل معينة، وقفت فيها أوربا بأعلى السُلَّم وأتت بعدها
الصين في المرتبة الثانية لمعرفتها الكتابة بينما احتلت المكسيك مرتبة أدنى
من ذلك، أما المجتمعات الأخرى فقد تم تصنيفها على درجات متباينة في أسفل
السُلَّم، وقد أقام أكوسا تصنيفاته على أساس معرفة الشعوب بالكتابة و
القراءة ”.
ولم يعد الوصف كافياً بل بدأ
المفكرون والباحثون في استخلاص أفكار نظرية من تلك المادة الإتنوغرافية
التي يوفرها المستكشف أو الرحالة مثلاً، ولم تعد الكتابات تستمد مصداقيتها
من الخيال، بل أصبحت تتجه نحو البحث الميداني، وكانت أهم الخطوات في مجال
البحث الميداني ضمن حقل الأنثروبولوجيا تلك التي قام بها الفرنسي ميشيل دي
مونتاني M.de Montaigne (1892-1532)الذي أجرى مقابلات مع مجموعة من السكان
الأصليين الذين كان بعض المكتشفين قد أحضروهم إلى أوربا، و استخدم مونتاني
هؤلاء الأسرى كإخباريين أي أنه جمع منهم معلومات عن العادات والتقاليد
السائدة في موطنهم الأصلي. وخرج من ذلك بمقولة أنه لفهم العالم لا بد من
دراسة التنوع الحضاري للبشر واستقصاء أسبابه، لذلك تسنى لأوربا أن تفهم
ثقافات الشعوب الأخرى باعتبار أن لها منطلقاتها وأخلاقياتها الخاصة بها،
وبالتالي نجد هذا الفيلسوف الفرنسي قد طرح فكرة ”النسبية الأخلاقية Moral
Relativity” على حد تعبير إيدموند ليتش. وقد كتب مونتاني يقول ”بأن الوضع
الحضاري الذي يصفه البعض بالهمجية ليس إلا وصفاً حضارياً مماثل لما لدى
الأوربيين، فمن المحتمل في نظره أن يكون المجتمع الأوربي ذاته قد مرَّ
بمرحلة مماثلة (يقصد هنا الهمجية)، الأمر الذي تطلب ضرورة فحص التطور
الحضاري للمجتمع الأوربي ذاته”. وإلى جانب مونتاني نشير إلى عالِمين
فرنسيين آخرين من مفكري القرن الثامن عشر واللذان يرى الأنثروبولوجيون في
أعمالهما جذورا للفكر الأنثروبولوجي النظري، وهما البارون دي مونتسكيوB.de
Montesquieu (1758-1689) وجان جاك روسو J.J.Rousseau (1778-1711).
إن أهمية مونتسكيو بالنسبة
للأنثروبولوجيا الإجتماعية بصفة خاصة تبدو أول وهلة عندما تطلع على كتاب
إيفانز بريتشارد بعنوان ‘تاريخ الفكر الأنثروبولوجي’ فنجده يبدأ
بمونتيسكيو، أما عن جان جاك روسو الذي يعتبره كلود ليفي شتراوس بمثابة
‘المعلم والأخ’ والذي تأثر به تأثراً كبيراً، وهو ما سنوضح فيما بعد، فقد
جاء فكره مناقضاً لمونتيسكيو وغيره من فلاسفة عصر الأنوار المتفائلين
والذين اعتقدوا في التقدم، فقد رأى روسو أن الإنسانية تسير نحو طريق مسدود
ولا مجال للتقدم والكمال. ومع ذلك تحتل كتابات روسو مكانة هامة عند التأريخ
للأنثروبولوجيا في القرن الثامن عشر نظراً لِما تضمنته من تناول للمادة
الإتنوغرافية عن الشعوب المستكشفة (أو ما اصطلح على تسميتها آنذاك
بالمجتمعات البدائية)، في إطار من المقارنة مع المجتمعات الغربية والخروج
ببعض الأفكار والأطر النظرية في فهم مسار التاريخ الإنساني ككل، وتحديد
مراحل تقدم البشرية، وفي هذا الصدد تميز روسو، ولا شك، عن معاصريه، من
ناحية أن تفكيره في التاريخ لم يكن مقيداً بحدود حضارية أو زمنية، ولعله من
الأشياء الهامة التي تضمنت كتابات روسو، من وجهة نظر الأنثروبولوجيا، أنه
استطاع أن يخلّص نفسه من التحيّز الثقافي لمجتمعه، وأن ينقد قيمه بينما
يشيّد ويستحسن طرق حياة الشعوب في المجتمعات الأخرى، ويُعتبر كتابه العقد
الاجتماعي le contract socialمن بواكير الكتابات الأنثروبولوجية”.
الخميس أكتوبر 25, 2012 3:25 pm من طرف بن عبد الله