كانت مناسبة مهمة وطريفة، حين التقيت مجموعة من
الباحثين والأساتذة والطلبة العاملين في حقل
الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وذلك بهدف مناقشة
مسألة برزت مجدداً وبحدّة خاصة في أوساط من
المثقفين والعاملين في السياسة الثقافية السورية.
أما المسألة فهي ضبط العلاقة بين الأنا والآخر،
وبين الداخل الوطني والخارج الكوني.
وزادت راهنية هذه المسألة حتى على الصعيد
السياسي المباشر، وذلك في إطار ما طرحه البعض ضمن
التساؤل حول إمكانية استقراء داخل محلي وطني ما
بالخارج العالمي، الأوروبي والأميركي وغيرهما.
وظهر أن إشكالاً معيناً أخذ يُفصح عن نفسه في سياق
الإجابة عن ذلك التساؤل، وهو إشكال أمكن السير به
إلى أقصاه السياسي، حين راح البعض يرى أنه لا
غضاضة من الاستقواء بالخارج الأميركي والأوروبي في
سبيل حل مشكلات أو أخرى في العالم العربي، أو في
أحد بلدانه، وذلك بالتناقض مع إرادة النظم
السياسية القائمة هنا.
على هذا النحو، ربما نواجه لأول مرة بوضوح كثيف
ومباشرة ثقيلة مسألة فكرية بتجلّيها العملي، دون
خوف أو تقيّة. وللتدقيق في ذلك، يحسن بنا أن نعود
إلى خلفيته وجذره النظري والمنهجي. وهنا، نأتي على
فكرة طرحها "المنجي بوسنينه" مدير عام المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) في
ملتقى أوروبي نظمه مجلس أوروبا بلشبونة، وفي إطار
إعداد "الكتاب الأبيض حول حوار الثقافات" في العام
المنصرم، قال "بوسنينه": إن التردد بين التمسك
بالهوية الثقافية وبين الانطلاق إلى الكونية ولّد
مفارقة ملحوظة بين خطاب يدعو إلى التنوع الثقافي
من ناحية وبين عودة من ناحية أخرى، إلى الانطواء
على الذات وإلى ردود الفعل النمطية المكبوتة بخصوص
رفض الآخر، والتي كنا نظنها قد زالت إلى
الأبد.
لاشك أن ما طرحه الأستاذ "بوسنينه"، يمثل مشكلة
عريقة في التاريخ الثقافي العربي، وربما منذ إخفاق
النهضة العربية الحديثة وأواخر القرن التاسع عشر
والنصف الأول من القرن العشرين. وبتعبير آخر، إن
التعثر في الإجابة عن المشكلة إجابة عينية عملية
في مختلف العلاقات القائمة وغير القائمة بين
المجتمعات العربية والمجتمعات الأخرى في العالم
ومن ضمنها المجتمعات الغربية، إنما هو تعبير صريح
عن ذلك الإخفاق النهضوي، والإقرار بهذا المعطى
يمثل بداية الموقف. ذلك أن العالم العربي ما إن
راح يعيش بواكير تجربته النهضوية (في مصر والشام
والعراق وتونس) حتى بدأ يتلمس شيئاً فشيئاً حقيقة
قاسية، هي أن هناك من الشعوب (في الغرب) من كان قد
نهض بقوة عارمة، وأخذ يؤسس لهذا النهوض في كل أو
معظم الحقول المجتمعية أولاً، وأن هذه الشعوب
انطلقت في ذلك الاتجاه النهضوي من موقع القوة
التاريخية وعلى نحو يؤسس لهيمنة نظمها الاقتصادية
والعلمية على شعوب العالم الأخرى ثانياً، ومن ثم
فقد غدت إمكانات التثاقف والتحاور بينها وبين
العالم العربي ضئيلة، بل مشت في طريق التضاؤل
لصالح مقتضيات الهيمنة عليه، وهي مقتضيات تبدأ
بالتهميش والاحتقار الذاتي لتصل إلى السيطرة
والقهر الاقتصادي والثقافي والسياسي، وما يقتضيه
الموقف، من هنا نفهم الدور التاريخي لظاهرة كبرى
مثل الاستعمار والإمبريالية والأبارتهيْد، في كبح
تطور العرب وغيرهم.
إنه "التردد" الذي تحدث عنه "بوسنينه" بين
التمسك بالهوية الثقافية (من قبل العرب) وبين
الانطلاق إلى الكونية، هو حالة تاريخية بامتياز،
ومن ثم إذا ظهر التردد بمثابة حالة سيكولوجية
ذاتية وأيديولوجية، فإن إحالته إلى تاريخية يسمح
لنا أن نضع أيدينا على جذوره ومظانّه أولاً، ويفتح
الباب أمامنا لمواجهته مواجهة تنطلق من أنه ظاهرة
قابلة للتجاوز ثانياً، مع الإشارة إلى ضرورة الأخذ
بالاعتبار أن التمسك بالهوية الثقافية العربية ليس
رذيلة بقدر ما هو فضيلة، حين يأتي التزاماً جدلياً
معمقاً بها وبالتاريخ المفتوح، الذي أنتجها ضمن
رؤية استراتيجية مُفعمة بالعقلانية والتنوير،
وبالفهم المتوازن للعلاقات القائمة بين الأنا
الحرة بوصفها مدخلاً إلى الهواء المحَّرر من طغيان
الهيمنة على الآخر وهوسها القاتل. ونظن أن هذا
الموقف هو المدخل إلى الحوار مع الغرب، وليس هو
وهم الاندماج به.