الهوية المركبة :ادغار موران
* الهوية المركبة :ادغار موران
كيف
يمكن أن نتجاوز كل هذا العنف وهذه الفوضى التي تلف عالمنا المعاصر؟ وكيف
يمكن أن تجاوز كل هذه التناقضات التي تزداد يوما بعد يوم وضوحا ما بين
"الخير" و"الشر"؟ وكيف يمكن خاصة أن نأتمن هذا المستقبل الذي يتجه بشكل
ثابت نحو اللايقين والعماء المطلق؟ تمثل مقاربة هذه التساؤلات وخاصة البحث
عن إجابة، تكون ايجابية لها، رهان ومشروع ادغار موران كما عمل على توضيحه
في الجزء الأخير(السادس) من مؤلفه الضخم "المنهج" La Méthode. يلاحظ موران
بداية أن السؤال عن الإنسان لم يعرف حضورا وكثافة مثلما يعرفه اليوم داخل
الثقافة المعاصرة. إن السؤال عن هوية الإنسان هو سؤال ثقافتنا المعاصرة
بامتياز. تعود كثافة حضور هذا السؤال ليس لما تعرفه حضارتنا من كثافة العنف
ووحشيته، فالعنف خاصية ملازمة للتاريخ البشري، وإنما لشيوع وكثافة حضور
صور العنف ذاته و الذي لم يعد بالإمكان إخفائه تحت تأثير الآلة الإعلامية
الضخمة اليوم كما تتجسد خاصة في التغطية الإعلامية التلفزية. السؤال عن
الإنسان هو سؤال الراهن المرتبط بالمفارقات التي تشق الوجود الإنساني.
تتعلق هذه المفارقات بتوزع الوجود الإنساني بين البناء والتهديم، وقدرة
الإنسان اللامتناهية على الإبداع والتسامي ولكن كذلك هوسه بالعنف والتحطيم
وتهديد الحياة، تمسكه بأكثر المعتقدات سحرية وأسطورية ولكن كذلك إبداعه
للفلسفة العلم، قدرته على الحب كما الكراهية.
انطلاقا من هذه المفارقات
التي تشق الوجود الإنساني يقر ادغار موران أن الهوية الإنسانية هي هوية
قائمة على الكثرة، كثرة هي من صلب الوجود الإنساني ذاته، كثرة تتجلى في كون
الإنسان هو كائن صانع و كائن اقتصادي وكائن المعرفة وكائن الانفعالات
والرغبة، وهو الكائن الخير كما الكائن القادر على الإتيان بأعتى صنوف
الشر... لذلك لا يمكن مقاربة الإنسان من جهة الوحدة ولا تعيين هويته كهوية
بسيطة. إن الهوية الإنسانية هي هوية مركبة، وسواء تعلق الأمر بالأفراد أو
بالثقافات فنحن أمام واقع إنساني يرتبط بالكثرة كما تتجلى في مفهوم "الهوية
المركبة".
هذه الهوية المركبة، والمميزة للإنساني في الإنسان، لا يمكن
مقاربتها إلا من خلال فكر هو ذاته مركب، منفتح على على معاني الأزمة
والفوضى والصدفة واللايقين...المميزة لوجودنا الراهن. هذا "الفكر المركب"
هو"تفكير يربط" pensée qui relie هذه الفوضى و هذا الشتات الذي يبدو لنا
غير قابل للربط ويجعل بالتالي من هذه الفوضى التي تسم واقعنا الإنساني أقل
بؤسا وعنفا. وبقدر ما أن هذا النمط من التفكير يمثل أداة مثالية بالنسبة
للذكاء العملي، بما يمنحه من إمكانات على صعيد الممارسة السياسية لتجاوز
مشكلات الوجود المشترك و تنظيم الشأن العام، فانه قادر على تنظيم "معيش" كل
فرد في إطار حياته الخاصة، كذلك، بما يضفيه من وحدة على علاقات ومواقف
كانت تبدو، لكل واحد منا، معزولة و مستقلة بذاتها.
هذه الهوية المركبة،
والتي من مهمة الفكر المركب الكشف عنها يفهمها ادغار موران بما هي نتاج
لترابط أبعاد ثلاثة هي التي تشكل حقيقة الوجود الإنساني؛ البعد البيولوجي
والبعد الاجتماعي والبعد الثقافي. يمثل البحث عن الرابط بين هذه الأبعاد
الثلاثة وإبراز وحدتها المركبة الخيط الناظم الذي قاد فكر ادغار موران. على
هذا الأساس تتضافر في تشكيل الإنساني في الإنسان ثلاثة حدود يسميها موران "
الثلاثية الإنسانية" المتمثلة في "الفرد" و"المجتمع" و"النوع"، وحتى وان
كان من الممكن التمييز بينها فانه يضل من غير الممكن الفصل بينها. بذلك فان
الفرد يحمل داخل خصوصيته الفردية البيولوجية كامل البعد الثقافي المميز
للنوع الإنساني كما كامل الخصائص القيمية/الاجتماعية المميزة للمجتمع الذي
ينتمي إليه. إنه الصورة المجسمة التي تحوي داخلها الكل: خصائص النوع
الإنساني الكونية كما مميزات الثقافة الخصوصية التي ينتمي إليها، فيما يبقى
مع ذلك وحدة متميزة ومتفردة.
تجد هذه الهوية المركبة أساسها في
"الطبيعة المزدوجة" للوجود الإنساني. فإذا ما كان كل فرد، وبما هو فرد،
يحمل ضرورة خاصيات بيولوجية و نفسية تحدد وتتجلى فيها فرديته وتمايزه عن
الغير، وهذه الخاصيات البيولوجية هي التي تحفظ بقائه وتضمن استمراريته ،
فان هذه الخاصيات ليست ثابتة أو نهائية، وإنما خاضعة للتغير و قابلة
للصيرورة بفعل التأثير الذي تمارسه مقتضيات الوجود الاجتماعي والثقافي على
وجودنا الفردي، والتي تجعله، ضرورة، منفتحا على الغير، إذ أن هذا الانفتاح
على الغير هو الذي يربطنا بحدود الوجود الثقافي والاجتماعي، وهذا البعد
الاجتماعي الذي يفرض انفتاح الكائن الإنساني على الغير يجد عمقه الحقيقي في
اشتراكنا مع بقية البشر في الانتماء للنوع الإنساني وفي إطار كونية الوجود
الإنساني، لذلك وتحت تأثير هذه المقتضيات الاجتماعية والثقافية التي تحكم
وجودنا الإنساني، فانه لا يمكن الحديث عن هوية فردية خالصة تتشكل داخل
الأنا على نحو يستبعد حضور الغير ويستعديه، كما لا يمكن للكائن الإنساني أن
يذوب في المجتمع أو في النوع لأنه في هذه الحالة لن يستمر في البقاء أصلا.
يتعلق الأمر، إذن، أن ننظر في عمق الكائن الإنساني ذاته وما يتقوم به من
كثرة لتأسيس ايتيقا تكون قادرة على الاضطلاع بضمان هذا التلاقي مع الغير في
إطار ما يميزه من طبيعة مزدوجة.
تجد هذه الإيتيقا أساسها في عمق
الطبيعة الإنسانية المزدوجة وهي تتشكل لدى الفرد في إطار وعي أخلاقي ذا بعد
تاريخي يتحدد بتطور العلاقة ما بين الفردي والاجتماعي والكوني. وهذا الوعي
الأخلاقي الفردي ليس غير نتاجا تاريخيا لتطور العلاقة بين الأبعاد الثلاثة
المكونة للوجود الإنساني: الفرد والمجتمع والنوع. في إطار هذه الايتيقا
يكون الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يربط الفرد بالغير. لتكون الإيتيقا
ذاتها إيتيقا مركبة.
إن هذه الإيتيقا المركبة تربط، بداية، الذات
بذاتها، حين تجعلها قابلة وقادرة على مراجعة ذاتها والقيام بعملية نقد ذاتي
، والتخلي خاصة عن ما اعتادت عليه من تبرير ذاتي لكل أفعاها و أخطائها ورد
الخطأ إلى الغير ، ولكن هذه الإتيقا كما تربط الذات بذاتها فهي تربط الذات
بالغير. ليفيد مفهوم الإيتيقا المركبة الانفتاح على الغير والتضامن معه
والقدرة على مراجعة الذات والاعتراف بالخطأ. ليتعلق الأمر بإيتيقا الفهم
المتبادل بين الذات والغير.
يتعلق الأمر في نهاية المطاف لا أن نقف عند
هذا التعقيد المميز لوجودنا الإنساني ولكن أن ننفتح على هذا الغير لأنه
بانفتاحنا عليه ننفتح على ذواتنا أصلا.
المكتسبات
* يتنزل
تفكير "ادغار موران" في مسألة التواصل في إطار حالة الفوضى و العنف المميزة
لحضارتنا المعاصرة بما يجعل من تاريخ الانسانية مهدد بشكل جدي.
* يعود هذا العنف المستشري داخل حضارتنا إلى التناقضات التي تتحكم في الطبيعة الانسانية بين قطبي الخير والشر الذان يتملكانه.
*
الهوية الانسانية قائمة على منطق الكثرة التذي يتجلى في ارتباط هذه الهوية
بثلاثة أبعاد هي الهوية الفردية البيولوجية والهوية الثقافية و انتمائه
للنوع الانساني.
هذا التركيب هو الذي يفرض على الأنا الانفتاح على بقية
مكونات هويته، و تجاوز فرديته الضيقة، فيكون من الضروري بالنسبة له أن
ينفتح على الاخر الذي يشترك معه في الانتماء لنفس الثقافة كما مه الآخر
الذي يشترك معه في صفة أعم هي الانتماء الانساني.
يستلزم هذا الانفتاح
على الابعاد الثلاثة المكونة للهوية الانسانية تأسيس ايتيقا تكون ذاتها
مركبة تقوم على أساس قدرة الفرد على مراجعة ذاته قيما وممارسة، والقبول
بالاخر.
الإثنين أكتوبر 22, 2012 3:02 pm من طرف نابغة