ذاكرة الغرب المكبوتة وتاريخه المشوّه
كتبهابدرالدين القمودي ، في 26 يناير 2009
الساعة: 20:08 م
عن لوموند ديبلوماتيك عدد جانفي 2009
من معركة ترموبيل إلى اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر
في العام 1927، بدأ هنري ماسي الكاتب
السياسي النافذ غزير الإنتاج حملةً قويّة على المخاطر التي بدأت تتزايد على
الأفكار والقيم الأوروبية، التي تماهت عنده إلى حدٍّ بعيد مع الفرنسية
منها. فقد كتب يقول: إنّ مصير الحضارة الغربية، بل حتّى مصير الإنسانيّة
برمّتها مهدّدان اليوم. (…) وهذا ما يؤكّده لنا كلّ المسافرين إلى الشرق
الأقصى، وكلّ الأجانب المقيمين فيه منذ زمنٍ بعيد: ففي غضون عشر سنوات،
تغيّرت الذهنيات في العمق أكثر ممّا كانت قد تغيّرت في عشرة قرون. وقد حلّت
مكان الانصياع العريق والسهل عدائيّة خفيّة، وأحياناً كراهية فعليّة لا
تنتظِر سوى اللحظة المناسبة لكي تُترجَم عمليّاً. فمن كالكوتا إلى شانغهاي،
ومن السهوب المنغولية إلى سهول الأناضول، تنتاب آسيا بمجملها رغبةٌ جامحةٌ
في التحرّر. فالتفوّق الذي تعوّد الغرب عليه من يوم أوقف جان سوبييسكي
نهائياً هجمات الأتراك والتتر عند أبواب فيينا [1]،
هذا التفوّق لم يعُد الآسيوون يعترفون به. فهذه الشعوب تتطلّع إلى إعادة
توحيد صفوفها ضدّ الرجل الأبيض الذي يرون فيه الطامة الكبرى [2]. في الحقيقة لم يكن ماسي مخطئاً بالكامل؛ ففي كلّ مكان، كانت ترتسم في الأفاق انتفاضات الشعوب المستعمَرة. وقد انبعثت المخاوف نفسها في سياقٍ مختلف
تماماً عن ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ وهو أيضاً تميّز بهزّاتٍ
قويّة متلاحِقة، من إنتهاء الحرب الباردة إلى اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر،
ومن حربي العراق إلى أفغانستان إلخ، وخصوصاً مع إعادة تنظيم العالم لصالح
القوى العظمى الجديدة الناشئة مثل الصين أو الهند. ففي اقتباسٍ لمفهومٍ
مانويّ للتاريخ، على أنّه مواجهة متجدّدة باستمرار بين التمدّن والبربرية،
يأخذنا بعض الكتّاب، غالباً من اللامعين، في آليّةٍ تعيدنا في الزمان إلى
أصول حرب الـ2500 عام هذه، التي تدمي العالم اليوم، بحسب العنوان الثانوي
لكتاب أنطوني باغدين: عوالم متحاربة (Worlds at war).
لقد درّس هذا البروفسّور في أكثر الجامعات
تميّزاً: أوكسفورد وكامبريدج وهارفارد. وهو يرسم في حوالى 500 صفحة لوحةً
مضخّمة لتاريخ العالم. لقد انطلقت الشعلة من طروادة، وظلّت متّقدة بشكلٍ
دائمٍ عبر العصور؛ وقد جاء بعد الطرواديين الفُرس، وبعد الفُرس الفينيقيون،
وبعد الفينيقيين الإسبارطيون، وبعد الإسبارطيين الساسانيون، وبعد
الساسانيين العرب، وبعد العرب الأتراك. (…) تغيّرت خطوط المواجهة وكذلك
هويّات الخصوم. إلاّ أنّ الطريقة التي فهم بها الفريقان ما يفصل بينهما قد
ظلّت ثابتة، مستندةً كما كان الأمر دوماً على رؤى، على ذاكرات تاريخية
متراكمة، بعضها صحيح والبعض الآخر مغلوط كلّياً.
وبالرغم من هذا التحفّظ البسيط على
الذاكرات المغلوطة كلّياً، يستعيد الكاتب، في سياق تحليله، رؤيةً ثنائية
الطرف، بدأ فصلها التأسيسي مع المواجهة بين الإغريق والفرس التي رواها
المؤرّخ اليوناني هيرودوتوس.
وبحسب باغدين، فإن هيرودوتوس قد برهن أنّ
ما يفرّق الفرس عن الإغريق، أو الآسيويين عن الأوروبيين، كان أعمق من
نزاعات سياسية صغيرة. بل كان طبيعة النظرة إلى الحياة، وطريقة فهم ما يعني
الوجود والعيش كإنسان. وفي حين كانت للحواضر اليونانية، وبشكلٍ أوسع لحواضر
أوروبا، شخصيّاتها البالغة التنوّع ومختلف أنواع الأنظمة المجتمعيّة، بحيث
كان يطيب لها أن تخون بعضها البعض إذا رأت ذلك من مصلحتها، إلاّ أنّها
كانت تتشارك في عناصر رؤية العالم. إذ كان بإمكانها جميعها أن تميّز بين
العبودية والحرّية، وكانت تتشاطر كلّها فيما بينها ما نعتبره اليوم النظرة
الفرديّة إلى البشرية.
لا يختلف هذا عمّا يقوله بول كارتليدج،
أستاذ التاريخ اليوناني في جامعة كامبريدج، في مؤلّفه حول معركة ترموبيل
Thermopyles، هذه المعركة التي غيّرت وجه العالم. فقد كتب في مقدّمة
الكتاب: إنّ هذه المواجهة بين الإسبارطيين وسائر الإغريق من جهة وبين الهمج
الفرس (وكانت قوّاتهم تضمّ بالمناسبة بعض الإغريق) من جهة أخرى، كانت بين
الحرّية والعبودية، وتلك بقيت النظرة إليها منذ الزمن الذي وقعت فيه. (…)
هكذا شكّلت معركة ترموبيل باختصار منعطفاً، ليس في تاريخ الإغريق
الكلاسيكيّ فحسب، بل في تاريخ العالم…. ألم يؤكّد عالم الاقتصاد جون
ستيوارت ميل في أواسط القرن التاسع عشر أن معركة الماراتون كانت أكثر
أهمّيةً من معركة هاستينغز [3]، حتى بالنسبة إلى التاريخ البريطاني؟ لمعاقبة قبيلة من الزنوج، يجب إحراق قراها لا يخفي جون كارتليدج رؤيته الإيديولوجية
في مقدّمة كتابه: فقد جدّدت أحداث 11 أيلول/سبتمبر في نيويورك وأحداث 7
تموز/يوليو في لندن ضرورة وأهميّة هذا المشروع (أي فهم مغزى معركة
ترموبيل)، في سياق اللقاء الثقافيّ بين الشرق والغرب. ولم يكن هذا اللقاء
بالنسبة له سوى الصدام بين الاستبداد والحرّية…
وقد تمّت إشاعة هذا التصوّر الأكاديمي عبر
فيلمٍ يحيي معركة ترموبيل عُرِضَ في 2007، تحت عنوان 300، من إخراج زاك
سنايدر، مأخوذٍ عن قصّةٍ مصوّرة تحمل الاسم نفسه ألّفها فرانك ميللر ولين
فارلي. ويستغرق هذا الفيلم، الذي حقّق أرقاماً قياسية في المشاهدة، ساعتين
كاملتين؛ وهو يشبه لعبة الفيديو التي يهيمن فيها رجالٌ أشدّاء مفتولو
العضلات، تناولوا منشّطات، في مواجهة مع برابرة (سود أو ذوو أشكال
شرق-أوسطيّة) مخنّثين، يُمكن القضاء عليهم دون أيّ عذاب ضمير. لا أسرى، هذا
ما يصرخ به البطل، الملك ليونيداس، وهو نفسه الذي نراه في بداية الفيلم
يقتل السفير الفارسي: إذ أن الوحوش لا يستحقّون أن تطبّق عليهم أكثر قوانين
الإنسانية قداسةً.
التمدّن يعني إذن إبادة البرابرة! هكذا
كان هاينريش فون ترايشكي، الخبير الألماني في العلوم السياسية، قد بيّن،
منذ العالم 1898، ما كان يبدو لعددٍ من معاصريه أمراً مفروغاً منه: يصبح
القانون الدولي كلاماً فارغاً إذا أردنا أن نطبّق مبادئه أيضاً على الشعوب
البربريّة. فمن أجل معاقبة قبيلةٍ من الزنوج يجب إحراق قراها؛ ولا يمكن
إنجاز أيّ شيءٍ من دون أن نصنع أمثولات من هذا النوع. فلو كانت
الامبراطوريّة الألمانية قد طبّقت القانون الدولي في حالات مماثلةٍ فلن
يكون ذلك من باب الإنسانية أو العدالة، بل من باب الضعف المُهين.
ولم يعترِ الألمان أيّ ضعفٍ عندما أبادوا
شعوب الهيريروس في جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا الحالية) ما بين العامين 1904
و1907، مدشّنين بذلك أولى الإبادات الجماعيّة في القرن العشرين، والتي
اتُّخذت مع الكثير غيرها نموذجاً ومبشّراً لإبادة اليهود الجماعيّة على يد
ألمانيا النازية.
يبتديء تاريخنا مع الإغريق الذين ابتكروا الحرية والديموقراطية هكذا لا يمكن اتّهام سبارطيي فيلم 300
بالـضعف. فهم يقتلون الأولاد المصابين بعاهات ويحظِرون مجلس الشيوخ على
النساء. أمّا الحرب فهي قمّة إنجازات الرجال. ولا يخفي فرانك ميللر، صاحب
فكرة القصّة المصوّرة، خياراته الإيديولوجية: تواجه بلادنا (الولايات
المتحدة) حالياً، وكذلك العالم الغربي بأكمله، عدوّاً وجوديّاً يعرف هو ما
الذي يريده تحديداً.
يزعم بول كارتليدج أنه لا وجود لأيّ مصدرٍ
فارسي عن الحروب الميديّة، إذ ليس بين الفرس أيّ هيرودوتوس. و لكنّه
تراكمت في الحقيقة الكثير من المعارف حول الإمبراطوريات الفارسية وأدّت إلى
تغيير المنظور. هكذا يذكّر توراج داريائي، أستاذ التاريخ القديم في جامعة
كاليفورنيا (فولليرتون) [4]،
على الأخصّ أن الرقّ لم يكُن شائعاً فيها كثيراً، في حين كان قائماً بشكلٍ
واسع في اليونان؛ وأن وضع المرأة فيها لم يكن بأدنى ممّا كان عليه في
اليونان؛ وأن أوّل ميثاقٍ معروف تاريخيّاً عن حقوق الأفراد قد أعلنه قورش
الكبير في نصٍّ قانوني قرّرت الأمم المتحدّة في العام 1971 أن تترجمه إلى
كلّ اللغات، وهو يشمل بشكلٍ خاصّ التسامح الديني وإلغاء العبودية وحرّية
اختيار نوع المهنة.. إلخ. فهل هناك ما هو طبيعيّ أكثر من أن يكون
الإغريق قد قدّموا انتصارهم وكأنّه انتصارٌ على البرابرة، وذلك عبر
هيرودوتوس، الذي كان على أيّة حال أقلّ كاريكاتوريةً من ورثته؟ فمنذ أن
قامت الحروب، والمتحاربون يلبسون أنفسهم بالمبادئ الرائعة. ألم تكّن الحروب
التي خاضتها الولايات المتحدة في العراق أو في أفغانستان، بنظر زعمائها
على الأقلّ، هي حروب الخير على الشرّ؟ لكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا ما
نزال، بعد 2500 عاماً، مهووسين إلى هذا الحدّ بالإغريق؟
يقدّم مارسيل ديتيان، الأستاذ في جامعة
جون هوبكينز ومدير الدراسات في المعهد التطبيقي للدراسات العليا في العلوم
الاجتماعيّة، جواباً ساخراً عن ذلك: لقد كتب لافيس في توجيهاته
Instructions [5] أنّ
ما يجب أن نعلّمه لطلابنا في المدارس الثانوية، من دون أن يتنبّهوا لذلك،
هو أنّ تاريخنا قد بدأ مع الإغريق. أنّ تاريخنا قد بدأ مع الإغريق الذي
ابتكروا مباديء الحريّة والديموقراطية، وحملوا إلينا مفاهيم الجمال والنزعة
الكونية. فنحن ورثة الحضارة الوحيدة التي قدّمت للعالم التعبير الأكمل
والمثالي عن الحرّية. وهذا ما يوجب أن يكون تاريخنا قد ابتدأ مع الإغريق.
وقد أضيفت إلى هذه العقيدة الأولى عقيدة أخرى، لا تقلّ قوّةً عنها: أنّ
الإغريق ليسوا كغيرهم من البشر. فكيف لهم أن يكونون مثل غيرهم وهم يشكّلون
بداية تاريخنا؟ ها هنا مدخلان أساسيان لميثولوجيا وطنيّة بلغت مداها عند
الإنسانيين التقليديين ولدى المؤرّخين المهووسين بفكرة الأمّة القوميّة [6]. ثمّ يخلص الكاتب إلى أنّ لدينا ميلٌ إلى
الاعتقاد أنّ ما هو سياسي أو سياسيوي قد هبط في يومٍ من الأيام من السماء،
وتحديداً في أثينا الكلاسيكية، على الشكل العجائبي والمجسّد للديمقراطيّة؛
ليس هذا فقط، بل أنّه من المسلّم به أنّ التاريخ الخطّي بقدرة ربانيّة يقود
خطانا ممسِكاً بيدنا منذ الثورة الاميركية مروراً بالـثورة الفرنسية
ووصولاً إلى مجتمعاتنا الغربية، المقتنِعة - لحسن الحظ - إلى أقصى درجة
بأنّ مهمّتها هي ردّ الشعوب كافّةً إلى الديانة الصحيحة، أي الديموقراطية.
هذه الفكرة عن أوروبا فريدة، وعن علاقة
سلاليّة مباشرة بين العصور الكلاسيكية القديمة وأوروبا الحالية، مروراً
بعصر النهضة - ونذكّر أن هذه العبارة قد ابتكرها المؤرخ جول ميشليه في
القرن التاسع عشر - قد قوّضتها العديد من الكتب الانغلوساكسونية، ولكن من
دون أن تصل رسالتها المزعزعة، في أغلب الأحيان، إلى الشواطئ الفرنسية [7]. هكذا يوضح جون م.هوبسون، في كتابه الأصول
الشرقيّة للحضارة الغربيّة The Eastern Origins of Western Civilisation،
أنّه من المستحيل فهم تاريخ العالم إذا ما تمّ تجاهل الشرق. إذ يعكس هذا
النسيان وجود ثلاث ثغرات أساسية. أوّلا كون الشرق قد شهد تطوّره الاقتصادي
الخاص حتّى بعد العام 500. ثم أنّه قد ابتكر اقتصاداً عالمياً وحافظ عليه.
أخيراً وعلى الأخصّ، أنّ الشرق قد ساهم بطريقة ناشطة ومهمّة في صعود الغرب
حين اخترع تكنولوجياته ومؤسّساته وأفكاره، ثم صدّرها إلى أوروبا.
فمن الذي يعرف أن أوّل ثورة صناعية قد
بدأت في القرن الحادي عشر بالذات في الصين في ظلّ حكم سلالة سونغ؟ فقد كانت
المملكة تنتج 125,000 طنّ من الحديد في العام 1078، بينما وجب الانتظار
حتى العام 1788 لكي تصل بريطانيا إلى إنتاج 76,000 طنّاً. كما كان الصينيون
يتقنون تقنيّات متقدّمة وخصوصاً في إنتاج الحديد المصوّب، وكانوا قبل ذلك
قد استعاضوا بفحم الكوك عن فحم الخشب لكي يحلّوا مشكلة تراجع مساحة
الأحراج. وقد شهدت تلك الحقبة أيضاً ثورات في مجالات النقل والطاقة
(الطواحين المائية) وفي وضع الضرائب والاقتصاد التجاري، وفي تطوير المدن
الكبيرة، وكذلك أيضاً ثورةً خضراء مع إنتاجية زراعية لن تبلغها أوروبا إلاّ
في القرن العشرين. وقد ظلّت الصين، من بين القوى العظمى، الأولى بين
أقرانها primus inter pares حتّى عام 1800؛ بل أنّه تمّ وصف الاقتصاد
العالمي على أنّه متمركزٌ حول الصين. ثمّ بلغت العديد من تقنياتها وأفكارها
ومؤسّساتها شواطئ أوروبا وساعدت في نشوء الرأسمالية الحديثة. هكذا لم يكن
للثورة الصناعية البريطانية أن تتحقّق لولا إسهامات الصين. وهذا ما يمكن
قوله أيضاً عن موقع الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى.
الخوف من الهمج هو الذي يجعلنا نبدو همجاً يرى هوبسون أنّ الباحثين من أصحاب النظرة
المركزية الأوروبية يطرحون نوعين من الأسئلة: ما الذي سمح للغرب بتحقيق هذا
الاختراق في اتّجاه الحداثة الرأسمالية؟ وما الذي منع الشرق من تحقيق هذا
الاختراق؟. إلا أنّ هذين التساؤلين يفترضان أنّ هيمنة الغرب كانت محتّمة،
وهي تحمل المؤرّخ على التفتيش في الماضي عمّا يفسّر قيام هذه الهيمنة.
إذّاك يُفهَم صعود الغرب انطلاقاً من منطقٍ مستبطن لا يمكن تحليله إلا
بناءً على عوامل أوروبيّة داخلية، ممّا يؤدّي بالتالي إلى اعتبار الشرق
والغرب كيانين منفصلين بسور صينٍ حضاري، هذا العائق الذي يحمينا من الهجمات
البربرية.
لكن من هم هؤلاء البرابرة؟ يجيب زفيتان
تودوروف عن السؤال منتقداً كلود ليفي-شتراوس الذي رأى أن البربري هو الذي
يؤمن بالبربرية: هو ذاك الذي يعتقد أنّ شعباً ما أو إنساناً ما لا ينتمي
كلّياً إلى البشرية، وأنّهم يستحقّون معاملة يرفض هو بشكلٍ قاطع أن يطبّقها
على نفسه. ففي كتابه الخوف من البرابرة La Peur des barbares، يواصل
تودوروف مساره الفكريّ الذي كان قد بدأه منذ زمنٍ طويل، خاصّةً في كتاب نحن
والآخرون. التفكير الفرنسي في التنوّع البشري Nous et les autres, la
réflexion française sur la diversité humaine [8]،
وهو كتابٌ ثريّ يجب أن يطالعه الجميع. فهو يكتب في مقدمته: إن الخوف من
البرابرة هو الذي قد يحوّلنا برابرة. والأذى الذي سنتسبّب به قد يتجاوز ما
كنا نخشاه في البداية. ويوضح ذلك قائلاً: إذا امتلكنا عبارةً ذات
مضمون مطلق، وهي البربرية، فالأمر كذلك بالنسبة للعبارة المضادّة.
فالمتمدّن هو الذي يعترِف صراحةً بإنسانيّة الآخرين في كلّ زمانٍ ومكان.
وهذا يتمّ على مرحلتين: اكتشاف أنّ للآخرين نمط حياةٍ مختلف عن أنماط
حياتنا؛ والإقرار بأنّهم يتمتعون بالإنسانية نفسها التي نتمتّع بها، وهذا
لا يعني القبول بكلّ ما يأتي من الآخر، ولا الإغراق في النسبية. وهذا مسارٌ
فكريّ معقّد قلّة من المثقّفين الغربيين يوافقون على الامتثال به.
ويلفت إلى أنّه خلال زمنٍ طويل، شكّل عصر
الأنوار مصدر إلهامٍ لتيّارٍ إصلاحيّ وليبرالي، كان يحارب التيّار المحافظ
باسم الشمولية والاحترام المتساوي للجميع. ومن المعروف أن الأمور قد تغيّرت
اليوم، وأنّ من يتبنّى عصر الأنوار هم المدافعون المحافظون عن الفكر
الغربي السامي، الذين يرون أنفسهم ملتزِمين في معركة ضدّ النسبية، التي
انبثقت عن ردّة الفعل الرومانسيّة في مطلع القرن التاسع عشر. ولكنّهم لا
يستطيعون القيام بذلك إلا عبر التنكّر للتقليد الحقيقي لعصر الأنوار، الذي
كان يعرِف كيف يقيم الربط بين شمولية القِيَم وتعدّدية الحضارات. يجب
استبعاد الشعارات والصور النمطيّة: إذ لم يتماهَ هذا الفكر لا مع
الدوغمائية (يجب أن تفرض حضارتي نفسها على الجميع) ولا مع العدميّة (كلّ
الحضارات متساوية)؛ بل لا يشكّل وضعه في خدمة ذمّ الآخرين وإباحة إخضاعهم
لأنفسنا أو تدميرهم، فعلاً سوى عمليّة اختطاف دنيئة لفكر عصر الأنوار.
فهل هي حقيقةً عملية اختطاف أم أنّ بعض
عناصر فكر عصر الأنوار قد شجّعت على عملية الاستيلاء هذه؟ يرى هوبسون أن
بناء الهوية الأوروبيّة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قد ساعد على
تثبيت نوعِ من الفرادة لم يسبق لأيّ حضارةٍ أخرى أن ادّعتها لنفسها. لم
يسعَ الأوروبيون إلى إعادة صياغة العالم لأنّهم قادرون على ذلك (كما تدّعي
التفسيرات المادّية)، بل لأنّهم يعتقدون أنّ من واجبهم القيام بذلك. فقد
أملت عليهم هوّيتُهم أفعالهم هذه، ورأوا في الامبريالية نوعاً من السياسات
المقبولة أخلاقياً. ومع ذلك فإن الكثير من الأوروبيين، المتضامنين مع
النضالات ضدّ الاستعمار أو شعوب دول الجنوب قد رفضوا هذه النظرة، وغالباً
باسم عصر الأنوار. وأياً يكن، فإنّ هذا النقاش يستحقّ أن يستمرّ
الأربعاء يوليو 31, 2013 9:21 am من طرف سميح القاسم