هشام مزيان المشرف العام
التوقيع :
عدد الرسائل : 1752
الموقع : في قلب كل الاحبة تعاليق : للعقل منهج واحد هو التعايش تاريخ التسجيل : 09/02/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 25
| | تطور سيرورة الولادة عند الانسان | |
| من المرجح أن صعوبات الولادة تحدت الإنسان وأسلافه لملايين السنين، أي إن العادة الحديثة لطلب المساعدة في أثناء الولادة يمكن أن يكون لها جذور قديمة مماثلة. ـ < W. تريڤاثان>
ليست الولادة على قمم الأشجار هي الطريقة المألوفة عند الإنسان. ولكن ذلك هو بالتحديد ما أُجبرت <صوفيا پبدرو> على القيام به في غمرة ارتفاع الفيضانات التي دمرت جنوبي موزمبيق في الشهر3/2000. فقد عاشت صوفيا أربعة أيام معلقة على شجرة محاطة بالسيول العارمة التي قتلت ما ينوف على 700 نسمة في المنطقة. وفي اليوم التالي للولادة، أبرزت وسائل الإعلام المتلفزة والمقروءة في العالم كافة صورا لصوفيا ووليدها اللذين انتُزعا من على الشجرة بعملية إنقاذ مثيرة بواسطة حوامة.
وتعد غرف الولادة على قمم الأشجار حالة استثنائية بالنسبة إلى البشر، ولكنها ليست كذلك بالنسبة إلى أنواع الرئيسيات primate species الأخرى. فلقد ظلت الرئيسيات ملايين السنين تعزل نفسها على قمم الأشجار أو في الأدغال بغية الولادة. والبشر هم النوع الوحيد من الرئيسيات الذين يطلبون دائما المساعدة في أثناء المخاض والولادة. ولذا يبرز السؤال: متى ولماذا تخلت الإناث من أسلافنا عن عادتهن في الرغبة بالانفراد وعدم طلب المساعدة؟ إن الإجابة عن ذلك تكمن في طبيعة سيرورة ولادة الإنسان الصعبة والمحفوفة بالمخاطر.
إن أكثرية النساء يعرفن من واقع الخبرة أن دفع الجنين خلال قناة الولادة مهمة ليست بالسهلة، فهو الثمن الذي ندفعه مقابل أدمغتنا الكبيرة وذكائنا: فالبشر لديهم رؤوس كبيرة ـ بصورة استثنائية ـ نسبة إلى حجم أجسامهم. ويعلم أولئك الذين خاضوا عميقا في الموضوع أن فتحة حوض الإنسان التي على الجنين أن يجتازها محدودة السعة بسبب قامتنا المنتصبة. وحديثا فقط بدأ علماء الإنسان anthropologists يدركون أن الانعطافات والاستدارات المعقدة التي يتعرض لها أجنة البشر عندما يتقدمون خلال قناة الولادة قد حيرت الناس وأسلافهم مدة 100000 عام على الأقل. وتوحي دراسة الأحافير (المستحاثات) أيضا أن بنيتنا التشريحية، وليس فقط طبيعتنا الاجتماعية، دفعت أمهات البشر ـ على خلاف أكثر أنسبائنا من الرئيسيات قربا، وغالبا جميع الثدييات الأخرى ـ إلى طلب المساعدة في أثناء الولادة. وفي الحقيقة، قد تكون هذه العادة لالتماس العون أخذت مكانها عندما ظهر أقدم أعضاء جنسنا: الإنسان الهومو Homo. وربما يعود تاريخ ذلك إلى خمسة ملايين عام مضت، عندما بدأ أسلافنا أول مرة بالمشي في وضع قائم (منتصب) على نحو منتظم.
الحشر المحكم(**) لاختبار نظريتنا في أن طلب المساعدة عند الولادة ربما وُجِد منذ آلاف السنين، فكَّرنا أولا فيما يعرفه العلماء عن مدى ملاءمة جنين الرئيسيات لقناة الولادة عند أمه. فبالنظر من الأعلى، نجد أن رأس الجنين بيضوي الشكل أساسا، أطوله من الجبهة إلى مؤخر الرأس، وأضيقه بين الأذنين. وعلى نحو ملائم، تكون قناة الولادة(1) birth canal أيضا بيضوية الشكل. ويكمن تحدي الولادة عند العديد من الرئيسيات في أن حجم رأس الجنين قريب من سعة هذه الفوهة.
وعند الإنسان، يتعقد هذا الحشر المحكم بكون قناة الولادة ليست ثابتة الشكل في مقاطعها المستعرضة. فمدخل قناة الولادة، حيث يبدأ الجنين رحلته، يكون أوسع ما يمكن في مقطعه المستعرض. وفي منتصف الطريق يتحول هذا الاتجاه بمقدار 90 درجة، بحيث يمتد المحور الطويل للمقطع البيضوي من الناحية الأمامية إلى الناحية الخلفية من جسم الأم. وهذا يعني أن على الجنين أن يتعرض إلى سلسلة من الدورانات في أثناء مروره في قناة الولادة، بحيث إن قسمي جسمه المتصفين بالأقطار الأكثر اتساعا ـ الرأس والكتفين ـ يتطابقان دائما مع القطر الأكبر من قناة الولادة [انظر الشكل في الصفحة 20].
ولفهم سيرورة الولادة من وجهة نظر الأم، تصوري أنك على وشك الوضع. والجنين على الأرجح في وضع مقلوب، بحيث يكون رأسُه في الأسفل، يواجه جانبك، عندما يدخل رأسُه قناة الولادة. وفي منتصف الطريق داخل القناة عليه أن يستدير ليواجه ظهرك، وتضغط مؤخر رأسه على عظمي عانتك. وفي هذه الأثناء، تأخذ كتفاه اتجاها مستعرضا. وعندما يغادر الجنين جسمك فإنه لايزال يواجه الخلف، ولكنه سيدير رأسه قليلا إلى الجانب. هذا الدوران يساعد كتفي الجنين على الالتفاف بحيث يطابقان أيضا ما بين عظمي العانة والعصعص لديك. ولكي ندرك مدى التطابق الوثيق بين أبعاد الأم وأبعاد الجنين، علينا أن نعلم أن متوسط قطر فوهة حوض المرأة هو 13 سنتيمترا في جزئه الأوسع، و10 سنتيمترات في جزئه الأضيق. هذا ويبلغ متوسط قطر رأس الجنين من الأمام إلى الخلف 10 سنتيمترات، وما بين الكتفين 12 سنتيمترا. إن هذه الرحلة من خلال ممر تتغير أشكال مقاطعه المستعرضة يجعل ولادة البشر شاقة ومحفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى الأكثرية العظمى من الأمهات والأجنة.
إذا عدنا إلى الوراء بصورة كافية على امتداد شجرة عائلة أسلاف الإنسان، يمكن أن نبلغ في نهاية المطاف نقطة لم تكن الولادة فيها بتلك الصعوبة. فعلى الرغم من القرابة الوراثية الوثيقة بين الإنسان والقردة العليا apes، فإن السعادين monkeys يمكنها أن تمثل نموذجا أفضل للولادة عند رئيسيات ما قبل الإنسان. وقد يؤيد هذا الزعمَ الحقيقةُ التالية: إن إحدى أحافير الرئيسيات المكتشفة التي تعود إلى ما قبل ظهور الأسترالوپثيكس Australopithecus 2 ، هو سلف قديم ربما كان الپروكنسول Proconsul 3 ، وهي أحفورة من أحافير الرئيسيات يعود تاريخها إلى قرابة 25 مليون سنة. هذا المخلوق العديم الذيل ربما كان يبدو كالقردة العليا، بيد أن هيكله العظمي يوحي أنه أكثر قربا في حركته إلى السعادين. كما أن حوضه كان أكثر شبها بحوض السعدان. ورؤوس صغار السعادين الحديثة تبلغ عادة نحو 98 في المئة من قطر قناة ولادة أمهاتها، وهي بهذا أكثر شبها بالإنسان منها بالشمپانزي التي تكون أقنية الولادة لديها واسعة نسبيا.
وعلى الرغم من الحشر المحكم لجنين السعدان، فإن خروجه إلى العالم أقل تحديا من جنين الإنسان. وعلى خلاف قناة الولادة الملتوية عند الإنسان الحديث، فأقنية ولادة السعادين لها أشكال المقاطع المستعرضة نفسها من مدخلها إلى مخرجها. والقطر الأطول لهذا الشكل البيضوي موجه من الأمام إلى الوراء، في حين يكون القسم الأعرض منه تجاه ظهر الأم. وجنين السعدان يدخل قناة الولادة بدءا من رأسه، بحيث يكون القسم الخلفي العريض من قحفه (جمجمته) تجاه القسم الخلفي الفسيح لحوض الأم وعصعصها. وذلك يعني أن جنين السعدان يغادر قناة الولادة ووجهه إلى الأمام ـ وبعبارة أخرى، آخذا نفس اتجاه الأم.
وكشفت الملاحظات المباشرة لولادات السعادين عن ميزة مهمة بولادة صغارها مواجهة الأمام. فالسعادين تلد في وضع القرفصاء جالسة على ساقيها الخلفيتين أو رابضة على أطرافها الأربعة. وفي أثناء الولادة، تبلغ الأم أسفلها بيدها لتقود الجنين خارج قناة الولادة باتجاه حلمات أثدائها. وفي حالات عديدة، تمسح أيضا المخاط عن فم الوليد وأنفه لتساعده على التنفس. ويكون الصغار حين الولادة أقوياء إلى حد كاف ليسهموا في ولاداتهم؛ فبمجرد تحرر يدي الوليد، يصبح قادرا على الإمساك بجسم أمه وسحب نفسه خارجا.
لو أن أجنة البشر تولد ووجوهها متجهة إلى الأمام أيضا، لكان ذلك أسهل كثيرا على أمهاتها. وعوضا عن ذلك، فالتحورات التطورية لحوض الإنسان التي مكنت الإنسان البدائي من المشي بحالة قائمة تستدعي خروج الأجنة، في معظمها، من قناة الولادة ومؤخر رؤوسها باتجاه عظمي العانة، آخذة الاتجاه المعاكس لأمهاتها (في وضع يدعوه الأطباء المولِّدون «أماميّ القَذَال» occiput anterior). ولهذا السبب، فمن الصعب على الأم البشرية الماخض ـ سواء أكانت في وضع القرفصاء أو الجلوس أو الاستلقاء الظهري ـ أن تبلغ أسفلها وتساعد الوليد على خروجه. وهذا الوضع يحول أيضا دون قدرة الأم على تنظيف ممر الوليد التنفسي، أو رفع الحبل السري من حول عنقه، أو حتى رفع الوليد إلى الأعلى حتى ثدييها. فإذا ما حاولتْ تسريع الولادة بإمساك الوليد وتحريره من قناة الولادة، فهي بذلك تخاطر بعطف ظهره على نحو مزعج مخالف للانحناء الطبيعي لعموده الفقاري. كما أن شد الوليد عند هذه الزاوية يعرضه لخطر رض نخاعه الشوكي وأعصابه وعضلاته.
وبالنسبة إلى الإنسان المعاصر، فإن الرد على هذه التحديات هو طلب المساعدة في أثناء المخاض والولادة. وسواء كان مهنيا مدربا أو قابلة مولِّدة أو عضوا في الأسرة ملما بسيرورة الولادة، فإن المساعد يمكنه أن يُعِين الأم البشرية على القيام بجميع الأعمال التي تقوم بها أم السعدان بنفسها؛ كما يمكن له أن يعيض عن القدرة الحركية المحدودة لجنين الإنسان العاجز نسبيا. وعلى مدى التاريخ، قللت المساعدة في أثناء الولادة ـ حتى في أبسط صورها ـ من وفيات الأمهات والأجنة.
المساعدة عند الولادة(***) مما لا شك فيه أن أسلافنا، وحتى نساء اليوم، قادرات على الولادة بمفردهن، ويقمن بها فعلا بنجاح. فالعديد من القصص ترسم صور نساء ريفيات قويّات وضعن بمفردهن في الحقول، وربما كان أكثرها شهرة ما ورد في «قصة الأرض الطيبة» The Good Earth، لمؤلفتها بَك>. وتعطي هذه الصور الانطباع بأن الولادة عملية سهلة. ولكن العلماء الذين درسوا الولادة في حضارات مختلفة يقرون بأن هذه الملاحظات مغرقة في الرومانسية وأن ولادة البشر نادرا ما تكون سهلة وقلما تكون دون مرافقة. وفي الحقيقة إن نساء اليوم كافة في جميع المجتمعات يطلبن المساعدة في أثناء الولادة؛ حتى أنه في قبيلة الكنگ Kung في صحراء كالاهاري في جنوب إفريقيا ـ حيث تعتبر الولادة بلا مساعدة عرفا تراثيا ـ لا تحاول النساء عادة الولادة بمفردهن إلا إذا سبق لهن أن وضعن عدة مرات وحظين في أثنائها برفقة أمهاتهن أو أخواتهن أو نساء أخريات. ولهذا، مع وجود بعض الاستثناءات النادرة، فإن المساعدة عند الولادة تكاد تصبح عرفا شاملا في مجتمعات الإنسان كافة (انظر المؤطر في الصفحة 23).
| يولد الجنين مواجها الخلف، بحيث يقابل مؤخر رأسه عظميْ العانة pubic bones للأم، مما يجعل من العسير على أنثى الإنسان أن تقود الوليد من قناة الولادة ـ فتحة حوض الأم ـ من دون مساعدة. |
مع علمنا بذلك ـ وإيماننا بأن هذه الممارسة فرضتها الصعوبات والمخاطر المرافقتين لولادة الإنسان ـ بدأنا نعتقد بأن القِبَالة(4) ليست وقفا على الإنسان المعاصر فحسب، بل إن لها جذورا عميقة عند أسلافنا. ودراستنا لسيرورة الولادة طوال تطور الإنسان دعتنا إلى الاعتقاد بأن ممارسة القِبالة ربما ظهرت في زمن ممعن في القدم يصل إلى خمسة ملايين عام مضت، عندما أدى المشي على قدمين أول مرة إلى تقليص حجم الحوض وقناة الولادة وشكليهما.
من الواضح أن نمطا سلوكيا معقدا كالقِبالة لا يمكن أن يُحفظ لنا على هيئة أحفورة، على العكس من عظام الحوض. والمطابقة المحكمة بين رأس الجنين وقناة الولادة عند الأم البشرية تعني أن آلية الولادة يمكن إعادة تصورها إذا علمنا الحجم النسبي لكل منهما. فالبنية التشريحية للحوض معروفة الآن جيدا من سجلات أحافير الإنسان لمعظم الفترات، ويمكننا تخمين حجم كل من دماغ الطفل وقحفه استنادا إلى معلوماتنا الوافرة عن أحجام قحوف البالغين (فالقحوف الرقيقة للأطفال لم يعثر عليها محفوظة إلا بعد التاريخ الذي بدأ فيه الإنسان بدفن موتاه منذ قرابة 000 100عام). ومعرفةُ أحجام القحوف والأحواض وأشكالها ساعدتنا والباحثين الآخرين على فهم ما إذا وُلِدت الأجنة وهي تواجه الأمام أو الوراء نسبة إلى أمهاتها ـ ومن ثم معرفة مدى صعوبة الولادة.
المشي على قدمين(****)
أحدث كل من المشي على قدمين وضخامة الأدمغة في الإنسان الحديث آثارا بالغة في سيرورة الولادة، بيد أن التحول الجوهري الأول بعيدا عن طريقة ولادة الرئيسيات غير البشرية حدث فقط بسبب المشي على قدمين. هذه الطريقة الفريدة للمشي ظهرت عند أسلاف الإنسان من الجنس أُسترالوپثيكس قبل نحو 4 ملايين سنة [انظر: «تطور المشي البشري»، مجلة العلوم، العدد 1(1992) ، ص 49]، فعلى الرغم من وضعه القائم، لم يكن طول الأسترالوپثيسينات australopithecine يزيد عادة على أربع أقدام، ولم تكن أدمغتها أكبر بكثير من أدمغة الشمپانزات الحالية. ويدفعنا دليل حديث إلى الاستفسار عن أي من الأنواع العديدة من الأسترالوپثيسينات هي التي كانت جزءا من خط النسب الذي قاد إلى الإنسان الهومو. ومازال من الأهمية بمكان أن نتعرف طريقة الولادة لدى أي منها، لأن المشي على قدمين لا بد أن يقلص الحجم الأعظمي للحوض ولقناة الولادة بطرق مماثلة عند الأنواع ذات الصلة.
إن السمات التشريحية لحوض الإناث المنتميات إلى ذلك العصر معروفة جيدا، استنادا إلى أحفورتين كاملتين. فقد كشف علماء الإنسان عن إحدى الأحفورتين (المعروفة بالرمز Sts 14 والمفترض أن عمرها 2.5 مليون عام) في استيركفونتين، وهي موقع في إقليم الترانسڤال من جنوب إفريقيا. أما الأحفورة الأخرى فهي المشهورة باسم لوسي، وهي أحفورة اكتشفت في منطقة هادار بإثيوبيا ويعود تاريخها إلى ما ينوف على ثلاثة ملايين عام. واستنادا إلى هاتين العينتين وإلى تقديرات لأحجام رؤوس الولدان استنتج كل من لڤجوي> [من جامعة ولاية كنت] و [من جامعة ولاية لويزيانا] في منتصف عام 1980 أن الولادة عند فصيلة الإنسان كانت مختلفة عن تلك المعروفة لدى أي من أنواع الرئيسيات الحالية.
إن شكل قناة الولادة لدى الأسترالوپثيسينات بيضوي مفلطح يمتد قطره الأكبر من جانب لآخر عند كل من المدخل والمخرج. ويبدو أن هذا الشكل يتطلب طريقة من الولادة تختلف عن تلك الموجودة عند السعادين والقردة العليا والإنسان الحديث. فالرأس لم يكن عليه أن يدور داخل قناة الولادة، ولكننا نعتقد أنه لكي يتوافق الكتفان مع الرأس، كان على الجنين أن يديره فور خروجه. وبعبارة أخرى، إذا دخل رأس الجنين قناة الولادة مواجها جانب جسم الأم، تكون كتفاه قد اتجهتا في خط ممتد من بطن الأم إلى ظهرها. وهذا الوضع البدئي يمكن أن يعني أن الكتفين ربما كان عليهما الدوران جانبا كي يمرقا خلال قناة الولادة.
هذا الدوران البسيط كان يمكن أن يؤدي إلى درجة من الصعوبة عند الولادة لدى الأسترالوپثيسينات لم يتعرض إليها أي من أصناف الرئيسيات الأخرى المعروفة. واعتمادا على الطريقة التي تستدير فيها كتفا الجنين، يمكن لرأسه أن يغادر قناة الولادة مواجها الأمام أو الوراء بالنسبة إلى الأم. وبما أن قناة الولادة في الأسترالوپثيسينات عبارة عن فتحة متناظرة ذات شكل ثابت، يمكن للجنين أن يدير كتفيه بسهولة جهة الأمام أو الخلف، مما يعطيه فرصة متساوية للخروج بالطريقة الأسهل التي يكون فيها وجهه متجها إلى الأمام. فإذا ولد الجنين ووجهه متجها إلى الخلف، فلعل أمهات الأسترالوپثيسينات ـ كما أمهات الإنسان الحديث ـ تلقت المساعدة بصورة أو أخرى.
أدمغة أكبر(*****)
إذا كان المشي على قدمين لم يؤد وحده إلى إحداث صعوبة في سيرورة الولادة تكفي لجعل الأمهات يتلقين المساعدة، فضخامة حجم دماغ الإنسان البدائي قامت بذلك بالتأكيد. فالضخامة الأكثر أهمية في حجم دماغ البالغ (الراشد) والطفل تطورت بعد الأسترالوپثيسينات وبخاصة عند جنس الإنسان الهومو. إن بقايا أحافير حوض الإنسان الهومو المبكر نادرة جدا، وأفضل عينة محفوظة هي أحفورة ناريوكوتوم من كينيا وعمرها 1.5 مليون سنة، وتعود إلى يافع عرف غالبا باسم صبي توركانا Turkana Boy. وقد قدر باحثون أن أقارب الصبي من البالغين ربما كانت لديهم أدمغة أكبر بنحو ضعفين من تلك التي تخص الأسترالوپثيسينات، ولكنها تبلغ ثلثي حجم أدمغة الإنسان الحديث فقط.
ومن خلال إعادة بناء حوض الصبي من شظاياه، استنبط رَف> [من جامعة جونز هوپكنز] و ووكر> [من جامعة ولاية پنسلڤانيا] كيف كان يمكن أن يبدو الصبي فيما لو وصل إلى مرحلة البلوغ. وباستعمال الفروق التي يمكن التنبؤ بها بين أحواض الذكور والإناث لدى أنواع من فصيلة الإنسان الأكثر حداثة، أمكنهم أيضا استنباط كيف كانت تبدو أنثى تلك الأنواع، واستطاعوا تخمين شكل قناة الولادة. وقد تبين أن ذلك الشكل كان بيضويا مسطحا مماثلا لأحواض الأسترالوپثيسينات. واستنادا إلى إعادة البناء هذه، حدد الباحثون أن عشيرة «صبي توركانا» ربما امتلكت آلية للولادة تشبه تلك التي لدى الأسترالوپثيسينات.
وفي السنوات الأخيرة، دأب العلماء على اختبار فرضية مهمة تلت ما أكده <رَف> و <ووكر> من أن السمات التشريحية لحوض الإنسان الهومو المبكر ربما حدَّت من نمو دماغ الإنسان إلى حين بلوغ المرحلة التطورية التي اتسعت عندها قناة الولادة إلى درجة تسمح بمرور رأس أكبر للجنين. ويلمح هذا التأكيد إلى أن الأدمغة الأكبر والأحواض الأوسع ارتبطت ببعضها من وجهة نظر تطورية. فالأفراد الذين تميزوا بهاتين الصفتين كانوا أكثر نجاحا في ولادة ذريّات عاشت لتنقل هذه السمات. ولعل هذه التغيرات في الصفات التشريحية للحوض، مشفوعة بتقديم العون عند الولادة، سمحا بتحقيق الزيادة الكبيرة في حجم دماغ الإنسان التي حدثت منذ مليوني إلى 000 100 عام.
إن الأحافير على امتداد السنوات اﻟ000 300 الماضية من تطور الإنسان، تدعم العلاقة بين التضخم الذي حدث في حجم الدماغ والتغيرات التي حدثت في السمات التشريحية للحوض. ففي الأعوام العشرين المنصرمة، كشف العلماء عن ثلاثة أحواض لأحافير للإنسان الحالي القديم archiac Homo sapiens: ذَكَرٍ من سيما دي لوس ويِسُوس في منطقة سيرا أتاپويركا في اسپانيا (بعمر يزيد على 000 200عام)؛ وأنثى من جينيوشان في الصين (عمرها 000 280 سنة)؛ وذكر كيبارا نياندرتال ـ الذي ينتمي أيضا إلى الإنسان الحالي القديم ـ من فلسطين (بعمر 000 60 عام تقريبا). وجميع هذه العينات لديها الفتحات الحوضية الملتوية التي تميز الإنسان الحديث، مما يوحي بأن أجنتها ذات الأدمغة الكبيرة كان عليها في الأغلب أن تدير رؤوسها وأكتافها داخل قناة الحوض، وبذلك تخرج ووجوهها معاكسة لاتجاه الأم ـ وهو تحدٍّ رئيسي واجهته الأمهات البشرية عند ولادة صغارهن بسلام.
الولادة في الحضارات المختلفة(******)
إن الشكل المعقد لقناة الحوض لدى إناث البشر هو ما يجعل المواخض وأجنتهن يستفيدون من مساعدة الآخرين. وتتمثل هذه الفائدة في خفض معدلات الوفيات والأذية والشعور بالقلق. إن هذا الواقع التطوري يساعد على تفسير السبب الذي جعل المساعدة عند الولادة سمة عامة تقريبا في حضارات البشر كافة. فبعض النساء، وعلى مدى التاريخ، قمن بالولادة بمفردهن في بعض الظروف. ولكن الأكثر شيوعا هو ملازمة صديقات حميمات أو أقارب، معظمهن من النساء (فقد يكون وجود الرجال إما محظورا أو مقبولا، أو مرحبا به أو حتى مطلوبا). ففي المجتمعات الغربية، حيث تلد النساء عادة مع وجود غرباء، دلت الأبحاث الحديثة المجراة على ممارسة الولادة أن حضور شخص يدعم المرأة في أثناء المخاض اجتماعيا وعاطفيا يحد من معدل المضاعفات.
في عدة مجتمعات، لا تُعَد المرأة بالغة ما لم تنجب طفلا. ومكان الولادة المفضل محدد غالبا، وكذلك الأوضاع التي تتخذها النساء المواخض. والتوقع النموذجي في المجتمعات الغربية أن النساء يجب أن يضعن مواليدهن وهن في حالة الاستلقاء الظهري على سرير، بيد أن الأكثر شيوعا للولادة في سائر أنحاء العالم هو الوضع القائم سواء كان في وضعية الجلوس أو القرفصاء أو وقوفا في بعض الحالات.
القرفصاء هو أحد أكثر الأوضاع المعتادة للولادة في المجتمعات غير الغربية. | |
والتحدي الثلاثي ـ الذي يتمثل في أجنة ذات أدمغة كبيرة، وحوض معد ليسمح بالمشي بوضع رأسي، وولادة يكتنفها دوران يخرج فيها الجنين متجها إلى الخلف ـ ليس مجرد حالة معاصرة. ولهذا السبب، نعتقد أن الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي قد شجع ـ منذ أمد بعيد ـ على التماس المساعدة إبان الولادة لأن ذلك العون يعوض عن تلك الصعوبات. فالأمهات، غالبا، لم يلتمسن المساعدة لأنهن تنبأن بالمخاطر التي تكتنف الولادة فحسب، ولكن الأرجح أن الألم والخوف والقلق دفعهن إلى الرغبة في طلب الرفقة والأمان.
ويحاجُّ الأطباء النفسيون(5) بأن الانتقاء الطبيعي ربما شجع هذه الانفعالات ـ الشائعة أيضا في أثناء المرض والأذية؛ لأنها دفعت الأفراد الذين تعرضوا لها إلى التماس حماية الرفقاء، التي يمكن أن تمنحهم فرصة أفضل للبُقْيا [انظر: «التطور وأصول المرض»، مجلة العلوم، العددان 8/9(1999)، ص 82]. وعندئذ يكون لدى ذريات الناجين ميل قوي لممارسة هذه الانفعالات في أوقات الألم أو المرض. وبالأخذ بعين الاعتبار المزايا التطورية التي يمنحها الخوف والقلق، فليس من المستغرب أن النساء عادة يعانين هذه الإحساسات إبان المخاض والولادة.
إن الأمهات المعاصرات لديهن إرث تطوري مزدوج: الحاجة إلى الدعم البدني والعاطفي على حد سواء. فعندما وَضَعت <صوفيا پيدرو> على شجرة محاطة بالسيول العارمة، ربما توفر لها كلا النوعين من المساعدة. وفي مقابلة جرت معها بعد بضعة أشهر من إنقاذها بواسطة الحوامة، أخبرت الصحفيين بأن حماتها، التي كانت على الشجرة أيضا، ساعدتها في أثناء الولادة. لذلك فالرغبة في توفر هذا النوع من الدعم تبدو قديمة قدم البشرية نفسها.
المؤلفان
Karen R. Rosenberg - Wenda R. Trevathan
لهما وجهات نظر مختلفة في دراسة الولادة عند الإنسان. فروزنبرگ، باحثة في علم الإنسان القديم وتطوره (پاليوأنثروپولوجيا) بجامعة ديلاوير، تخصصت في علم الشكل الظاهري للحوض عند الإناث، وقد درست أحافير (مستحاثات) بشرية من أوروبا وفلسطين والصين وجنوب إفريقيا. ومنذ قرابة خمسة عشر عاما بدأت بدراسة الحوض على سبيل إعادة تصور التطور الذي طرأ على عملية الولادة. وفي أثناء ذلك التقت تريفاثان، العالمة بالأنثروپولوجيا الحيوية في جامعة ولاية نيومكسيكو، التي كان ينصب اهتمامها الشخصي على الولادة والسلوك الأمومي والأمور الجنسية والإياس (سن اليأس) والطب التطوري. وكلتا المؤلفتين مارست الولادة عمليا: فروزنبرگ لديها ابنتان وتريفاثان تدربت كقابلة midwife.
| |
|