بن عبد الله مراقب
التوقيع :
عدد الرسائل : 1537
الموقع : في قلب الامة تعاليق : الحكمة ضالة الشيخ ، بعد عمر طويل ماذا يتبقى سوى الاعداد للخروج حيث الباب مشرعا تاريخ التسجيل : 05/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8
| | تطور سيرورة الولادة عند الانسان | |
تطور سيرورة الولادة عند الانسان
| من المرجح أن صعوبات الولادة تحدت الإنسان وأسلافه لملايين السنين، أي إن العادة الحديثة لطلب المساعدة في أثناء الولادة يمكن أن يكون لها جذور قديمة مماثلة. ـ < W. تريڤاثان>
ليست الولادة على قمم الأشجار هي الطريقة المألوفة عند الإنسان. ولكن ذلك هو بالتحديد ما أُجبرت <صوفيا پبدرو> على القيام به في غمرة ارتفاع الفيضانات التي دمرت جنوبي موزمبيق في الشهر3/2000. فقد عاشت صوفيا أربعة أيام معلقة على شجرة محاطة بالسيول العارمة التي قتلت ما ينوف على 700 نسمة في المنطقة. وفي اليوم التالي للولادة، أبرزت وسائل الإعلام المتلفزة والمقروءة في العالم كافة صورا لصوفيا ووليدها اللذين انتُزعا من على الشجرة بعملية إنقاذ مثيرة بواسطة حوامة.
وتعد غرف الولادة على قمم الأشجار حالة استثنائية بالنسبة إلى البشر، ولكنها ليست كذلك بالنسبة إلى أنواع الرئيسيات primate species الأخرى. فلقد ظلت الرئيسيات ملايين السنين تعزل نفسها على قمم الأشجار أو في الأدغال بغية الولادة. والبشر هم النوع الوحيد من الرئيسيات الذين يطلبون دائما المساعدة في أثناء المخاض والولادة. ولذا يبرز السؤال: متى ولماذا تخلت الإناث من أسلافنا عن عادتهن في الرغبة بالانفراد وعدم طلب المساعدة؟ إن الإجابة عن ذلك تكمن في طبيعة سيرورة ولادة الإنسان الصعبة والمحفوفة بالمخاطر.
إن أكثرية النساء يعرفن من واقع الخبرة أن دفع الجنين خلال قناة الولادة مهمة ليست بالسهلة، فهو الثمن الذي ندفعه مقابل أدمغتنا الكبيرة وذكائنا: فالبشر لديهم رؤوس كبيرة ـ بصورة استثنائية ـ نسبة إلى حجم أجسامهم. ويعلم أولئك الذين خاضوا عميقا في الموضوع أن فتحة حوض الإنسان التي على الجنين أن يجتازها محدودة السعة بسبب قامتنا المنتصبة. وحديثا فقط بدأ علماء الإنسان anthropologists يدركون أن الانعطافات والاستدارات المعقدة التي يتعرض لها أجنة البشر عندما يتقدمون خلال قناة الولادة قد حيرت الناس وأسلافهم مدة 100000 عام على الأقل. وتوحي دراسة الأحافير (المستحاثات) أيضا أن بنيتنا التشريحية، وليس فقط طبيعتنا الاجتماعية، دفعت أمهات البشر ـ على خلاف أكثر أنسبائنا من الرئيسيات قربا، وغالبا جميع الثدييات الأخرى ـ إلى طلب المساعدة في أثناء الولادة. وفي الحقيقة، قد تكون هذه العادة لالتماس العون أخذت مكانها عندما ظهر أقدم أعضاء جنسنا: الإنسان الهومو Homo. وربما يعود تاريخ ذلك إلى خمسة ملايين عام مضت، عندما بدأ أسلافنا أول مرة بالمشي في وضع قائم (منتصب) على نحو منتظم.
الحشر المحكم(**) لاختبار نظريتنا في أن طلب المساعدة عند الولادة ربما وُجِد منذ آلاف السنين، فكَّرنا أولا فيما يعرفه العلماء عن مدى ملاءمة جنين الرئيسيات لقناة الولادة عند أمه. فبالنظر من الأعلى، نجد أن رأس الجنين بيضوي الشكل أساسا، أطوله من الجبهة إلى مؤخر الرأس، وأضيقه بين الأذنين. وعلى نحو ملائم، تكون قناة الولادة(1) birth canal أيضا بيضوية الشكل. ويكمن تحدي الولادة عند العديد من الرئيسيات في أن حجم رأس الجنين قريب من سعة هذه الفوهة.
وعند الإنسان، يتعقد هذا الحشر المحكم بكون قناة الولادة ليست ثابتة الشكل في مقاطعها المستعرضة. فمدخل قناة الولادة، حيث يبدأ الجنين رحلته، يكون أوسع ما يمكن في مقطعه المستعرض. وفي منتصف الطريق يتحول هذا الاتجاه بمقدار 90 درجة، بحيث يمتد المحور الطويل للمقطع البيضوي من الناحية الأمامية إلى الناحية الخلفية من جسم الأم. وهذا يعني أن على الجنين أن يتعرض إلى سلسلة من الدورانات في أثناء مروره في قناة الولادة، بحيث إن قسمي جسمه المتصفين بالأقطار الأكثر اتساعا ـ الرأس والكتفين ـ يتطابقان دائما مع القطر الأكبر من قناة الولادة [انظر الشكل في الصفحة 20].
ولفهم سيرورة الولادة من وجهة نظر الأم، تصوري أنك على وشك الوضع. والجنين على الأرجح في وضع مقلوب، بحيث يكون رأسُه في الأسفل، يواجه جانبك، عندما يدخل رأسُه قناة الولادة. وفي منتصف الطريق داخل القناة عليه أن يستدير ليواجه ظهرك، وتضغط مؤخر رأسه على عظمي عانتك. وفي هذه الأثناء، تأخذ كتفاه اتجاها مستعرضا. وعندما يغادر الجنين جسمك فإنه لايزال يواجه الخلف، ولكنه سيدير رأسه قليلا إلى الجانب. هذا الدوران يساعد كتفي الجنين على الالتفاف بحيث يطابقان أيضا ما بين عظمي العانة والعصعص لديك. ولكي ندرك مدى التطابق الوثيق بين أبعاد الأم وأبعاد الجنين، علينا أن نعلم أن متوسط قطر فوهة حوض المرأة هو 13 سنتيمترا في جزئه الأوسع، و10 سنتيمترات في جزئه الأضيق. هذا ويبلغ متوسط قطر رأس الجنين من الأمام إلى الخلف 10 سنتيمترات، وما بين الكتفين 12 سنتيمترا. إن هذه الرحلة من خلال ممر تتغير أشكال مقاطعه المستعرضة يجعل ولادة البشر شاقة ومحفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى الأكثرية العظمى من الأمهات والأجنة.
إذا عدنا إلى الوراء بصورة كافية على امتداد شجرة عائلة أسلاف الإنسان، يمكن أن نبلغ في نهاية المطاف نقطة لم تكن الولادة فيها بتلك الصعوبة. فعلى الرغم من القرابة الوراثية الوثيقة بين الإنسان والقردة العليا apes، فإن السعادين monkeys يمكنها أن تمثل نموذجا أفضل للولادة عند رئيسيات ما قبل الإنسان. وقد يؤيد هذا الزعمَ الحقيقةُ التالية: إن إحدى أحافير الرئيسيات المكتشفة التي تعود إلى ما قبل ظهور الأسترالوپثيكس Australopithecus 2 ، هو سلف قديم ربما كان الپروكنسول Proconsul 3 ، وهي أحفورة من أحافير الرئيسيات يعود تاريخها إلى قرابة 25 مليون سنة. هذا المخلوق العديم الذيل ربما كان يبدو كالقردة العليا، بيد أن هيكله العظمي يوحي أنه أكثر قربا في حركته إلى السعادين. كما أن حوضه كان أكثر شبها بحوض السعدان. ورؤوس صغار السعادين الحديثة تبلغ عادة نحو 98 في المئة من قطر قناة ولادة أمهاتها، وهي بهذا أكثر شبها بالإنسان منها بالشمپانزي التي تكون أقنية الولادة لديها واسعة نسبيا.
وعلى الرغم من الحشر المحكم لجنين السعدان، فإن خروجه إلى العالم أقل تحديا من جنين الإنسان. وعلى خلاف قناة الولادة الملتوية عند الإنسان الحديث، فأقنية ولادة السعادين لها أشكال المقاطع المستعرضة نفسها من مدخلها إلى مخرجها. والقطر الأطول لهذا الشكل البيضوي موجه من الأمام إلى الوراء، في حين يكون القسم الأعرض منه تجاه ظهر الأم. وجنين السعدان يدخل قناة الولادة بدءا من رأسه، بحيث يكون القسم الخلفي العريض من قحفه (جمجمته) تجاه القسم الخلفي الفسيح لحوض الأم وعصعصها. وذلك يعني أن جنين السعدان يغادر قناة الولادة ووجهه إلى الأمام ـ وبعبارة أخرى، آخذا نفس اتجاه الأم.
وكشفت الملاحظات المباشرة لولادات السعادين عن ميزة مهمة بولادة صغارها مواجهة الأمام. فالسعادين تلد في وضع القرفصاء جالسة على ساقيها الخلفيتين أو رابضة على أطرافها الأربعة. وفي أثناء الولادة، تبلغ الأم أسفلها بيدها لتقود الجنين خارج قناة الولادة باتجاه حلمات أثدائها. وفي حالات عديدة، تمسح أيضا المخاط عن فم الوليد وأنفه لتساعده على التنفس. ويكون الصغار حين الولادة أقوياء إلى حد كاف ليسهموا في ولاداتهم؛ فبمجرد تحرر يدي الوليد، يصبح قادرا على الإمساك بجسم أمه وسحب نفسه خارجا.
لو أن أجنة البشر تولد ووجوهها متجهة إلى الأمام أيضا، لكان ذلك أسهل كثيرا على أمهاتها. وعوضا عن ذلك، فالتحورات التطورية لحوض الإنسان التي مكنت الإنسان البدائي من المشي بحالة قائمة تستدعي خروج الأجنة، في معظمها، من قناة الولادة ومؤخر رؤوسها باتجاه عظمي العانة، آخذة الاتجاه المعاكس لأمهاتها (في وضع يدعوه الأطباء المولِّدون «أماميّ القَذَال» occiput anterior). ولهذا السبب، فمن الصعب على الأم البشرية الماخض ـ سواء أكانت في وضع القرفصاء أو الجلوس أو الاستلقاء الظهري ـ أن تبلغ أسفلها وتساعد الوليد على خروجه. وهذا الوضع يحول أيضا دون قدرة الأم على تنظيف ممر الوليد التنفسي، أو رفع الحبل السري من حول عنقه، أو حتى رفع الوليد إلى الأعلى حتى ثدييها. فإذا ما حاولتْ تسريع الولادة بإمساك الوليد وتحريره من قناة الولادة، فهي بذلك تخاطر بعطف ظهره على نحو مزعج مخالف للانحناء الطبيعي لعموده الفقاري. كما أن شد الوليد عند هذه الزاوية يعرضه لخطر رض نخاعه الشوكي وأعصابه وعضلاته.
وبالنسبة إلى الإنسان المعاصر، فإن الرد على هذه التحديات هو طلب المساعدة في أثناء المخاض والولادة. وسواء كان مهنيا مدربا أو قابلة مولِّدة أو عضوا في الأسرة ملما بسيرورة الولادة، فإن المساعد يمكنه أن يُعِين الأم البشرية على القيام بجميع الأعمال التي تقوم بها أم السعدان بنفسها؛ كما يمكن له أن يعيض عن القدرة الحركية المحدودة لجنين الإنسان العاجز نسبيا. وعلى مدى التاريخ، قللت المساعدة في أثناء الولادة ـ حتى في أبسط صورها ـ من وفيات الأمهات والأجنة.
المساعدة عند الولادة(***) مما لا شك فيه أن أسلافنا، وحتى نساء اليوم، قادرات على الولادة بمفردهن، ويقمن بها فعلا بنجاح. فالعديد من القصص ترسم صور نساء ريفيات قويّات وضعن بمفردهن في الحقول، وربما كان أكثرها شهرة ما ورد في «قصة الأرض الطيبة» The Good Earth، لمؤلفتها بَك>. وتعطي هذه الصور الانطباع بأن الولادة عملية سهلة. ولكن العلماء الذين درسوا الولادة في حضارات مختلفة يقرون بأن هذه الملاحظات مغرقة في الرومانسية وأن ولادة البشر نادرا ما تكون سهلة وقلما تكون دون مرافقة. وفي الحقيقة إن نساء اليوم كافة في جميع المجتمعات يطلبن المساعدة في أثناء الولادة؛ حتى أنه في قبيلة الكنگ Kung في صحراء كالاهاري في جنوب إفريقيا ـ حيث تعتبر الولادة بلا مساعدة عرفا تراثيا ـ لا تحاول النساء عادة الولادة بمفردهن إلا إذا سبق لهن أن وضعن عدة مرات وحظين في أثنائها برفقة أمهاتهن أو أخواتهن أو نساء أخريات. ولهذا، مع وجود بعض الاستثناءات النادرة، فإن المساعدة عند الولادة تكاد تصبح عرفا شاملا في مجتمعات الإنسان كافة (انظر المؤطر في الصفحة 23).
| |
|