رشيد غويلب
لا
يختلف اثنان على شحة الكتب المتداولة، والتي تقدم عرضا نقدياً مختصراً و
مقروءاً لتاريخ وأساليب عمل الرأسمالية. ولكن منذ عام 2007 هناك شيء جديد،
هو الترجمة الألمانية لكتاب "الرأسمالية: عرض موجز جداً"، الصادر عن دار
النشر(فليب ركلام يونيو) في مدينة شتوتغارت الالمانية ويقع في 180 صفحة من
الحجم الصغير، لأستاذ علم الاجتماع في جامعة "ليستر" البريطانية البروفسور
جيمس فولتشر، الصادر عام 2004، أي قبل بداية الأزمة المالية والاقتصادية
العالمية. ويحق للمؤلف أن يفخر لتوقعه الأزمة قبل حدوثها، ولذا فان الكتاب
يحتفظ براهنيته بالإضافة إلى الوضوح والإيجاز ووفرة المعلومات الواردة فيه.
وهو، في النهاية، نص يجعلك تقرأه بمتعة.
قسّم المؤلف عمله إلى ستة فصول صاغ عناوينها على شكل أسئلة تناولت: ما هي
الرأسمالية؟ من أين أتت الرأسمالية؟ كيف تطورت الرأسمالية؟ هل الرأسمالية
في جميع أنحاء العالم واحدة؟ هل هناك رأسمالية معولمة؟ الأزمات - أية
أزمات؟
ما هي الرأسمالية؟
يقدم المؤلف وصفا تاريخيا لثلاثة أنواع من النشاط الاقتصادي الرأسمالي في
انكلترا أو مرتبط بها: بداية صعود رأس المال التجاري ألانجليزي مع الرحلة
الأولى لشركة الهند الشرقية – الانجليزية الجديدة في عام 1610، تأسيس مصنع
لنسيج القطن في مدينة لانكشير ودخول رأس المال في الإنتاج عام 1795، وإفلاس
بنك "بارينغز" الانجليزي في عام 1995 نتيجة لمضاربات احد تجار الأوراق
المالية الذي دشن الدور الجديد والمدمر لرأس المال المالي. في كل مرة بجري
استثمار المال لكسب المزيد منه، تكتسب هذه الممارسة قوة دفع، كما يرى
المؤلف ايضا، عندما يتم استثمار المال للوصول إلى تغيير تكنولوجي في
الإنتاج.
من أين أتت الرأسمالية؟
الفصل الثاني يبدأ بالإجابة المعروفة على السؤال السابق "شهدت الرأسمالية
انطلاقتها في انجلترا". وهنا يثار السؤال التالي: لماذا بالتحديد بريطانيا
العظمى؟ ولماذا كانت الظروف في حوالي عام 1760 مؤاتية لتدور مكائن نسيج
القطن ولتنمو الأعمال بشكل هائل. إن تفسير ذلك يكمن في تطور الرأسمالية
الزراعية قبل أن تتم رسملة الإنتاج وما ارتبط بها من توسع هائل في إنتاج
السلع الصغيرة وظهور العمال الأجراء الأحرار. ولكن لماذا حدث هذا التطور في
انجلترا وليس في مكان آخر من القارة كايطاليا حيث تطور إنتاج السلع
الحرفية، وكذلك في ألمانيا والفلاندرز (الفلمنك جزء من بلجيكا الحالية
يتكلمون الفلمنكية لهجة من اللغة الهولندية - المترجم)، حيث الانتشار
الواسع لدور النشر؟ أصبح ذلك ممكناً بعد أن فقد الإقطاعيون، إثر الغزو
النورماني في عام 1066، الكثير من سلطاتهم لصالح المملكة الجديدة التي
أسسها الغزاة في انجلترا، مقارنة بإقطاعيي بلدان القارة الأخرى، مما وفر
للفلاحين حرية أكثر و جعلهم عرضة لاستغلال أقل.
ويثير المؤلف أيضا في هذا الفصل السؤال التالي: لماذا يحدث هذا التطور
التجاري في أوربا وليس في آسيا، وخصوصا الصين التي كانت ومن جميع الأوجه
أكثر تطورا من أوربا في نهاية القرون الوسطى. يعزو المؤلف ذلك الى عدم وجود
منظمات بيروقراطية قوية إثر انهيار الإمبراطورية الرومانية، رغم المحاولات
التي بذلها العديد من الملوك والإمارات التي تشكلت بعد ذلك. لقد كانت هناك
مدن مستقلة وطبقة وسطى في دول ضعيفة داخليا ومتنافسة مع بعضها البعض، ولم
تكن تلك الدول قادرة على الحصول على المنتج الفائض أو السيطرة على الصناعات
القائمة، الكبيرة والصغيرة منها، بواسطة فرض الضرائب عليها أو مصادرتها.
كيف تطورت الرأسمالية؟
يتناول الفصل الثالث مراحل تطور الرأسمالية الصناعية بعد قيامها في
انجلترا، ويميز المؤلف بين ثلاث مراحل: الأولى مرحلة فوضوية ألغيت فيها
القواعد القديمة لتنظيم الأسواق والإنتاج وإعادة تنظيم الإنتاج الاجتماعي،
التي أقامها الإقطاعيون، أو أعيد تنظيمها. كما جرى منع نشاط مجموعات الدفاع
عن مصالح العمال، وبهذا خلق فردوس لنشاط التنافس الحر في إطار الليبرالية
بشكلها الأول. بعد ذلك سادت قواعد التنظيم الحكومية الجديدة والتي كانت
نتيجة لنضال اقتصادي وسياسي شاق وبطيء. ويعيد المؤلف عملية التحول من
المرحلة الأولى إلى الثانية، إلى تزايد الصراعات وأوجه القصور التي صاحبت
النشاط غير المقيد للشركات الخاصة والذي أنتج عملية التنافس الفوضوي خصوصا
في انجلترا.
يتوصل المؤلف نتيجة لذلك إلى حدوث تغير في بنية المجتمعات الرأسمالية
مصحوباً بأساليب عمل جديدة في الاقتصاد الرأسمالي. إن تركز راس المال أدى
إلى نشوء شركات كبيرة نظمت نفسها في كارتلات واتحادات، أما العمال فقد
حصلوا بمساعدة الدول على شرعيتهم واستطاعوا تنظيم حركة عمالية قوية. ومنذ
ذلك الحين أصبحت الطبقتان الأساسيتان في المجتمع الرأسمالي منظمتين
اجتماعيا وسياسيا. لقد طورت الدول، من جهة، سياسة اجتماعية واسعة النطاق.
ومن جهة أخرى، وظفت تلك السياسة للتدخل في العملية الاقتصادية. يطلق المؤلف
مصطلح "الرأسمالية الموجهة" (المسيطر عليها) على هذه المرحلة التي بدأت،
كما يرى، في انجلترا في أواسط القرن التاسع عشر واستمرت في أوربا إلى أعوام
1970-1975.
نقطة الضعف في "الرأسمالية الموجهة" تكمن، كما يراها المؤلف، في تزايد الحد
من مساحة وأسلوب تأثير النشاطات الرأسمالية ارتباطا بطبيعتها. وهو لا يرى
ان تحرير ما يسمى بقوى السوق قد أدى إلى تراجع دور الدولة، بل تمت إعادة
برمجة هذا الدور لكي تقوم الدولة بمهمة تنظيم فرض علاقات السوق المعاد
برمجتها. بالإضافة إلى ذلك، فقد لعبت الدولة ايضاً في المرحلة الفوضوية
دورا رئيسيا من خلال ضمان الملكية الخاصة والنظام العام.
هل الرأسمالية في جميع أنحاء العالم واحدة؟
من خلال دراسة نماذج "الرأسمالية الموجهة" في السويد والولايات المتحدة
واليابان وألمانيا، وعلى خلفية مقارنتها بالنموذج الانجليزي، يتوصل المؤلف
إلى إن الرأسمالية ليست واحدة ولم تكن يوما كذلك. فالظروف التاريخية
المختلفة لهذه البلدان هي التي حددت هذا التمايز. ورغم إن اتجاهات
الليبرالية الجديدة تؤثر على هذه البلدان بنفس الطريقة وتحركها بنفس
الاتجاه، إلاّ إن التمايزات السابقة تبقى قائمة كما يرى المؤلف.
في هذا الفصل، يؤكد المؤلف على ان أساليب الإنتاج الرأسمالي تختلف اختلافا
كبيرا باختلاف المجتمعات الرأسمالية. فالى جانب الميزات التاريخية
التقليدية، تلعب نشاطات الطبقات الاقتصادية والسياسية دورا مركزيا في بلورة
هذا الاختلاف.
وينفي المؤلف وجود تقارب قوي بين الليبرالية الجديدة في جميع المجتمعات
الرأسمالية. فاختلافها يؤشر إنها مفتوحة على الدوام لإحداث إصلاحات مضنية.
أي إن الليبرالية الجديدة لا يجب أن تكون الكلمة الأخيرة.
هل هناك رأسمالية معولمة؟
في الفصل الخامس يقترب المؤلف جداً من الوقت الحاضر. لقد اصبحت "الرأسمالية
المعولمة" تعبيرا شائعا، فالواقع يقرّب العديد من التصورات التي تؤكد إن
الرأسمالية منظمة الآن على أساس عالمي. فأسواق السلع والخدمات، وكذلك العمل
ورأس المال، هي في نواح عديدة ذات مدى عالمي... ولكن هناك الكثير من
الأساطير المرتبطة بهذا الأداء.
العولمة ليست جديدة تاريخياً. لقد بدأ رأس المال التجاري مع نشوء السوق
واتساعه، ولا يزال رأس المال يدور بشكل رئيسي بين مجموعة صغيرة من البلدان
(شركاتها، مستثمريها، والمساهمين في بورصاتها). ولا تزال الدول القومية
مختلفة وتلعب دورا محوريا في نشاطات الاحتكارات العالمية، ولهذا فان
الرأسمالية لا توحد العالم إطلاقا، بل إن التباين في التوزيع على النطاق
العالمي في تزايد.
إن اختفاء اشتراكية الدولة (النظام الاشتراكي السابق) أعطى لهذه الاتجاهات
دفعة قوية وزخما سياسيا مميزا، ولذا وجب على الكثير من بلدان العالم الثالث
الخضوع لهيمنة النموذج الأمريكي السائد بمساعدة الشروط القسرية لصندوق
النقد الدولي والبنك الدولي.
وتبدو الصين بالنسبة الى المؤلف استثناءً مزدوجاً. فقد استطاعت إنقاذ
اشتراكيتها من الانهيار وحماية تطورها الرأسمالي، بفعل القرار السياسي، من
الخضوع للولايات المتحدة والسوق العالمية. "إن سر نجاح الصين يكمن في قيام
مؤسسات جديدة نشأت بشكل طبيعي مع الحفاظ على المؤسسات القديمة، وفي انها
سمحت بقيام شركات رأسمالية في إطار النظام الاجتماعي القائم. وبهذا تجنبت
الصين الأخطاء المصاحبة للخصخصة الشاملة". (ص 146)
الأزمات - أية أزمات؟
في الفصل الأخير يقترب المؤلف من جوهر الرأسمالية. مع تغلغل رأس المال في
الإنتاج بدأت الأزمات العامة في التجارة والزراعة والمضاربات، والتي لا
تنشأ بفعل الشحة بل نتيجة للإنتاج الفائض. ويتفق المؤلف مع ماركس في إن
الإنتاج الفائض ميل متأصل في الرأسمالية الصناعية يجري تفريغه في أزمات
دورية. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر ظهرت بوادر هذه الأزمات مرة كل
عشر سنوات تقريبا. ويوضح المؤلف ذلك بالعودة إلى المضاربات التي حدثت في
هولندا في القرن السابع عشر والمعروفة بـ"جنون زهرة التوليب" ، باعتبارها
مثالاً مهماً على نشوء وتطور فقاعة المضاربات التي حدثت لاحقا في ظل ظروف
مختلفة والتي لا تزال تعيشها الرأسمالية اليوم، أو المضاربات التي حدثت في
مجال تكنولوجيا المعلومات في مطلع القرن الحالي.
"هذه الأزمات لا تدمر الرأسمالية. نعم، لقد أوضح ماركس إن هذه الأزمات هي
التي مكنت الرأسمالية من الاستمرار لأنها أزالت عبء فائض الإنتاج وقضت على
المنتجين الأقل كفاءة وأتاحت الإمكانية لدورة جديدة فاعلة " (ص 153). ومن
خلال وصف الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 1929، يتناول المؤلف تطور
الاقتصاد العالمي إلى يومنا هذا، المتصف بأزمات عميقة تتكرر باستمرار.
ويعتبر المؤلف ان أزمة 1929 كانت الأخطر تهديدا لوجود الرأسمالية لأنها
تزامنت مع الصعود الصناعي العاصف للاتحاد السوفيتي، الذي قدم بديلاً الى
الحركة العمالية والتيارات الاشتراكية في البلدان الرأسمالية.
وجدت الرأسمالية في "الكنزية" مخرجاً اقتصاديا وسياسيا من الأزمة ومساراً
لنمو جديد. ومع دخولها في سبعينات القرن الماضي في أزمات جديدة، أدخلت
انجلترا والولايات المتحدة سياسة جديدة حيز التنفيذ أطلقت عليها تسمية
"الليبرالية الجديدة". ولكن بدلا من مرحلة ازدهار جذري، نتجت سلسلة من
التراكمات الهائلة والأزمات المالية، وتوقع المؤلف حدوث آخرها في كتابه
الصادر عام 2004.
الآن، كيف يرى المؤلف مستقبل الرأسمالية؟
سيكون هناك تصاعد لأنواع معينة من الصناعات الجديدة، وستستمر المضاربة،
والتراكم والأزمات. ومع اختفاء البديل الاجتماعي الأساسي المتمثل بالنظام
الاشتراكي في السنوات التي تلت عام 1990، أصبح الخطر السياسي الذي تواجهه
الرأسمالية أقل حضوراً. ويرى المؤلف إن القوى المضادة للرأسمالية والصاعدة
مجددا ضعيفة لأنها لا تطرح البديل، وما لم تحدث أزمات أعمق فان التركيز
سيستمر على إصلاح الرأسمالية في نطاق الخيارات المتاحة. ويعتبر المؤلف
الأمر واعدا ومفيدا.
ما هي فوائد الكتاب؟
ما هي الفوائد التي يقدمها كتاب فولتشر الصغير حول الرأسمالية؟ كما اشرنا
في البداية، فان الكتاب ناقد ومقروء وموجز، ولذا يمكن أن يفيد منه كل من
يريد يخوض صراعا نقديا وعمليا مع العلاقات الرأسمالية. ويشمل ذلك المنتمين
الجدد الى الحزب والذين يشقون بصعوبة الطريق إلى الماركسية. ولا يمثل
الكتاب، بالطبع، مدخلاً كافياً، وهو ليس دورة تعليمية قصيرة. لذا سيكون من
المفيد تقديم الكتاب للقارئات والقراء الذين لديهم أساس معرفة تاريخية
ونظرية ويستطيعون الإجابة على الأسئلة المطروحة بشكل مفهوم.
كما يمكن للكتاب ان يشكل تجديداً للمعلومات واختبارا ذاتيا ومصدرا
للمبتدئين الذين يريدون معرفة مدى قدرتهم على امتلاك فكرة موجزة عن تاريخ
الرأسمالية والاختلافات بين بلدانها الرئيسية وعلاقة ذلك بواقعها الراهن.
يبقى النقد الموجه للكتاب محصورا بحدود ضيقة. فالمؤلف لا يروي تاريخاً ولا
يقدم أيضا تعريفا نظريا للنظام الرأسمالي، بل يقدم عرضاً لمحطات تاريخية
مطلوبة لدراسة الرأسمالية باعتبارها نمطاً للإنتاج يختلف باختلاف المجتمعات
البرجوازية على الصعيد الوطني.
ويبدو التقسيم الذي يتبعه المؤلف لتطور الرأسمالية كمراحل لتشكلها بدءاً من
مرحلة الفوضوية، مرورا بالرأسمالية الموجهة، وانتهاءً بالليبرالية
الجديدة، وصفا تجريبيا يلتقط لحظات مهمة من التطور الحقيقي للرأسمالية.
وربما بسبب الاختصار لا يوضح المؤلف من أين جاء بهذا التقسيم، وما هي
علاقته بماركس وبالمناقشات النظرية – السياسية. لذا نفتقد أي إشارة أو حتى
أي تقييم للتوصيف السائد للرأسمالية باعتبارها امبريالية في الأوساط
اليسارية، و خصوصا الاشتراكية الاجتماعية (الديمقراطية) الماركسية في القرن
التاسع عشر. ولكنه يذكر الامبريالية باعتبارها إفرازا للمنافسة الدولية في
إطار تشكل "الرأسمالية الموجهة". كما انه لا يتناول مفهوم "الرأسمالية
المنظمة" للاشتراكية الاجتماعية (الديمقراطية)، الذي وجد نتيجة للصراع في
جمهورية "فايمر" في ألمانيا (1918 – 1933) وحولها، والذي يقترب من مفهوم
"الرأسمالية الموجهة". ويتناول المؤلف ايضاً التطور النظري والعملي
لـ"الكنزية"، التي أدخلت "ضوابط" حكومية جديدة على الرأسمالية بعد حدوث
الكساد العظيم، ارتباطا بتجربة الولايات المتحدة الأمريكية فقط. كما انه لا
يشير إلى مفهوم "الفوردية" وفق مدرسة "الضوابط" بعد أزمة منتصف سبعينيات
القرن الماضي. أما نهاية مرحلة "الرأسمالية الموجهة" فينسبها المؤلف إلى
آثار الإجراءات الكابحة لدولة الرفاه الاجتماعي، وهو تفسير إشكالي يشاركه
فيه إريك هوبسباوم في كتابه "عصر التطرف".
يمكن الاستفادة من هذا الكتاب الموجز على نطاق واسع وبشكل سليم في
الفعاليات والحوارات. وهو ذو فائدة كبيرة أيضا على صعيد الإطلاع الشخصي
لأنه يقدم أساساً تاريخياً متيناً ويكشف عن خواء الكثير من الفقاعات
النظرية الحديثة.