إني وكل شاعر من البشر شيطانه
أنثى وشيطاني ذكر
وقال آخر:
وكنت فتى من جند إبليس فارتقت بي الحال حتى صار إبليس من جندي(1)
هل تشكّل الآيات الشيطانية أو الإبليسية Satanic Verses بنية من بُنى
القرآن المكّية الأصيلة، ومن ثمّ ألغاها محمد بعد زمن ليس بالقصير؟ أم أنها
تقف تاريخياً على الهامش منه مثل آيات كثيرة فيه وإن اتّخذت شكلها الوجودي
الحالي باعتبار أنّ محمداً أبطلها حكماً وأبقاها لفظاً(أو بالعكس) فغدت من
الآيات المنسوخة؟ أم أنها ليست هذا ولا ذاك كما يروق لعامّة الإسلاميين
حشرَها في زاوية من يريدون النيل من دينهم؟ ليس الهدف من إثارة هذه الأسئلة
إشعال فتيل المحافظين ممّن يصرّون على حجبها أو التعتيم عليها بحجج تقفز
من فوق التاريخ إلى السماء، مستخدمين أثوباً لا تلائم إلا مقاساتهم
الأيديولوجية. الأسئلة هذه مشروعة تماماً من وجهة النظر النقدية، وخاصة
حينما يتمّ تحويل مواضيعها إلى قضايا توضع على مشرحة النقد التاريخي في
بداية نشوء القرآن المحمّدي الباكر بوصفه "إشكالياً"، أو كما يرى الأستاذ
"هاشم صالح" في معرض حديثه عن فكرة أشكلة Problématisation القرآن: «الكشف
عن تاريخيته أو نزع البداهة عنه (2)». فحينما يؤشكل الحدث أو الظاهرة لا
سيما تلك التي تنتمي إلى خانة المقدّس، فإننا تقوم بالتالي على: موضعتها
تاريخياً ضمن سياقها المادّي الذي أفرزها، وتفكيكها من ثمّ معرفياً والكشف
عن أستارها التي حجبتها والتي تراكمت عبر التاريخ بفعل عوامل عدة، ليس
أقلّها الجمهور المؤمن والعوامل السياسية أو الاقتصادية أو
الاجتماعية---الخ.
لقد أجاد الأستاذ "نبيل فياض" وأوضح إلى حدٍّ ما الصورة العامّة بإيراده
في مبحثه "فروقات المصاحف ج5" الروايات المتعدّدة حول ورود الآيات
الشيطانية في بطون كتب التراث؛ لذا لن نكرّر ما قد كتب إلا ما يلزم فقط في
بناء نهج المبحث هذا، وسنعتمد بشكل خاصّ على الرواية التي أوردها ابن
سعد(3) (ت 230)، كاتب الواقدي (صاحب المغازي)، علّنا نستطيع من خلالها
تفكيك السياق الذي جرت فيه الحادثة، ومن ثم محاولة استكشاف الدلالات التي
أفرزتها وقالت كلمتها، بالأخص بشأن خاصرة محمد التوحيدية في بداية بشارته
البعثوية الناشئة تواً في مكة.
قبل محاولة الإجابة عن الأسئلة السابقة والقبض بقدر ما يمكن على سياق
اللحظة التاريخية تلك، أحبّ أن أشير سريعاً إلى نقطتين مهمتين يمكن أن
تطرحا في هذا السياق.
الأولى: أعتقد أنه من الضروريّ عند التعامل مع القرآن، أو مع أي نص من
نصوصه (وهنا نص الآيات الشيطانية المنسوخة) التي تبدو في عين المسلم
الأرثوذوكسي متماسكة (لاهوتياً)، من القيام بعملية إجرائية أفقية في محاولة
تفكيكه والكشف عن تلك الطبقات الرسوبية القائم عليها. وبمعنى آخر: أن نحدد
ما يسمّيه ميشيل فوكو "الإبستيم الفكري" الذي كان سائداً حينها والذي
استقى منه محمد كل ما حاز عليه من ثقافة؛ وبتحديد أكثر وضوحاً: الجهاز/
المحرك الفكري والعملي الذي كانت العقلية العربية تتحرّك بمقتضاه، وبناء
على ما تولده من استحقاقات تاريخية كان محمّد –شاء أم أبى- مجبراً على
الخضوع لها، بغضّ النظر عمّا كان يحويه في رأسه من هوامش دينية أو فكرية.
وهكذا يمكن- مع تفكيكنا لذلك العقل العربي الذي كان محمّد جزءاً رئيسياً
منه والكشف عن رواسبه المادية بكافة أطيافها التي ترزح خلفه- أن تتّضح
عملية التقاطع المعرفي والإيديولوجي، بل حتى التكتيكي، ما بين محمد والآيات
الشيطانية من جهة، وما بين تلك الحركات الاجتماعية الناظمة لهما والتي
كانت بمثابة الحامل المادي لما كان يتولد في فكر محمد في كلّ مرّة ومن ثمّ
يبثّه وسط مخيال أناسه، سواء في إعلانه الآيات الشيطانية أو أي آيات أخرى
من جهة ثانية.
وبناء على ما تقدّم، فإنّ من يحدّد أصالة الآيات الشيطانية وتماسكها داخل
بنية القرآن ليس من يرفعون أسلحة ذاكرة ضبابية (الأحاديث النبوية التي
يعلقونها برقبة محمد)، أصابها التعديل والتنقيح مئات المرات بفعل عوامل
سياسية أو طائفية (من صراعات بين الطوائف الإسلامية عبر التاريخ) أو
إيديولوجية. بل إنّ ما يحدّد ذلك بكلّ بساطة: استقصاء السياق التاريخي الذي
أفرز محمداً أو آياته الشيطانية أو قرآنه بشكل عامّ. فالواقع هو من يتحكّم
بمصير الأفكار لا العكس؛ وعليه يصحّ أن تطرح مسائل حول أصالة الكثير من
آيات القرآن أو هامشيتها، بمعنى أنها لا تخضع لإبستيم القرآن الفكري،
وبالتالي لا تشكل أساساً في بنية القرآن التاريخية كـتلك الآيات المكرّرة
عشرات المرات(4) وكأنّها حشو يصيب "القارئ النقدي" بالتعب والإعياء، سواء
كان السبب في هذا هو محافظة محمد على السير في انتظام القافية القرآنية أو
لأسباب موضوعية أخرى، كنسيان محمد مثلاً أنه قرأ هذه الآيات مرّةً ثمّ
يعيدها مرة أخرى في ظروف تتقاطع إلى حدّ ما مع الظروف الأولى، وخاصة ما روي
عن تكرار نسيان محمد لبعض ما كان يقرأه من القرآن بعد أن يقرأه على
أصحابه(5) (وإذا كانت الحال هذه مع محمد "المنتج" الأصليّ للقرآن، فما
بالنا بالذين أتوا بعده!)؛ أو ربما لأسباب أخرى لا يتسع المجال هنا
لمناقشتها.
الثانية: هل من المنطقي تاريخياً أن نؤشكل–بتعبير هاشم صالح- قضايا آيات
وسور قرآنية كثيرة لا وجود لها الآن في صيغة القرآن القرشية الحالية التي
بين أيدينا (انظر: الأمثلة الكثيرة التي أتى بها أ. "نبيل فياض" في سلسلته
الهامة "فروقات المصاحف")، في حين أنه ولأسباب جدلية مع واقع القرآن
البنيوي والتاريخي نجد أنها تشكّل جزءاً أصيلاً من القرآن، وخاصة في صيغته
الأصلية قبل إجراء "عثمان" السياسي بحرقه لمصاحف الذين كما يفترض أنهم
كانوا أصدقاءه من الصحابة. وهذا ما يسمح لنا الآن بالحديث عن الآيات
الشيطانية باعتبار أنها شكلت وما زالت تشكّل بأعين الناقد جزءاً أصيلاً من
مخيال محمد الديني، وبالتالي من بنية القرآن الباكرة وإن حذفها محمد منه
وهو ما زال في مكة.
من الله إلى الغرانيق العلى:
حوالي سنة /614م/ (أي حوالي السنة الرابعة أو الخامسة من بداية بشارته)
اتخذ محمد دار الأرقم مكان عبادة ومركز تبشير بدينه الذي لم يأخذ بعد
طابعاً عقائدياً محدداً، وإنما التبشير بأفكار حكمية ولاهوتية وأخلاقية لم
يكن لها من "تأثير سياسي" مباشر يمكن أن يضرّ بهيكلية النفوذ السياسي
لأصحاب القرار في مكة. لذا يصحّ أن نقرّ مع مونتغمري وات Montgomery Watt
أن المعارضة ضدّ محمد التي كانت ممثلة في ذلك الوقت بـ"أبي جهل" لم تكن
تزيد على بعض الانتقادات اللفظية(6). فإذا كان هناك في هذا الوقت من معارضة
فإنها لم تكن معارضة بالمعنى الحقيقي للكلمة. ويمكن أن نتبين هذا من خطاب
"عروة" -الذي ألّف عن حياة محمد بعد 70 سنة تقريباً- إلى عبد الملك بن
مروان (تولى الخلافة من سنة /685/ إلى /705م/) حيث يقول: "أما بعد فإنه
–يعني محمداً- لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه
لم يبعدوا منه أول ما دعاهم وكادوا يسمعون له حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس
من الطائف من قريش لهم أموال أنكروا ذلك عليه واشتدوا عليه---الخ(7)."
إذن لم تشتد المعارضة حتى تعرّض محمد لطواغيتهم على حد تعبير عروة. فمنذ
البداية لم يكن أحد يقترب منه ومن أفكاره، مثله مثل أي مبشّر دينيّ آخر،
وهنا ربما نتذكّر في هذا السياق شخصية "عثمان بن الحويرث" الذي كان على
قرابة من خديجة بنت خويلد. وسواء أكان من الأحناف أو من المسيحيين، ففي
البداية لم تكن قريش تعارضه ولا حتى أفكاره التوحيدية، إلا أنه عندما ذهب
إلى الشام إلى الغساسنة -كما يروي البغدادي (ت 245هـ)- وحسنت مكانته عند
قيصر ملك الروم الذي كان يطمح إلى إخضاع مكة بواسطته، بحيث يصبح عاملاً لهم
على مكة، وعندما أدركت قريش مطامح عثمان السياسية بعثت له إلى الشام
فقتلوه مسموماً(8). نفس الشيء تقريباً يمكن أن ينطبق على محمد -مع حفظ
الفوارق- في مسألة التبشير بالأفكار الحنيفية التي كانت منتشرة؛ أما عندما
أخذ يهدّد آلهة مكة ويسبّها، الأمر الذي سيضرّ بمكانة مكّة أمام أعين
العرب، وبالتالي تهديد عصبها التجاري الذي كان وجودها قائما عليه، فمن
الطبيعي والحال هذه أن يدافعوا عن هذه الهيبة التجارية، وإلا فدمار مكة
وتجارتها سينتظرهم لا محالة على يد محمد وأفكاره.
يقال إنه كان في هذه الفترة قسم من أتباع محمد الأوائل في الحبشة التي
كان يحكمها النجاشي. وبغضّ النظر عن الاختلافات والغموض الذي غلّف هذه
الهجرة، نجد أن "وات" يرجح أن الهجرة قد بدأت بعد إلغاء محمد الآيات
الشيطانية(9)؛ إلا أنه يحتمل كما تؤكده المصادر (ابن سعد على وجه الخصوص)
أنه قد وقعت هجرتان، فربما تكون كانت هجرة قبل حدث الآيات الشيطانية وهجرة
بعدها. المهمّ في هذا السياق أنه كان ثمّة طرفان يتصارعان: محمد من جهة
والمعارضة القرشية من جهة أخرى. محمد يريد إثبات ذاته وفكره الديني أمام
قوة تجارية قوية، والمعارضة تريد الدفاع عن هذه القوة والهيبة أمام أعين
العرب. ويستبعد أن محمداً لم يكن يدرك الأبعاد السياسية التي كانت تحيط
بلاهوته الفوقي التي تهدد تجارة مكة؛ وإلا لماذا هذا الإصرار منه: "يا عمّ!
لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته
أو أهلك دونه". هل كان يطمح لكرسي سياسي؟ يستبعد أن يكون الجواب بـ نعم
(على الأقل في هذه المرحلة التاريخية)، والأصحّ أن يجاب بأنه: كان يمتلك في
رأسه تكتيكاً براغماتياً يجمع فيه لاهوت السماء من طرف ولاهوت الأرض من
طرف آخر، استطاع من خلاله القبض لا على سلطة يثرب من أبوابها العريضة فقط،
وإنما على سلطة مكة أيضاً والكثير من البلاد العربية في ظرف عدد من السنين.
لذا لا نستغرب أنه عندما عرضت قريش على محمد أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا
إلهه سنة، قد رفض ذلك. لكن متى رفض؟ لقد رفض بعد تفكير في هذا العرض، أو
بلغته هو، حتى ينظر ما يأتي إليه من الربّ من الوحي(10). وعليه: فإن محمداً
قد نجح بالفعل من جعل نفسه خطراً لا يستهان به في أعين القطب القرشي
الآخر.
هذه صورة موجزة جداً عن الخلفية التاريخية التي احتضنت حدث الآيات
الشيطانية. الآن: كيف حدثت الآيات الشيطانية؟ يروى في كتب التراث أن محمداً
عندما تشدّدت المعارضة المكية في موقفها الوثني ورفض دعوة محمد أصيب محمد
بحزن شديد قضَّ مضجعه. فهو منذ بداية بشارته من خمس سنوات لم يلتفّ حوله
إلا الضعفاء من قريش من أرقّاء وغيرهم من الطبقات الدنيا «وما نراك اتبعك
إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي» [س هود: 27]. لذا لم يرد محمد أن يقرأ
عليهم ما يزعجهم به لكي لا تزداد حدّة الشقة معهم(11). وروي أنه كان مرة في
نادٍ من أندية قريش فبدأ يقرأ عليهم من سورة النجم، حتى إذا بلغ ذكر اللات
والعزى أقرّ بها وبشرعية عبادتها. يمكن أن نقرأ له: «أفرأيتم اللات
والعزى/ ومناة الثالثة الأخرى/ تلك الغرانيق العلى/ وإن شفاعتهن لترتجى»
(ابن سعد: نفس الصفحة).
لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أنّ عبادة الملائكة كانت منتشرة بين
عرب ما قبل الإسلام، بل وحتى بعد بداياته، وليس هذا فقط بل هم رسل السماء
إلى الأرض «وقالوا لولا نزل عليه ملك» [س الأنعام: 8]، إضافة إلى كونهم
بنات الله: «وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً» [س الزخرف: 19].
وبناء على ما تقدمه المصادر إلى أن الغرانيق العلى هي أنواع من
الطيور "Swans Exalted" أو شبهت بالطيور (لسان العرب: مادة غرنق/ غرنوق)
التي كانت تقربهم من الرب «وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» [س
الزمر: 3]، وبناء على هذا فإنه لا يستبعد مع ترجيح "وات" أن الغرانيق هي
نوع من أنواع الملائكة، وبالأخص أن عبادتها كانت من طقوس العرب لكون اللات
والعزى من إناث الله(12). وإذا كان الأمر على هذا النحو فإنه يحقّ لنا أن
نتساءل عن طبيعة الفاصل بين الملائكة في حدّ ذاتها وبين الأصنام في المخيال
الديني للعربي حينها، وما هي طبيعة ذلك الاتصال الخفيّ ما بين "مؤنّث"
ممثلاً بالملائكة / الطيور الغرانيق وما بين "مذكّر" ممثلاً بالربّ/ الله؟
للأسف لا يقدم لنا القرآن إجابة شافية سوى التنديد بجعل العرب الملائكة
بنات الله واستنكاره الشديد عليهم: «ألكم الذكر وله الأنثى/ تلك إذاً قسمة
ضيزى» [س النجم: 21- 22]. وعلى الأرجح يعود هذا الغموض إلى غموض التوحيد
داخل مخيال محمد اللاهوتي. يشير "يوسف شلحد" في إشارة مهمة إلى عدم استقرار
توحيد محمد على أيديولوجية توحيدية ثابتة وخاصة حينما كان لا يزال في مكة:
"ربما واجه محمد بعض الحذر في استعمال اسم الله في القرآن طيلة المرحلة
المكية «الأولى» (التشديد من عندي) الغامضة سنواتها نسبياً. فما يذكره
القرآن هو: ربّك- ربّه- ربّ هذا البيت لكنه يتجاهل الشكل المبنيّ: الربّ،
الذي يبدو مناسباً تماماً لاسم الله، وتواصل في المرحلة المكية «الثانية»
التردّد نفسه في تسمية الله باسمه(13)". إذاً هل إنّ محمداً حينما أقرّ
بشرعية الغرانيق تنازل على مبدأ من مبادئ توحيده؟ إطلاقاً لا. فهو من جهة
لم يكن توحيده أصلاً مبلوراً تماماً حتى يستطيع أن يفرق داخل القوى الخفية
العلوية، كما هي الحال مع الأحناف، (هذا إذا اعتبرنا أنّ محمداً كان حقّا
واحداً من الأحناف كما يرى نصر حامد أبو زيد(14)) الذين كثيراً ما وصف
توحيدهم بالغامض Vague Monotheism الذي لا يقف في تعارض مع "الشركية"
Polytheism(15). ومن جهة أخرى –وهذا هو الأهم- أن محمداً هو ابن هذا الواقع
المكي، وابنٌ لتلك الفسيفساء العقائدية في مكة؛ ومهما حاول أن يرتقي بفكره
عنهم لا بدّ أن تترك الوثنية فيه آثاراً على توحيده (الحجّ والحجر الأسود
أكبر مثالين يطرحان هنا). وسواء أكان نهله من ذلك الواقع بتبنيه طقوساً
وثنية عنهم أم كان تبنّياً لجمل وثنية الطابع، ومن ثمّ تضمينها في قرآنه
كما هو الحال مع الآيات الشيطانية، فإنّه يحقّ لنا أن نتمادى أكثر في
القول: أن المسألة لم تكن من الناحية الواقعية لا قضية الله ولا قضيّة
الشيطان، وإنما كانت عقيدة يمارسها العرب في عباداتهم قبل أن يوحي شيطان
محمّد له بتلك الآيات. ومن هنا يصحّ إقرار "الكلبي" في كتابه الأصنام بقوله
الصريح على لسان قريش (وليس على لسان شيطان محمد): "وكانت قريش تطوف
بالكعبة وتقول: واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى
وإنّ شفاعتهنّ لترتجى(16)". وباعتبار أنّ محمداً كان يمرّ بمرحلة دقيقة
وحرجة في هذا الوقت فلا بأس من تكتيك براغماتي استطاع من خلاله شدَّ قلوب
سامعيه بأنّ شفاعة الغرانيق العلى هي شرعية عند الربّ، وبالتالي عبادتها
شرعية؛ وهذا ما جعل قريش أن تصدّق الإقرار هذا من محمد، مما حدا بهم كما
يروي ابن سعد أن محمداً حينما سجد «سجد القوم جميعاً» (ابن سعد نفس الصفحة)
إلا الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة، سعيد بن العاص الذين كانا كبيري السن
لا يستطيعان السجود، فرفعا تراباً إلى جبهتيهما إقراراً بسجودهما بما أقر
به محمد.
من المحتمل أنّ محمداً نظر في بدايات توحيده إلى اللات ومناة والعزى على
أنها كائنات أنثوية/ ربّات علوية، إلا أنّها دون مرتبة من الربّ المذكّر/
الله، من دون أن يفرق تفريقاً صارماً في درجة العلو في ألوهية كلٍ منهم.
وهذا ما يبرّر القبول برواية "الكلبي" أنّ محمداً كان في مرحلة ما يعبد
اللات والعزّى وهو على دين قومه وكان يهدي لها النذور (الكلبي: نفس
الصفحة).
يضاف أنّ الإذن بعبادة الآلهة الأخرى (اللات: الربّة معبودة في الطائف،
العزّى: الربّة المعبودة بنخلة بالقرب من مكة، ومناة: كان يقع نصبها بين
مكة ويثرب وهي في الأصل معبود أهل يثرب) وإشراكها مع ذكورية الله يعني من
وجه آخر زوال الخطر الذي كان يشكّله محمد بسبّه آلهتهم، الذي كان يؤثر
سلباً على تجارة واقتصاد هذه المنطقة، وبالأخص القطبين المتنافسين: مكة
والطائف.
من الغرانيق العلى إلى الله:
يمكن أن نتلمس الفرحة العارمة التي هاجت بها بقريش بسجودها مع محمد في
ختام سورة النجم «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» وقول أيضاً أبي أحيحة:
"وقد آن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير"(17) (طبعاً من المعروف أن
محمداً كان يطلق عليه "ابن أبي كبشة"، إلا أن هذا لا يعنينا في هذا
السياق). وكما تظهر بطون كتب التراث أنه حالما سمع من كان بالحبشة من أتباع
محمد عن "إسلام" كل قريش(18) رجعوا من الحبشة إلى مكة، إلا أنهم قبل أن
يدخلوها وقع في أسماعهم أن محمداً قد أبطل ونسخ ما أقره أمام مسامع قريش،
فائتمروا في الرجوع إلى أرض الحبشة، إلا أنّ الأرجح كما يحدث ابن سعد عن
الزهري: "دخلوا مكة، ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار، إلا ابن مسعود فإنه مكث
يسيراً ثم رجع إلى أرض الحبشة(19)".
وهكذا أبطل محمد ما قد أعلنه على الملأ بهذه الآيات:« «أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى/ َومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى/ أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الأنثى/ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى/ إن هِي إلا أَسْمَاءٌ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ
سُلْطَانٍ». [النجم: 19-23]. ثم نجد تبريراً لتدخل الشيطان ذلك (وهو ما قد
اعتبر من جانب التراثيين بأنه مواساة لمحمد) بحيث أن الأنبياء كلهم يتسلّل
إليهم الشيطان- وليس محمد فقط - ويلقي في روعهم الوحي: «وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ» [الحج: 52].
إنّ التساؤل المهم الذي يمكن أن يطرح في هذا السياق هو: ما الذي جعل
محمداً أن يرتدّ القهقرى على ما قد أعلنه على مسامع قريش؟ ثمّ وما هو مقدار
الفترة الزمنية ما بين إعلانه شرعية الغرانيق العلى وبين إبطاله لهذا
الإعلان؟
ما هو مؤكّد أنّ محمداً كان يدرك حقيقة الأبعاد السياسية لإعلان الآيات
الشيطانية ومن ثم إلغائها، وخاصة تأثير هذا على اقتصاد مكة والطائف اللتين
كان وجودهما قائما على ما كانت تدرّه لهم آلهتهم. وهذا هو سرّ الإلحاح الذي
كان من جانب المكيين على محمد أن يذكر آلهتهم بخير. فإذا كان هدف محمد
بإقراره "شرعية الغرانيق" هو استمالة قريش إلى جانبه، فإنّ هذا لم يثمر
بنتيجة في التوصل إلى تسوية معهم. فما زالت قريش بعد سماعها تلك الآيات
تعبد الأصنام، وخاصة أنه منذ البداية قد نصب نفسه أمامهم "موحّداً"
ومبشّراً وأعلنها بداية توحيدية؛ إلا أنه وكما أشرنا، مهما حاول أن يرتفع
إلى صفاء التوحيد، فهو خاضع لسياق مادي، خاضع لخليط عقائدي متعدد الاتجاهات
(من وثنية وحنيفية توحيدية وثقافات هيلنستية وديانات يهودية ومسيحية—الخ)
كانت قد ألقت بظلالها على نص قرآنه. ومن جهة أخرى لا بدّ أن تكون الفترة
بين إذاعة الآيات الشيطانية وبين إلغائها طويلة وكافية بحيث يستطيع محمد من
خلالها أن يدرك بأن ما أحدثه لم يفلح مع قريش في الحصول على أي نتيجة
منهم. أما عن مقدار هذه الفترة فليس بإمكاننا أن نحدده بدقة إلا فقط ما
يذكره ابن سعد بما يقارب الشهر تقريباً ما بين حدوث السجدة في شهر رمضان
وما بين قدوم المهاجرين من الحبشة في شهر شوال في السنة الخامسة للبعثة على
حد تعبير ابن سعد (ابن سعد ص176).
في أصالة الآيات الشيطانية بوصفها "آيات قرآنية":
إذا أخذنا بعين اعتبار النقد التاريخي نظرة محمد أنه ليس معيباً على ربه
أن يبدّل آية مكان آية، فإننا سنفهم مباشرة أن المسألة بكل بساطة هي مسألة
واقع تاريخي متحوّل، له استحقاقاته وإفرازاته، ولكلّ تحوّل تاريخيّ آياته
المحمّدية، وهذا هو معنى استجابة القرآن للظروف والشروط التاريخية
المتغيّرة. وفي هذا السياق ينقل "كانون سل Canon Sell" قولاً لـ "نولدكه"
(Encyclopedia Britannica, vol. xvi, P. 599) "لم يكن ما يقدح على فكرة
الله، الحاكم المطلق، تبديل أوامره لمحمد. فالقرآن يحتوي على الكثير من
الاتجاهات المتناقضة التي ناسب كل منها الشروط أو الظروف التاريخية
المختلفة. وهذا ينطبق على تعامله مع الوثنيين(20)". فلكون الآيات الشيطانية
لم تأت بأيّة ثمار تنسجم مع الظروف المكّية، فلا بدّ والحال هذه من شطبها
إلى الأبد من قاموس القرآن في مرحلة تكوّنه المكية. صحيح أن محمداً استطاع
حذفها من نص المصحف إلا أنه لم يستطع على الإطلاق حذفها من واقعها الذي
أنتجها، قبل أن يوحي له بها شيطانه. فقبل أن نقرأ أي نص من القرآن لا بدّ
من قراءة الواقع الذي أنتج محمداً والقرآن. ومن هنا تكتسب الآيات الشيطانية
عمق أصالتها القرآنية، منظوراً إليها من نافذة جدالية وتاريخية، وهذا من
خلال نقطتين:
أ) سياقها التاريخي الذي كشفنا قليلاً عن حيثياته والذي أنتجها قبل شيطان
محمد.
ب) ملاءمتها وانسجامها لسياق سورة النجم -كما يرى نولدكه(21)- سواء من
حيث مقدار طول الآية أو نوعية الفاصلة أو القافية للآيات الأخرى في نفس
السورة. لذا لا بدّ من تتبع حيثياتها داخل بنية القرآن وإعادة زرعها فيه.
طبعاً ليس المقصود من هذا الكلام أن نطالب بتضمينها مرة أخرى داخل نص
القرآن، فهذا للأسف لن يحدث أبداً ما دامت جيوش المقدس الهائلة من
الإسلامويين تحرسه بأسلحة وهمية وخرافية، لا بل سيعتبرون هذا تجديفاً
وكفراً، وربما وصلوا إلى حد أن يقتلوا من يطالب بهذا (والحمد لله! أن أمثلة
القتل التي ينعم بها تاريخنا أكثر من أن تعد، ليس لمن يطالبون بهذا وإنما
من يحاولون فقط الخروج عن الدوغما الأرثوذوكسية الإسلامية!). وإذا كان
الأمر على هذا النحو فليس أقله على عين الناقد التاريخي حينما يؤشكل نص
القرآن ويضعه على طاولة النقد (كتلك التي انتهى منها عصر الأنوار في أوربا
مع كتابهم المقدس) أن لا يتجاهل هذه المرحلة المهمة في تاريخ محمد وفي
تاريخ تكوّن قرآنه، وإعادة موضعة هذه الآيات ضمن سياقها الذي نطق بها
وأثارها على لسان محمد في القرآن حوالي سنة /614م/.
يمكن أن نصل إلى نتيجة مفادها أن دلالة "تحوّل" محمد ما بين القطبين:
الله من جهة والغرانيق العلى من جهة أخرى، لم يكن تحولاً ضمن مخيال محمد
الديني بقدر ما كان انعكاساً للتحول في الشرط المكي التاريخي الذي لم يسلم
محمد إلا وخاض صراعاته وتناقضاته، فوجدت شكلها من ثمّ على لاهوت محمد
وقرآنه. هذا ولا يجب أن ننسى إضافة إلى ذلك –ومرة أخرى- أن توحيده كان في
مرحلة تكوّن تاريخي دائم، وتطور قائم على ما كان منتشراً من ثقافة، وبالأخص
عند اليهود والمسيحيين وما استفاده من الأحناف الموحدين. ذلك أن محمداً لم
يولد من بطن أمه ولم ينزل من السماء وهو "موحّد خالص". وربما تعلّم كذلك
مع مرور الوقت –كما يرى "وات"- الشيء الكثير من اليهود والمسيحيين فيما يخص
موقفهم من الأصنام، ورأى أنه لا بدّ أن يكون على نفس الخط معهم برفض أي
تعامل أو مهادنة مع الوثنية(22). وفعلاً هذا ما بلوره جلياً في آياته التي
ردّدها على مسامعهم بعد حدث الآيات الشيطانية: «قل يا أيها الكافرون لا
أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد---الخ» [س الكافرون: 1-3]؛ الأمر
الذي آذن ببداية المعارضة الشديدة له ولأتباعه.
وسواء أصر الإسلاميون على حدوث الآيات الشيطانية أم لا، فليس ثمة من شيء
يستطيع أن يصمد أمام النقد التاريخي، وخاصة في تعرية الأستار المقدسة
والكشف عما يختبئ وراءها، والتي تمثّل "شمّاعات" يعلّقون عليها مصالحهم
أمام جمهور إسلامي شعبي وبسيط لا يملك من أمره حلاً ولا عقداً سوى تلك
الذاكرة المقدسة، وهذا هو سرّ أننا نراهم صباح مساء ينصّبون أنفسهم حراس
تلك الأودية المقدسة وسدنتها.
الهوامش:
1- الألوسي، محمد شكري: "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" دار الكتب
العلمية- بيروت ط1، 2009 ج2 ص356.
2- محمد أركون: "القرآن" من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني،
ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة- بيروت، ط1 سنة 2001 وقد ورد كلام هاشم صالح
ضمن حواشي الكتاب ص 53.
3- ابن سعد الزهري: كتاب الطبقات الكبير. تحقيق محمد علي عمر، نشر مكتبة
الخانجي بالقاهرة، ج1 ص 174- 175.
4- يكفي أن نقرأ عن قصة موسى التي كررت كما يقال فوق السبعين مرة في
القرآن، والتي ترمي كلها في مرمى واحد وإن اختلفت التراكيب اللفظية في
إيرادها. نقرأ مثلاً عن سجود السحرة للرب: «وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
سَاجِدِينَ» [الأعراف: 120] وأيضاً بتركيب مكرر وبنفس الدلالة مع تغيير
الواو في "وألقي" إلى الفاء «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ» [الشعراء:
46] وبنفس الدلالة ولكن بتركيب لفظي مختلف قليلاً: «فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّدًا» [طه: 70].
5- روى مسلم في صحيحه (رقم 1874 باب الأمر بتعهد القرآن): "كان النبي
يستمع قراءة رجل في المسجد فقال: رحمه الله لقد أذكرني آية كنت قد
أنسيتها". طبعاً ليس هذا معيباً يقدح فيه، بل هو كما يقول عن نفسه: "إنما
أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون" (البخاري: رقم 401) لذلك لا نستغرب من ورود
آية في القرآن: «سنقرئك فلا تنسى» [الأعلى: 6] وما رواه النيسابوري عن
مجاهد والكلبي ومقاتل قولهم أن محمداً كان "إذا نزل عليه القرآن كثر تحريك
لسانه مخافة أن ينسى". تفسير النيسابوري على هامش تفسير الطبري، المطبعة
الأميرية ببولاق ط1 سنة 1329هـ (أعادت طباعته دار المعرفة- بيروت 1992)،
مجلد 12 ج30 ص71.
6- W. Montgomery Watt, , Muhammad: Prophet And Statesman
.Oxford University Press. 1961, p.57. .
7- الطبري (ت 310 هـ): تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل
إبراهيم، دار المعارف بمصر ط2- ج2 ص328.
8- البغدادي، محمد بن حبيب: "المنمق في أخبار قريش". صححه وعلق عليه
خورشيد أحمد فاروق، عالم الكتب، ط1، 1985، ص154- 155-156.
9- Watt, p. 65- 66
10- ابن سيد الناس: "عيون الأثر" في فنون المغازي والشمائل والسير. دار
الجيل- بيروت، ط2، 1974، ج1 ص106.
11- ابن سعد: ج1 ص 174.
12- هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 204 هـ) "الأصنام" تحقيق أحمد زكي
باشا، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1995، ص19.
13- يوسف شلحد: "بنى المقدس عند العرب". دار الطليعة- بيروت، ط1. يونيو
1996، ص65-66.
14- نصر حامد أبو زيد: "مفهوم النص". المركز الثقافي العربي، ط3، 1996،
ص65.
15- Watt, P. 26..
16- الكلبي: "الأصنام". ص19.
17- تفسير الطبري: مجلد 9، ج17، ص133.
18- مرجع سابق: ص133.
19- ابن سعد: ج1، ص175.
20- Canon Sell, The Historical Development Of The Quran, London,
England, 4th edition, 1923, p. 36 .
21- ثيودور نولدكه في كتابه تاريخ القرآن (تعديل فريدريك شفالي .نقله
للعربية جورج تامر بالتعاون مع مؤسسة كونراد – أدناور ط1 2004) ص 92.
22- watt, p. 65.
الخميس أبريل 22, 2010 10:57 am من طرف هشام مزيان