بقلم : . . جهاد الزين
لا دِين للدولة: هل يجرؤ السوريون غير الأصوليين؟ مهمة فصل الدين عن الدولة قد تكون "أسهل" في سوريا وتونس عما هي في
مصر. وهذا له "ترجمة" جوهرية آن الأوان لصياغتها في مشروع ديموقراطي بعدما
حاول بعثيو الستينات وأوائل السبعينات صياغتها في مشروع سلطوي بالقوة
العسكرية.هنا المقال الثاني.
يكاد يكون التاريخ السياسي الحزبي لسوريا المعاصرة بعد العام 1963 هو
تاريخ الصراع بين حزب البعث العربي الاشتراكي وجماعة "الإخوان المسلمين".
واذا كانت مواجهات الخمسينات الانتخابية بينهما، لاسيما في دمشق، كرا وفرا
ديموقراطيا لكل منهما، فإن السمة العنفية طبعت معظم مواجهات منتصف
الستينات واوائل السبعينات التي كان فيها "البعث" شاهرا سيف القوة
العسكرية للدولة و"الإخوانُ" سيفَ الاحتشاد في الجوامع لإحراج أخصامهم
البعثيين، الى أن حصلت القطيعة النهائية مع انتقال "الإخوان" للمواجهة
المسلحة الشاملة مع النظام البعثي الذي كان قد أصبح منذ اكثر من 8 سنوات
تحت القيادة المُحْكَمة للرئيس حافظ الاسد.
بعثيٌ معارض سابق وعتيق فرّ طويلا من سوريا حتى أواخرالسبعينات و يقيم
منذ ذلك الحين بسلام بين "حي الميدان" في "جُلّق" (أحد أسماء دمشق
الشائعة) وبيروت، هو نبيل الشويري، كَتَب في كتابه الأخير "الهوية
والذاكرة" الصادر عن "دار رياض الريس"(2010) أنه كان على معارضي حافظ
الاسد أن يبادروا الى إدانة مجزرة الكلية العسكرية في حلب التي ارتكبها
"الإخوان المسلمون" عام 1978 وذهب ضحيتها مئات تلامذة الضباط البعثيين
والعلويين ... لكي يحق لهم أخلاقيا وسياسيا برأيه إدانة المجزرة الأفظع
التي سيرتكبها النظام لاحقا في حماه (ص208-209). والذي كنا نخشاه بعد
القرار الدولي الإقليمي بـ"عسكرة" الثورة السورية بدأ يحصل ويتكرر بذلك
الالتباس الأخلاقي السياسي الذي يشير اليه كتاب الشويري. فقد أخذ كثيرون
الآن بالقول ان المجازر الحاصلة لم يعد يتحمّل مسؤوليتها النظام وحده بل
المعارضة "المُعسكَرة" أيضا. وها هي طلائع هذا الموقف تظهر في الصحافة
العالمية مع تقرير "ديرشبيغل" عن حمص.
كانت مواجهات 1964 التي امتدت الى دمشق وحلب وبانياس - وانفجرت في
حماه - هي مواجهات بين"الإخوان المسلمين" ومعهم نسبيا الناصريون
المستَبعَدون من السلطة و بين الشخصيات (السُنّية) على رأس "البعث" بقيادة
الرئيس أمين الحافظ كرئيس للدولة وصلاح الدين البيطار كرئيس للوزراء
ونورالدين الأتاسي كوزيرللداخلية ولكنها بلغة تلك الأيام "القيادة
القومية" المسيطرة والمتعددة الطوائف فعلا بقيادة ميشال عفلق. فوزير إعلام
المواجهة المتحمس جدا لقمع "الرجعيين" كما تُظهِر البيانات التي كان
يصدرها هو (الدرزي) شبلي العيسمي (الذي نتمنى له العودة سالما من اختطافه
المشين من عاليه) فيما كان عبد الحليم خدام هو محافظ حماه كما سبقت لي
الاشارة في مقال سابق.
ثمة ملاحظة يستوجبها ذلك الاستذكار هي تلك التي يرصدها الباحث
الاميركي المرموق ستيفن هايدمان في كتابه الصادر عام 1999 عن "منشورات
جامعة كورنل" الذي أهداني الكاتب الصديق نسخة منه قبل بضع سنوات:
Authoritarianism in Syria وصدر مؤخرا عن "دار رياض الريس" بالعربية تحت
عنوان:التسلطية في سوريا. في هذا الكتاب الذي يرصد علاقة تشكّلِ المؤسسات
بالصراع الاجتماعي في سوريا بين عامي 1946 و1970 يتابع هايدمان نوع
التواصل وحدوده بين جماعات التجار والصناعيين السوريين وبين "الإخوان
المسلمين" في مواجهات 1964 فيلاحظ أن نوعا من التنسيق كان يظهر بوضوح بين
الفئتين كلما كان "البعث" عبر الدولة يتخذ إجراءات اكثر اشتراكية كاستكمال
تأميم بعض الشركات. وهو تحالف تَفكَّك بمعناه الداخلي لاحقا مع انتصار
السلطة البعثية ولايزال متفككا الى اليوم في الحرب الاهلية المندلعة خلال
الثورة السورية عبر "هدوء" دمشق وحلب ... إنما علينا ان نتساءل في ظل
الظروف الجديدة كليا الى متى يمكن لـ"هدوء" البورجوازية السورية القديمة
والجديدة السنية والمقيمة في الداخل ... ان يستمر وكيف؟ وإذْ نميّز بين
بورجوازية داخل وبورجوازية خارج فلأن تراكما لثروات كبيرة حققها أفراد
سوريون في الخارج وخصوصا حول "الإخوان المسلمين" في دول الخليج النفطية.
لكن لا ينبغي الالتباس هنا. فلا في الماضي - بعد عام 1963 - ولا في
الحاضر كان هناك شعار اقتصادي يتقدم على الشعار الديني او السياسي
لـ"الإخوان المسلمين". بينما كانت القيادة البعثية في زمن وجوه "سنية"
قيادية فاعلة كالحافظ والبيطار والأتاسي والعديدين غيرهم تخوض أحيانا
معارك سياسية بسبب محاولتها تمريرعلمنة للدستور من نوع عدم الاشارة الى
الاسلام كدين رئيس الجمهورية. وغالبا ما تصيَّدها "الاخوان المسلمون"
بنجاح و أحبطوا محاولتها هذه. كان لـ"البعث" فعلا مشروع علماني ما
بدينامية متعددة الطوائف من شرائح من الطبقة الوسطى. لكنه كان مشروعا
سلطويا انقلابيا بعدما فقد حزب"البعث" طاقته الديموقراطية التي كانت له في
عصره الذهبي الديموقراطي بين العام 1954 والعام 1958.
اليوم تَحوّل خطاب "الإخوان المسلمين" الى خطاب ديموقراطي مع قدَر
غير واضح ولكن أكيد من العودة الى الانخراط العنفي المسلّح ضمن "عسكرة
الثورة". لكن لنلاحظ أنه كلما ازداد خطابهم انخراطا في مشروع تعددي
ديموقراطي منذ 2001 حتى صدور "ميثاقهم" الأخير كلما ازداد توغلهم في اللغة
غير الدينية. ذلك يضيئ على حقيقة جوهرية ان السياق الديموقراطي بحكم
تكوينه العميق هو سياق "علماني" اي سياق المزيد من فصل الدين عن الدولة.
لغة "الاخوان" المعلنة تندفع بهذا المعنى ليس فقط في مجتمع متعدد مثل
سوريا بل في المجتمعات الوحدانية دينيا، نحو مآلٍ "سيكولاري" غير ديني في
مقاربة النظام السياسي سيجد "الإخوان المسلمون" وسنجد معهم انهم سيصلون في
نهاية الامر الى مفترق خطير: التخلي عن مشروعهم الديني او تغيير طبيعته.
وهذا ما أخذ "حزب النهضة" التونسي يكتشفه على مستويين: الضرورة
الديموقراطية والضرورة الوطنية اي ضرورة الوفاق الوطني. وهذا مفترق سيجد
أيضا "الإخوان المسلمون" المصريون أكثر فأكثر أنفسهم لا يستطيعون تلافيه.
لكن إذا كانت مصر دولة "سلطانية" التقاليد أي لرئيس الدولة، ملكاً او
رئيسَ جمهوريةٍ، موقعُ "الخليفة" بعد الفتح الاسلامي حيال الكنيسة القبطية
التي ورثت بدورها هذه العلاقة، فإن تونس ليست كذلك، كما أن سوريا رغم
انطوائها على بعض هذا المعنى "السلطاني" الا انه ليس معنى متجذرا ولهذا
فإن مهمة فصل الدين عن الدولة قد تكون أسهل فيهما؟ (سوريا وتونس). وهذا له
"ترجمة" جوهرية آن الأوان لصياغتها في مشروع ديموقراطي بعدما حاول بعثيو
الستينات وأوائل السبعينات صياغته في مشروع سلطوي بالقوة العسكرية. إنها
إلغاء النص على دين الدولة وكسر السيف المصلت الديماغوجي القاطع بأنّ
لادينَ الدولة يعني تهديد دين المجتمع . وهذا ما ثبت عدم صحته في كل
التجارب العلمانية الكبرى والاكثر ديموقراطية وحداثة.
وكما قلت في المقال السابق "لم ينجُ يمينٌ أو يسارٌ من هذا الضغط
بالنص على دين الدولة الذي فرض نفسه على دساتير عربية عديدة ولا نجا منه
ليبراليون او وسطيون او علمانيون او حتى دينيون شهدتهم الحيوات السياسية
العربية على مدى حوالي تسعين عاما حاولوا ان يقفوا في وجه المتشددين
الدينيين في مجتمعات متعددة ذات اغلبية مسلمة او في مجتمعات مسلمة سكانيا
بالكامل". إنما الخطوة التونسية بعدم النص على الشريعة الاسلامية كمصدر
للتشريع في الدستور التونسي الآتي تجعل من الضروري رفع السقف وبالضبط في
هذه المرحلة الى الإنتهاء من ديكتاتورية التسليم بدين للدولة كفكرة حامية
للدين.
إنها ليست حامية مطلقا.
فهل يجرؤ الاسلاميون على تبني ذلك في "خاتمة" تحولهم الى الخطاب
الديموقراطي في بلد متعدد دينيا كسوريا وهل يملك الليبراليون شجاعة
المطالبة بجعل لا دِين الدولة نقطة اتفاق جوهرية واضحة مع الاسلاميين بدون
تلاعب بالألفاظ؟
راجع مقال جهاد الزين: لا دين للدولة- هل يجرؤ "الإخوان المسلمون" السوريون؟ 3-4-
2012.
المصدر : . . جريدة النهار