أما بدر فلم يكن هو ذاك، ثم ما كان يدور بين
حاشية بدر من الكيد لأبي الطيب، ومحاولة الإبعاد بينهما مما جعل أبا الطيب
يتعرض لمحن من الأمير أو من الحاشية تريد تقييده بإرادة الأمير، كان يرى
ذلك استهانة وإذلالا عبر عنه بنفس جريحة ثائرة بعد فراقه لبدر متصلا بصديق
له هو أبو الحسن علي ابن أحمد الخراساني في قوله :
لا افتخار إلا لمن لا يضام |
| مدرك أو محارب لا ينام |
وعاد المتنبي بعد فراقه لبدر إلى حياة التشرد
والقلق ثانية، وعبر عن ذلك أصدق تعبير في رائيته التي هجا بها ابن كروس
الأعور أحد الكائدين له عند بدر.
وظل باحثا عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير
ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة
سنة 336 هـ وعن طريقه اتصل بسيف الدولة سنة 337 هـ وانتقل معه إلى حلب.
في مجلس هذا الأمير وجد أفقه وسمع صوته، وأحس
أبو الطيب بأنه عثر على نموذج الفروسية الذي كان يبحث عنه، وسيكون مساعده
على تحقيق ما كان يطمح إليه. فاندفع الشاعر مع سيف الدولة يشاركه في
انتصاراته. ففي هذه الانتصارات أروع بملاحمه الشعرية. استطاع أن يرسم هذه
الحقبة من الزمن وما كان يدور فيها من حرب أو سلم. فيها تاريخ واجتماع
وفن. فانشغل انشغالا عن كل ما يدور حوله من حسد وكيد، ولم ينظر إلا إلى
صديقه وشريكه سيف الدولة. فلا حجاب ولا واسطة بينهما، وكان سيف الدولة
يشعر بهذا الاندفاع المخلص من الشاعر ويحتمل منه ما لا يحتمل من غيره من
الشعراء. وكان هذا كبيرا على حاشية الأمير .
وكان أبو الطيب يزداد اندفاعا وكبرياء واحتقارا
لكل ما لا يوافق هذا الاندفاع وهذه الكبرياء . . في حضرة سيف الدولة
استطاع أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرما مميزا
عن غيره من الشعراء. وهو لا يرى إلى أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه
حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة إلى المجد الذي لا يستطيع
هو نفسه أن يتصور حدوده إلى أنه مطمئن إلى إمارة عربية يعيش في ظلها وإلى
أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف
هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعدا وكان الشعراء
يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضا هذا التمجيد لنفسه
ووضعها أحيانا بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه . . . ولربما احتمل على مضض
تصرفاته العفوية إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت
طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان. وهذا ملكان يغري حساده به
فيستغلونه ليوغروا صدر سيف الدولة عليه حتى أصابوا بعض النجاح، وأحس
الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة
بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير وبدأت المسافة
تتسع بين الشاعر وصديقه الأمير. ولربما كان هذاالاتساع مصطنعا إلا أنه
اتخذ صورة في ذهن كل منهما، وأحس أبو الطيب بأن السقف الذي أظله أخذ
يتصدع، اعتاده قلقه واعتادته ضجراته وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية
الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه
الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وكان موقفه
مع ابن خالوية بحضور سيف الدولة واعتداء ابن خالوية عليه ولم يثأر له
الأمير أصابته خيبة الأمل، وأحس بجرح لكرامته لم يستطع أن يحتمل فعزم على
مغادرته ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه.
فكانت مواقف العتاب والعتاب الصريح، ووصل العتاب إلى الفراق. وكان آخر ما
أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها:
لا تطلبن كريمــا بعد رؤيته |
| إن الكرام بأسخــاهم يدا ختموا |
ولا تبــال بشعر بعد شاعره |
| قد أفسد القول حتى أحمد الصمم |
البحث عن الأمل :
فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه
حساده ومنافسوه من حاشية سيف الدولة. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس
بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام
هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلبا، وهو يكن
لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف
الساخط المعادي، ولذا بقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد
أبو الطيب إلى الكوفة من كافور حتى كادت الصلة تعود بينهما، فارق أبو
الطيب حلبا إلى مصر . . وفي قلبه غضب كثير، وكأني به أطال التفكير في
محاولة الرجوع إلى حلب وكأني به يضع خطة لفراقها ثم الرجوع إليها ولكن لا
يرجع إليها شاعرا فقط إنما يزورها ويزور أميرها عاملا حاكما لولاية يضاهي
بها سيف الدولة، ويعقد مجلسا يقابل سيف الدولة . . من هنا كانت فكرة
الولاية أملا في رأسه ظل يقوي وأظنه هو أقوى الدوافع . . دفع به للتوجه
إلى مصر حيث كافور الذي يمتد بعض نفوذه إلى ولايات بلاد الشام . .
الإثنين يوليو 16, 2012 4:05 am من طرف هذا الكتاب