ارتأينا في هذه المقالة
المتواضعة، أن نناقش إشكالية الفروق القائمة بين النساء والرجال على ضوء
المناظرة القائمة والمستمرة بين الطبيعة والتنشئة. مع علمنا المسبق بأن هذه
المقالة لن تستطيع تقديم نفسها كإجابة حتى ولو كانت هذه الإجابة مؤقتة،
لأن جملة الصعوبات الابستمولوجية التي تعتلي هذا الموضوع لا تجعلنا ننتصر
للوثوقية، بقدر ما تشجعنا في طرح تساؤلات مشروعة على المساحات الغامضة في
هذا الموضوع.
السؤال المركزي الذي وضعناه لهذه المناظرة
اختزلناه فيما يلي: هل توجد فروق في القدرات الفكرية, الاجتماعية, العاطفية
والفيزيولوجيا بين الرجال والنساء؟ وإذا ما كانت هل هذه الفوارق بيولوجية
أم هي مصنوعة اجتماعيا وثقافيا؟.
التيار الحتمي مع
المدرسة البيواجتماعي:إن الأسئلة التي طرحها
التيار البيواجتماعي حول أصول الاختلاف الاجتماعي بين الجنسين، حملت في
ذاتها عبر مراحل عديدة من عمر الإنسانية أجوبة ذكورية جاهزة مفادها أن
الاختلاف الاجتماعي بين الجنسين محكوم بيولوجيا.
عرْض الدراسات
البيواجتماعية لمشرحة التمحيص والنقد كشَف النقاب حسب "ليندا جين شيفرد" عن
حقيقة النزعة الذكورية للعلم. فمجموعة من الدراسات العلمية التي اشتغلت
على الجنوسة ثم تأويل نتائجها بغير وعي وفق ما ينسجم مع الإيديولوجية
الأبوية والنزعة الذكورية. فجهود مجموعة من العلماء حسب شيفراد كرست للبحث
عن البراهين والحجج التي تحجم من أهمية الأنثى وتقلل من شأنها1.
إن
البراهين والحجج، التي تعقلن الفروق بين الجنسين وتبررها بما هو فيزيولوجي
وبيولوجي. ظهرت شذراتها الأولى في عهد اليونان مع أرسطو2، الذي رأى بأن
الفرق بين الذكر والأنثى هو فرق طبيعي وبيولوجي بحجة أن عملية التناسل
قائمة على مبدأ مساهمة المرأة بالمادة "الجسد" ومساهمة الرجل بالروح
العاقلة3. وزادت حدة هيمنة وسطوة هذه الحجج التي تحجم المرأة وتكرس دونيتها
في بداية القرن الثامن عشر4، حيث عزز البيواجتماعيون "اles
sociobiologistes"، النظرة الطبيعانية (naturaliste)، بمجموعة من التجارب
العلمية والطبية التي حجمت من قدرات المرأة وقللت من شأنها. تكريس الهوة
بين الذكر والأنثى بالبحث عن أصول الاختلاف في الجينات والكروموزمات وصل
اإلى درجة شرعنة حرمنها من مزاولة العلم بحجة أنها أقل ذكاءا وأقل قدرة على
التفكير والاستيعاب والفهم والاستجابة للشروط والضوابط العلمية من الرجل،
بحكم صغر حجم دماغها عن دماغ الذكر5، وذلك بالاستناد على ما توصلت له
الدراسات الدراسات الكرانيولوجية"Craniologie" أنداك.
الفرضية
القائلة بأن الاختلاف مؤسس على ما هو بيولوجي، وسعت من هامش صحتها بنتائج
وتجارب مختبرية قام بها عالم البيولوجيا ويلسون (E. O. Wilson) في القرن
العشرين. فهذا العالم توصل بعد مجموعة من الأبحاث أجراها على الحيوانات،
"إلى أن الكائن البشري كائن عضوي جيني خاضع لإكراهات بيولوجية. وأن الهيمنة
والعنف التي يمارسها الرجال على النساء شيء عادي واعتيادي وهي نتيجة
موضوعية لقدرة هذا الأخير على إنتاج الملايين من الحيوانات المنوية ولقدرته
أيضا على تلقيح عدد كبير من النساء".
وزادت
نسبة صحة الفرضية المذكورة سلفا، في سبعينات القرن الماضي مع تطور العلوم
البيولوجيا من تقنياتها وأجهزتها التكنولوجيا. ففي جامعة جونز هوبكنز حيث
كانت الوسائل المخبرية متوفرة والظروف مساعدة للبحث توصل مجموعة من
الباحثين المشتغلين على الجنوسة إلى نتائج كثيرة أهمها أن:
- الزوج الصبغي
الجنسي 21 (YوX)، هما المسئولان عن التحديد البيولوجي للإنسان، (XX)
بالنسبة للمرأة و(XY) بالنسبة للرجل. وأن التيستسترول هو المسئول عن تحديد
الصفات والسلوكات الذكورية، وأن الأستروجينات هي المسئولة عن تحديد الصفات
والسلوكات الأنثوية6 .
- ارتفاع نسبة
التستسترون والأندروجين في الجسم يزيد من ارتفاع وتعزيز الذكاء7.
- هرمون
البروجيستون يعزز المستوى الفكري عند الإنسان8.
- للرجال والنساء
مخان مختلفان من حيث الوظائف والاستعمال، فقد أظهرت مجموعة من التجارب أن
للنساء قدرة كبيرة على الكلام لكن بدون تركيز. في حين أن للرجال القدرة على
التركيز في الكلام وعلى التنظيم والتحكم في المجال9.
على
ضوء هذه النتائج، يبدو أن الأسئلة الاجتماعية افترضت لنفسها أجوبة مؤسسة
على أن للهرمونات والجينات تأثيرا كبيرا على تكريس الفروق الجنسية
والإدراكية لكل من الذكر والأنثى. فحتى مسألة التقسيم الجنسي للعمل فسرت
بما هو بيولوجي، من خلال القول بأن الرجال مبرمجون فطريا على التفكير
والفهم والتعلم، في حين أن النساء مبرمجات فطريا على القيام بالأعمال
المنزلية وعلى الرعاية.
محاولة لنقد الدراسات
البيواجتماعية:إن ما يمكن الاشارة له ونقده
لدحض نتائج وخلاصات التجارب الفائتة، يكمن في طبيعة هذه الأبحاث وعينات
اشتغالها. فصغر حجم عينات دراستها والتي تتكون بالأساس من الحيوانات، لا
تسمح للبيواجتماعيين حسب "شيفراد" بمراكبة أدلة قاطعة، ولا تسمح لهم بصياغة
قانون تجريبي يمكنهم من تعميم نتائج حيوانية على الإنسان. فنسبة ارتفاع
الأخطاء التي تقع في الأبحاث العلمية للجنوسة10 ، تؤدي حسب كاثرين فيضال
(Catherine vidal) إلى تعقيد الموضوع بدرجة يصعب معها الوصول إلى استنتاجات
مباشرة ونمطية. ويجب الانتباه أيضا إلى تضارب نتائج وخلاصات التيار
البيواجتماعي، فهناك مجموعة من الخلاصات البيولوجية التي تدحض النتائج
السابق ذكرها. فمثلا أظهر "وينلسون" وزملائه في عام 1990 من خلال مجموعة من
الدراسات أن كبر حجم دماغ الذكر عن الأنثى، لا يشكل اختلافا لأن
الخلايا العصبية والوحدات الوظيفية الرئيسية في الدماغ متشابهة لدى
الطرفين. وتوصل أيضا إلى أن المادة الرمادية متواجدة بشكل متكافئ لدى
الجنسين11. وتوضح أيضا من خلال تجربة امتدت من 1995 إلى 2004 شملت 377 رجل
و285 امرأة، أنه لا توجد اختلافات إحصائية تشير إلى تأثير تقسيم الأماكن
المخية على مهام اللغة12. كما أظهرت بعض التجارب التي أجريت في جامعة جونز
هوبكنز واختبارات ويكسلر (Wechsler) على أن الرفع من مستويات الأندروجينات
والأستروجينات قبل الولادة لا يؤدي بالضرورة إلى تذكير أو تأنيث الإدراك.
إن
الدراسات البيواجتماعية بتضارب نتائجها، تدعونا إلى إعادة النظر في تاريخ
العلم الذي يقدم حسب المحللة النفسية "ماري فون فرانز" نفسه في شكل لوغوس
ذكوري متطرف. ويصبح العلم امتدادا طبيعيا للفكر الذكوري الذي يرسخ صورة
ومبدأ تفوق
واستعلاء الأنا الذكوري على الأخر الأنثوي.
الاختلاف بناء
اجتماعي وثقافي:خلافا لأنصار الحتمية
البيولوجية الذين يسلمون بأهمية العوامل البيولوجية في تأسيس الاختلاف
الاجتماعي والشرعنة للهيمنة الذكورية. انطلقت الدراسات الأنثربولوجية، التي
تناولت موضوع العلاقات الاجتماعية بين الجنسين إشكالية مفادها: لماذا
غالبا ما تكون وضعية ومكانة النساء في المجتمع أقل شأنا من وضعية ومكانة
الرجل؟ كيف تبنى التراتبية بين الرجال والنساء ثقافيا ولماذا تؤول دائما
لصالح الرجال في معظم المجتمعات؟.
قبل الإجابة عن
هذه الإشكالية انطلقت الدراسات الأنثروبولوجية بمختلف مدارسها وتعدد
مشاربها النظرية، من فرضية مفادها أن التمايزات الاجتماعية والأدوار
المختلفة للنساء والرجال هي اختلافات، لا يمكن أن تكون طبيعية ومحددة
ومفروضة أنطولوجيا ومحكومة بفوارق بيولوجية. لأن الصيغ الذكورية والأنثوية
هي صيغ تم بناءها من خلال العوائد والممارسات والوحدات التصورية الموجودة
في كل مجتمع، وهي محددة بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أكثر
من كونها محددة بعوامل بيولوجية.
إن البوادر الأولى لهذه
الدراسات ظهرت مع المدرسة التطورية خصوصا مع MC linen وBakhoffen وفيما بعد
مع التطورية الجديدةNéo-évolutionnismes معLeroi Ghourhan . إلا أن هذه
المدرسة لم تستطع تفسير العلاقات اللامتكافئة بين الجنسين بمنطق متكامل،
ولم تشر إلى الكيفية التي تبنى بها الذكورة والأنوثة اجتماعيا وثقافيا.
بحيث تبقى فرضية المدرسة التطورية التي تفترض أسبقية المجتمعات الأمسية عن
المجتمعات الأبيسية في المجتمعات البدائية مجرد فرضية تنقصها دلائل تفسيرية
وتبقى هذه النظرية أسطورية أكثر مما هي علمية، لأنها متناقضة بالكامل مع
المعطيات الأنثروبولوجية المتخصصة التي تدرس المؤسسات الاجتماعية والثقافية
لمختلف الاثنيات والجماعات البشرية. ولمزيد التوضيح فقد توصلت فرنسواز
إغيتيه Françoise Héritier)) من خلال مقارنتها لبنية ست مجتمعات
(omaha.Crow. Iroquoi Hawaii. Samo ( إلى أن ما يوجد في الحقيقة هي مجتمعات
لها حق أمومية النسب (Droit Matrilinéaire)، أي أن النساء في المجتمعات
التي درسها مورغان خصوصا مجتمع (إراكوا) نساء لا يستعملن السلطة التي
يتمتعن بها داخل القبيلة أو العشيرة للهيمنة والسيطرة على أزواجهن وآبائهن
وإخوانهن، لأن النساء ليس لهن سوى حق الانتساب الذي بموجبه ينتمي الطفل إلى
شجرة أمه.
التمييز بين الفوارق الاجتماعية
والبيولوجية، دعا الأبحاث العلمية التي تشتغل على النوع إلى الفصل بين
الجنس البيولوجي والنوع الاجتماعي الذي نشير من خلاله إلى مجمل العلاقات
والخاصيات الثقافية والاجتماعية التي تجمع بين الجنسين وتحيل إلى تصنيفهما
تراثبيا في المجتمع على أسس بيولوجية. فالفوارق بين الجنسين نتيجة موضوعية
لتربية تمارس الحيف على الإناث، على الرغم من أن الرجال والنساء كما
يقول توماس (Thomas) من نفس البناء الاجتماعي ومنتوج لنفس المؤسسات
الاجتماعية13 . بمعنى أن القوة الجسدية والشجاعة الأخلاقية والقوة الفكرية
والعيوب والفضائل هي ذات هوية مشتركة بين الرجال والنساء، إلا أن المجتمع
والتربية الذكورية هي التي تجعل منها فوارق اجتماعية مؤسسة عن فوارق
بيولوجية14.
تنوع البناءات الاجتماعية بين مختلف الثقافات، يوضح
بأن ليس هناك قانون كوني تؤسس عليه مقولة أن التراتبية هي شيء طبيعي، إلا
أن هذا التنوع حسب فرنسواز إغيثيه يؤول دائما وبطريقة تراتبية لصالح
الرجال15. وهذا عائد بالأساس إلى "هيمنة الرجال على المؤسسات الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية، وإلى عدم وجود أي جماعة بشرية بلا قواعد اجتماعية
وبلا تقاليد ومعتقدات لأن في كل الجماعات البشرية حسب لفي ستراوس أنظمة
للتفكير وقوانين وأساطير وأحكام دينية16، تتضمن أفكارا وقيما عامة فيها
مايخص الذكر وفيها ما يخص الأنثى وفيها ما يخص تنظيم العلاقات الاجتماعية
بين الجنسين.
تنوع البناءات
الاجتماعية التي أشارت إليها فرنسواز إغيتيه هو امتداد للمدرسة البنائية
(constructivists) التي ترفض فكرة مبدأ الذكورة الواحدة Masculinité
unique، بمعنى أنه ليس هناك نموذج ذكوري واحد صالح لكل زمان ومكان لأن
الذكورة ليست جوهرا إنسانيا، بقدر ما هي إيديولوجية تبرر الهيمنة الذكورية.
فبناء
الذكورة وبناء الأنوثة يختلفان حسب العصور والطبقات الاجتماعية وحسب
الأعراف والاثنيات والديانات وحسب الفئات العمرية للرجال والنساء17، ففي
قبائل التشامبلي في غينيا الجديدة سجلت مارغريت ميد (Margaret Mead) على أن
البناء الثقافي للذكورة والأنوثة لهذه القبائل يختلف من قبيلة لأخرى
فثقافة قبيلة الأرابيش (Arapesh) تعارض الأدوار المفروضة على الجنسين في
الثقافة الغربية، ففي هذه القبيلة النساء يدرنا شؤون العمل ويزرعن ويتعاون
تعاونا وثيقا مع بعضهن البعض، بينما يقوم الرجال بالنحت والتصوير ويتزينون
ويثرثرون. كما لاحظت على أن ذكور قبيلة أوغدومودو (Omogodgo) ذكور عنيفون
مهيمنون ومسيطرون على النساء18. فخلصت مارغريت نهاية إلا أن القوالب
النمطية الشائعة لسمات الأنثوية والذكورية ليست فطرية بل هي نتاج لتكيف
الثقافي. استمرارا لما ذكر يلاحظ أيضا أن ألكس دو توكوفيل (Alex
Tocqueville) استنتج أيضا من خلال مقارنته للنظام الفرنسي والأمريكي إلى أن
أشكال الضبط والمراقبة الاجتماعية مختلفة من مجتمع لأخر بحيث إن النساء
الفرنسيات يتسمن بالحشمة والخجل لأنهن خاضعات لرقابة اجتماعية تضبط طريقة
كلامهن وتفكيرهن على عكس نساء الولايات المتحدة الأمريكية اللواتي يتمعن
بنوع من الاستقلال الفردي الناتج عن ترسخ مبدأ الديمقراطية في الولاية
المتحدة الأمريكية. فمفهوم المساواة في الديمقراطية الأمريكية حسب دو
توكفيل، لا يعني قلب السّلطة الزوجية وتحطيم كل سلط بقدرما تعني تقنين
وشرعنة السلطات الضرورية19.
على العموم يمكن أن نستخلص بأن
الذكورة ليست جوهرا إنسانيا بل هي إيديولوجية تشرعن قبول الواقع الاجتماعي
القائم على الهيمنة الذكورية، وذلك من خلال إنتاجها لمنظومة من الأفكار
والتصورات والتمثلات والمواقف والممارسات التي تقوم بتشكيل وبناء العلاقة
بين الرجل والمرأة والتي ينتظر من المرأة من خلالها أن تكون وديعة، سلبية،
عاطفية، حدسية، ذاتية ولا عقلانية ولا تنافس وتتقبل كل شيء. إن المعتقدات
بشأن كل ما هو ذكوري وأنثوي وبشأن الطريقة التي ينبغي أن يتصرف بها الرجال
والنساء تمارس فعلها بتقيدنا داخل حدود معينة تختلف من ثقافة لأخرى.