عن المؤامرة نتكلم بعد استقلال نيكاراغوا، إحدى الجمهوريات الصغيرة في أمريكا الوسطى، عام 1937، حكمتها عائلة “
سوموزا”
(سوموزا الأب واثنين من أبنائه من بعده)، لمدة 43 سنة من خلال حكم عسكري
فاشي، أدار البلاد بقبضة من حديد، وأفقر البلاد والعباد. حصل حكّام
نيكاراغوا خلال تلك الفترة، على دعم الولايات المتحدة الأمريكية. وتمكّنت
هذه الأخيرة من بناء علاقات راسخة مع الأسرة الحاكمة، وإقامة تعاون عسكريّ
واستخباراتيّ متين مع قيادات الحرس الوطني، اليد الطويلة للديكتاتور. في
ذلك الوقت، كانت الحكومة الأمريكية، والجزء الأكبر من صحافتها ووسائل
إعلامها- بإيحاء من حكومتها بالطبع-، تغضّ النظر عن ممارسات الطبقة
الحاكمة في الجارة القريبة تجاه شعبها. لا بل تغاضت الحكومة ووسائل
الإعلام على حدّ سواء، عن تورّط حكام هذا البلد الصغير في عمليات تهريب
السلاح والإتجار بالمخدرات، بحيث غدت نيكاراغوا ممراً لعبور المخدرات من
كولومبيا إلى أمريكا، في الوقت نفسه الذي كانت فيه هذه الأخيرة تخوض أشرس
حملاتها ضد الإتجار بالمخدرات على أراضيها!
وعندما قامت الثورة الاشتراكية في سبعينات القرن العشرين، من خلال “
الساندينيستا”
(الجبهة الساندينستية للتحرير الوطني)، ضد الطبقة الحاكمة في نيكاراغوا،
تدخّلت حكومة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر عام 1979، بعد تأزّم الأوضاع
هناك، لفرض حلّ سياسيّ، يحافظ على مصالحها. تمثّل الحلّ الذي حاولت الحكومة الأمريكية فرضه بعزل سوموزا، وقطع الطريق أمام وصول الساندينيستا إلى الحكم، من خلال فرض ما سمي حينها بـ
“السوموزية من دون سوموزا”، أي إبقاء السلطة بأيدي مراكز القوى القديمة، وأعضاء سابقين في حكومة سوموزا، وخاصة بيد جنرالات الحرس الوطني!
رفض النيكاراغويون ذلك، واستمرّوا بثورتهم حتى خلعوا النظام
الحاكم، فقامت الاستخبارات الأمريكية بتهريب جنرالات الحرس الوطني عبر
طائرات خاصة. أجريت فيما بعد انتخابات ديموقراطية حرة، فاز بها ائتلاف
مكوّن من الساندينيستا وحلفائهم. وقام التحالف الحاكم بعدّة إنجازات هامة
على صعيد التنمية، محو الأمية، تحسين القطاع الصحي والمساواة بين الجنسين.
كان للخيار الديموقراطي لشعب نيكاراغوا، وللسياسة الاشتراكية
التي اتبعها الحكّام الجدد، نتائج كارثية على الولايات المتحدة الأمريكية،
إذ أنها أضرّت بمصالح الشركات الأمريكية الكبرى العاملة في أمريكا الوسطى
من جهة، ومن جهة أخرى خشيت الإدارة الأمريكية بحسب تحليل
نعوم شومسكي[1]الكاتب الأمريكي الشهير، من انتقال عدوى هذا النموذج الديموقراطي –
الاشتراكي الناجح إلى دول أخرى مجاورة تقع في نطاق سيطرة أمريكا. فما كان
من الإدارة الأمريكية إلا أن دعمت، عبر وكالة الاستخبارات المركزية CIA،
البعض من قيادات الحرس الوطني السابقين، وموّلت أنشطتهم والتمرّد الذي
أعلنوه في أطراف البلاد، مشكلين ما عرف حينها بجبهة الكونترا.
مع الوقت، تحوّلت جبهة الكونترا هذه، من مجرد مجموعة متمرّدة
تقوم بأعمال إرهابية ضد حكومة نيكاراغوا وشعبها إلى مرتزقة للإيجار، حيث
دلّت اعترافات نشرت مؤخراً لجنرال سابق من السلفادور، أن الكونترا قبضت
عام 1980 من حكّام السلفادور العسكريين، الذين كانوا يحظون بدورهم بدعم
الحكومة الأمريكية، تدريباً وتسليحاً، مبلغ 120 ألف دولار للقيام باغتيال
رئيس الأساقفة
أوسكار روميرو،
ذك الأسقف الشهير الذي دعم الحراك الشعبي في بلاده السلفادور بكل قوة،
وأدان القمع الوحشي الذي مارسته السلطات العسكرية الحاكمة ضد معارضيها.
يجدر بالذكر أن الدعم الأمريكي للمجلس العسكري للسلفادور لم يتوقف حتى بعد
أن اغتالت فرق الموت الحكومية
ستة رهبان يسوعيين(أغلبهم يحملون الجنسية الإسبانية) وطباختهم وابنتها، في بيتهم الواقع في
حرم جامعة أمريكا الوسطى، بل اقتضى الأمر قيام المليشيات الحكومية باغتصاب
وقتل راهبتين أمريكيتين، وخروج مظاهرات كبيرة في الولايات المتحدة، حتّى
يتوقّف الدعم الأمريكي العلني للمجلس العسكري في السلفادور.
يسوق نعوم شومسكي هذه القصّة مع غيرها، في سباق نقده اللاذع
للسياسات الأمريكية الخارجية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية،
وخاصة عرقلتها لأكثر من تجربة ديموقراطية ناشئة حول العالم، خوفاً من
انتقال جرثومة النزعة الاستقلالية، المضرّة بالمصالح الأمريكية، إلى دول
أخرى. ويصف موقف الحكومات الأمريكية المتعاقبة من الديموقراطية أبلغ وصف
بقوله:
“إن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في العالم الثالث
سهلة الفهم. لقد عارضنا الديموقراطية باستمرار إن كان لا يمكن السيطرة على
نتائجها. المشكلة مع الديموقراطيات الحقيقية أنها غالباً ما تسقط فريسة
تلك الهرطقة التي تقول بأن على الحكومات أن تلبي حاجات شعوبها، عوضاً عن
تلبية حاجات المستثمرين الأمريكيين”.
وهو لا يكتفي بذلك بل يورد لائحة من ديكتاتوريات العالم
الثالث التي دعمتها الحكومات الأمريكية المتعاقبة في فترة ما بعد الحرب
العالمية الثانية، من أميركا الوسطى واللاتينية وحتى شرق آسيا: تروجييو في
الدومينيكان، سوموزا في نيكاراغوا، ماركوس في الفيليبين، دوفالييه في
هاييتي، نورييغا في بنما، المجلس العسكري في السلفادور، موبوتو في زائير،
صدام حسين في العراق، وسوهارتو في إندونيسيا.
كان دعم ديكتاتوريات أمريكا الوسطى يتمّ نظرياً تحت ذريعة
الوقوف في وجه المدّ الشيوعي، فيما عملياً، كان الدعم يقدّم لهم لدورهم في
خدمة مصالح الشركات الأمريكية من خلال إفقار شعوبهم، وخاصة المزارعين
منهم، لإرغامهم على استبدال زراعاتهم التقليدية بالزراعات الأكثر احتياجاً
للصناعة الأمريكية، كنبتة الكوكا مثلاً (لاستخداماتها الدوائية المختلفة)،
أو لإجبارهم على ترك مزارعهم والتحوّل إلى قوى عاملة رخيصة في المعامل
الأمريكية على الحدود كما هو الحال في المكسيك. في طبيعة الحال، تتنوع
المصالح الأمريكية بتنوع الدول والقارات.
ويشير شومسكي إلى حرص الإدارات الأمريكية على الحفاظ على
التعاون العسكري قائماً مع عدد من الأنظمة الديكتاتورية، حتى وإن انتهجت
حكوماتها نهجاً معادياً لها، على أمل أن تستفيد يوماً ما من علاقاتها مع
العسكر في إحداث التغيير المطلوب الذي يسير وفق مصالحها. وهل من مثال على
ذلك، أوضح من التعاون العسكري مع إيران، عبر إسرائيل، والذي امتد طيلة
الفترة الفاصلة بين نجاح الثورة الإيرانية وأزمة الرهائن الأمريكيين
“طهران جيت” منتصف الثمانينات؟
قد يتساءل البعض عن سبب إقدامي هذا الوقت بالذات، على
التذكير بأشياء من الماضي باتت طي النسيان؟ لا بل أنه ربما لم يسبق
للكثيرين أن سمعوا بنيكاراغوا وسوموزا وغيرهم.
لست بالتأكيد من أنصار نظرية أمريكا الشيطان الأكبر، ولست في
وارد إيراد مزيد من الأمثلة على دناءة السياسات الخارجية للدول الكبرى.
فذلك قد صار من المسلّمات أو البديهيات على ما اعتقد، وإنما ما دفعني في
الواقع، للتذكير بهذا التاريخ الأسود إن صحّ القول، فهو ذلك النوع من
الكلام السائد في بعض أوساط “النخب” العربية عن نظرية المؤامرة. فثمّة
كثيرون في هذه الأوساط ينظرون بعين الشك والريبة إلى الثورات العربية
القائمة منذ حين، ويعدّونها ضمن سياق مؤامرة أمريكية على العالم العربي
تهدف إلى استكمال سايكس بيكو، وتقسيم وتفتيت الدول العربية!
حسناً، لأقرّ أولاً بأني قد أتفق مع هؤلاء، في أن رائحة
مؤامرة ما باتت تفوح في الأرجاء. لكن، ولكي أكون صادقاً معكم، فإنني لا
أراها إلا في اتجاه مغاير تماماً! فإن كان ثمّة مؤامرة هنا يا أعزائي، فهي
من نوع منع الربيع العربي من الوصول إلى نهاياته السعيدة في أكثر من دولة.
وإن أردت أن أكون أكثر وضوحاً، أجدني مضطراً إلى المقارنة بين سيناريو
التدخل الأمريكي في نيكاراغوا أواخر السبعينات، لفرض السوموزية من دون
سوموزا، وبين التدخل الشبيه في مصر لفرض المباركية من دون مبارك. أعتقد
أنه لا داعٍ لقول المزيد فالصورة صارت واضحة. لذلك أكتفي بهذا القدر من
الإيضاح، وأترك لمخيلتكم القيام بالمقارنات مع الثورات العربية الأخرى.
وفي النهاية يبقى السؤال برسم المتوجسين: حتام نبقى متفرجين على
المؤامرات تعصف بنا الواحدة تلو الأخرى؟ متى ننهض ونأخذ دوراً فاعلا في
حركة التاريخ؟ حتام نبقى نلطم على خدنا، ونندب حظنا بسبب الدول الكبرى
الشريرة التي تأبى أن تتركنا بحالنا؟ متى نتحول إلى شعوب فاعلة ونتملك
زمام أمورنا؟