خربشات من مصر (3) – ما بعد 25 يناير أخيراً عدت إلى القاهرة! بعد غياب سنة ونصف ملأى بالأحداث،
أعرف أن زيارة قصيرة لثلاثة أيام لن تشفي غليلي بالتأكيد، لكنها ستعالج
شوقي للقاء التحرير وأهله. كنت أتساءل كيف ستبدو لي القاهرة بعد هذا
الغياب، فلم تتأخر الإجابة، إذ يمكن للمرء أن يلحظ التغييرات التي طرأت
على مصر وعلى الحياة فيها في اللحظة التي تتجاوز فيها قدماه بوابة المطار.
غياب تام للشرطة المصرية عن الشوارع، ذلك هو الملمح الأول
للتغيير، لربما يكون ذلك ناجماً خوف الشرطة من العودة إلى الشوارع بعد
فقدان الثقة مع الجماهير. يمكن للثقة أن تستعاد في حال توافرت سلامة
النية، لكن الأرجح على ما أعتقد أنه نوع من العقاب الجماعي، ذلك كان شعور
غالبية من قابلتهم، نوع من الإحلال المدروس للفوضى ليترحّم المصريون على
زنزانات أمن الدولة، وعلى كفّ الباشا في القسم، ليترحّموا على أيام كانت
فيها حوادث مثل موت خالد سعيد لا تعتبر إلا أعراضاً جانبية للقبضة الأمنية
القوية، تلك التي تحفظ الاستقرار الذي ينعم به المواطنون والذي يسبّحون
بحمده صباحاً ومساء، في النهاية من الذي يهتم لموت شاب واحد أما كان ذلك
أفضل من حالة الفوضى الحالية؟! هكذا أتخيل احتجاجات أعضاء جماعة آسفين يا
ريس أو حزب الكنبة كما يسمي المصريون أولئك الجالسين في بيوتهم
والمتضايقين من نتائج الثورة. إلا أن المفاجئة التي تثير حنق الحاكم تكمن
في أن الحياة تسير بشكل طبيعي على الرغم من
عقاب غياب الشرطة. لم يأكل المصريون بعضهم بعضاً كما ظنّ الكثيرون، لا بل
أنّه لا يمكن لمن يتجوّل في شوارع القاهرة ألا ينتبه إلى غياب الشرطة، إلا
في حال تعرّضه لعملية سطو أو سرقة، فالأسواق مفتوحة، وحركة السير منضبطة،
والحياة طبيعية.
“لا يمكن لزائر القاهرة أن يعرف بأنها شهدت ثورة لو لم يُقل
له ذلك”، عبّر أحد الأصدقاء عن الحياة التي عادت لتأخذ مجراها الطبيعي. في
شارع شبرا حيث عشت لسنتين، ما من تغيير يذكر، اللهم ما عدا بضع محال غيّرت
ديكوراتها، “إنها تلك التي تعرّضت للسطو عندما أُطلق سراح المجرمين
والبلطجية من السجون يوم جمعة الغضب، وأغلبها محلات موبايل، استهدفوا ما
خفّ حمله وغلا ثمنه، كانوا انتقائيين في سلبهم!” تابع صديقي قائلاً.
بدا لي للوهلة الأولى أن أكثر المستمتعين بالحرية الجديدة
وثمارها هم الإسلاميون، إذ أنهم صاروا أكثر جرأة في التعبير عن حضورهم
ووجودهم. كان سائق التاكسي الذي اصطحبنا من المطار إسلامي متديّن يستمتع
بإطلاق لحيته الكثيفة دون أن يحلق شاربيه ودون أن يتعرّض لمضايقات أمن
الدولة كما قال. لم يكفّ السائق الخمسيني طيلة الطريق عن التأكيد بأن كلّ
ما يحدث في مصر اليوم مذكور في القرآن، وبأنّ مصر محظوظة كونها ذُكرت في
القرآن أكثر من مرّة (يمكن سماع نفس العبارة من قبل كثير من الأقباط
السعداء بذكر مصر أكثر من مرة في الكتاب المقدس). لم يزعجني تديّن السائق
وتقواه البسيطين، فأوّل ما تعلمته مع بدايات الربيع العربي أن التغيير
الحقيقي يبدأ بقبول الآخر حتى وإن كان على الطرف النقيض مني. ما أزعجني
حقاً كان ترداده لكلمات المؤامرة والطرف الثالث واللهو الخفي، تلك التي
دأب المجلس العسكري على استخدامها في بياناته عقب كل حادث مؤسف يسقط فيه
عشرات الضحايا، عوضاً عن الاعتراف بعجزه أو تواطؤه.
نعم أزعجتني فكرة أن يبرّر الإسلاميون بسهولة، وهم الذين
عانوا من بطش النظام السابق، تجاوزات مماثلة لتلك التي مورست بحقّهم، فقط
لأنهم صاروا شركاء في كعكة السلطة. أزعجني أن من بين مؤيديهم كثيراً من
البسطاء مثل سائق التاكسي هذا، ممّن هم على استعداد لترداد ما يقوله
زعماؤهم بشكل أعمى، دونما إخضاعه للتمحيص والتدقيق والتحليل. علت ابتسامة
خفيفة وجهي وأنا أقارن ما بين هذا السائق ومتابعي قناة الدنيا في سوريا.
ولقناة الدنيا هذه وقع خاص على أسماع ثوّار مصر، باتت تسبّب
لهم حساسية شبيهة بتلك التي تسبّبها لي، “كنا نتندّر مع بدايات الثورة
السورية على قناة الدنيا، اليوم بات التلفزيون المصري تلميذاً نجيباً في
مدرسة الدنيا”. هذا ما قاله لي أحد الأصدقاء فيما كنا نتابع على التلفزيون
المصري تقريرين، الأول عن أحداث بورسعيد، والثاني عن قضية التمويل الأجنبي
للمنظمات الأهلية، مع كل الاستغباء اللذين احتواهما التقريران.
ما حصل في بورسعيد كان صدمة بكلّ المقاييس، يعجز الناس عن
استيعابها وفهم أسبابها ودوافعها. لماذا؟ ما الهدف من هذا العنف؟ ما
الرسالة التي أرادوا توجيهها لنا؟ كثيرون رأوا فيها عقاباً لألتراس الأهلي
لمشاركته الفعّالة في الثورة، كما في أحداث شارع محمّد محمود وغيرها على
سبيل المثال، فيما رأى البعض فيها تواطؤاً مريباً وجزءاً من خطّة مدروسة
ينفّذها المجلس العسكري تمهيداً لإعلان الأحكام العرفية وإخضاع البلاد
لقبضة الحكم العسكري.
في مدرسة العائلة المقدّسة للآباء اليسوعيين، تجد أكثر من
صورة لشابٍّ باسم مشرق الوجه في ربيع العمر، إنه أحد ضحايا بورسعيد. كريم
خزام خريج المدرسة دفعة 2011، والطالب في سنته الجامعية الأولى، حضر مع
رفاقه المباراة المشؤومة ليعود إلى أهله جثة هامدة، كانت الكارثة التي
ألمّت بطلاب المدرسة هائلة وهم يتلقون خبر وفاة صديقهم، “ما يعزّيني هو ما
شاهدته في جنازته، لقد تحوّلت إلى مناسبة للوحدة الوطنية، اجتمع فيها
زملاؤه من مسيحيين ومسلمين خارج الكنيسة يحملون النعش ويهتفون ضد حكم
العسكر”، كما روت إحدى الصديقات. إنها متفائلة، ترى أن الناس منذ الثورة
باتوا أكثر وعياً إزاء المشاكل الطائفية التي يفتعلها البعض. “نعلم أن
الحوادث الطائفية لن تنتهي، وخاصة في أحزمة الفقر والجهل، لكن هناك وعياً
يتشكل تجاهها. نحتاج إلى سنوات للعمل على تغيير العقليات” قال آخر.
الأمر ذاته عبّر عنه وليد، باندفاعه وتلقائيته المحبّبين،
“كنت كما تعلم غاضباً جداً بعد حادثة القديسين العام الفائت، غضبت من مصر
عندما فُجّرت الكنيسة، غضبت من عجزي ومن كل شيء. إلا أن الثورة أعادت لي
ثقتي بالبلد، وكشفت لي عن كم هائل من الحب والتقدير الذي يكنه معظم
المسلمين لنا”.
وليد ذاته لم يشتكِ كثيراً حين سألته عن حال الأشغال ونحن في
المترو الذي يقّلنا إلى التحرير، “مش قوي، الحال واقفة”. لكنه سرعان ما
استدرك بلهفة، “بس معليش دي ضريبة مندفعها دلوقت علشان مستقبل أفضل
لولادنا”.
أدهشتني حماسة وليد وغيره من الشباب للثورة، وتساءلت “ما
المميّز في الحالة المصرية؟ ما الذي يحعل أبناء الطبقة الوسطى في الصفوف
الأمامية للثورة؟ وما الذي يجعلهم في سوريا محجمين لا بل يتصيدون أخطاء
الثورة والثوار التي توافق أحكامهم المسبقة عنهم؟”.
ابتسمت… كم كنت بحاجة إلى جرعة التفاؤل هذه.
التدوينة القادمة م مصر أيضاً بعنوان: التحرير، هايد بارك العرب