تنّورة ماكسي ورقابة الكنيسة منذ
أسبوع والضجيج لا يهدأ في وسائل الإعلام اللبنانية حول فيلم “تنورة ماكسي”
للمخرج جو بو عيد، سواء في الصحافة المكتوبة أو المسموعة أو حتى المرئية.
يقود هذه الحملة
وللأسف
بعض الإعلاميين الذين نجحوا بجرّ المركز الكاثوليكي للإعلام إلى حملتهم،
فطالب هذا الأخير مع عددٍ من رجال الدين بإيقاف عرض الفيلم في دور العرض
اللبنانية بحجّة إساءته للمسيحية.
وبسبب خشيتي مع مجموعة من الأصدقاء بتحقّق هذا المطلب على
أرض الواقع قبل أن يتاح لنا مشاهدة الفيلم، فقد اقتطعنا من جدول أعمالنا
المزدحم بالمحاضرات ومواعيد تسليم الأبحاث، سويعات قليلة نتابع فيها
الفيلم. وعند نهايته كانت دهشة معظمنا شديدة، لأننا في الواقع لم نجد فيه
أيّاً من الاتهامات التي سيقت بحقّه، من مسّ بالمسيحية لا من قريب ولا من
بعيد، حتّى أن أحد الأصدقاء مازحنا بالقول بأنّه لا بدّ وثمّة في المركز
الكاثوليكي للإعلام من هو شريك لمنتجي الفيلم حتى قام بهذه الدعاية
المجانية له.
تدور أحداث الفيلم في فترة الحرب اللبنانية وتحديداً إبّان
الاجتياح الإسرائيليّ للبنان عام 1982، والتي باتت القالب الزمنيّ المفضّل
لصنّاع السينما اللبنانية هذه الأيام، فيصوّر إحدى قصص الحياة اليومية
التي تجري على هامش الحرب، قصّة والديّ المخرج، بطريقة سوريالية لا
تخلو من الفنّ والإبداع مع النقد الخفي والذكي في آن لبعض تجاوزات زمن
الحرب وللرياء الدينيّ في مجتمعاتنا. يروي الفيلم إذن قصّة طالب كهنوت
يلتقي بفتاة جميلة نزحت مع أهلها إلى قريته وسط العاصفة التي تضرب لبنان،
فيقع في حبّها. والمشهد الذي يدور حوله الجدل هو مشهد تدخل فيه الحبيبة
إلى الكنيسة متجّهة إلى كرسي الاعتراف فيما الطالب الشاب واقف على المذبح
فيصوّر له خياله الفتاة في وصلة راقصة تعبيرية مع مجموعة من الراقصين، في
لوحة لربما أراد منها المخرج أن يرمز إلى تجربة الشهوة التي تدير رأس كاهن
المستقبل. نعم هذا هو كلّ شيء! المؤسف في الأمر أنّ الكثير ممّن لم
يشاهدوا الفيلم حتى يتنطعون لمهاجمته من باب انهم لا يقبلون بتمثيل مشهد
جنسي في الكنيسة مع أن المشهد المذكور لا يحتوي على أي شيء جنسي فيما عدا
الرمزية التي يحملها. والمؤسف أكثر أن هناك من المؤمنين في لبنان من يعتقد
بأنه بالتعصب والتشنج حيال عمل فني يكون أميناً لإيمانه بغض النظر عن
المشاكل الهائلة التي تعصف بالبلد والإيمان والتي تنطوي على قدر من
الخطورة بما لا يقاس مع التنورة الماكسي.
من خلال متابعة بعض الآراء المعترضة على الفيلم والتي ترى
بأنّه يلامس مناطق قدسية ما كان له أن يقاربها، فإنه يمكن القول أنه ما
تزال ثمة فئة واسعة من المجتمع المسيحي المحافظ في لبنان تخشى مقاربة
مناطق الصراع الروحي الشخصي وتعتبرها من المحرّمات. ولا بدّ من التذكير
هنا بأنّ مثل هذه العقلية التي سادت الكنيسة الأوروبية طوال عقود من الزمن
هي التي تسببت فيما بعد بانفجار قضايا المثلية داخل الكنيسة او الاعتداءات
على الأطفال بهذا الشكل المريع الذي تفجرت به في السنوات الأخيرة. يحاول
مخرج تنورة ماكسي أن يصور الصراع الداخلي لطالب كهنوت – لم يصر كاهناً
بعد- ما بين مشاعر الحب، المختلطة بشهوته الجنسية بالطبع، وما بين دعوته
الكهنوتية، وبرأيي أنه عالج هذه النقطة بالذات بشكل جميل وبعيد عن الإسفاف.
حرّية التعبير في لبنان، واحة الحرّيات في صحراء الشرق
الأوسط على مدى عقود، في خطر. والخطوط الحمراء بازدياد مطرد. فما عاد
الفنّ قادراً على الاقتراب بنقده من سماحته ولا فخامته، وملوك الطوائف
ينصبون السور تلو الآخر في بلد يضيق أكثر فأكثر، والنأي بالنفس
والديموقراطية التوافقية تكشّفت عن هرطقات معاصرة أريد بها تدجين مجتمع
لطالما تغنينا بحريته وانفتاحه. قد لا يعجبنا الفيلم من الناحية الفنية
فالأذواق مختلفة، وقد نشعر بالملل من إيقاعه البطيء وطول بعض مشاهده، قد
يشمئز البعض من بعض المبالغات فيه، أو من الاستعمال المفرط للشتائم على
لسان بعض شخصياته، لكن هذا كلّه لا يعني بحال من الأحوال أنّ على الكنيسة
لعب دور الشرطة الدينية في القرن الواحد والعشرين، الدور الذي طالما
انتقدت محاولات بعض الأطراف الأخرى في البلد القيام به.
في هذا الإطار لا يسعني إلا أن أشكر الأب جورج مسّوح على
مقالته الرائعة المدافعة عن الحرية في جريدة النهار منذ يومين بعنوان:
“أين الخطر من فيلم على الإيمان؟”، وتجدونها على
الرابط التالي.ما من شكّ بأنّ فيلم تنورة ماكسي هو من تلك النوعية الخاصّة
من الأفلام، تلك التي تحتاج إلى نوعية خاصّة من المشاهدين، قادرة على
الاستمتاع بفيلم نصف صامت، الحوار فيه في حده الأدنى، ويفسح مجالاً للصورة
بكلّ المفارقات التي يبدع المخرج في إظهارها، لتفصح برفقة موسيقى ساحرة،
ومقاطع ساخرة. وما من شكّ أيضاً بأنّ هذا الفيلم ظُلم بظهوره في سنة واحدة
مع فيلم غنيّ بالأحداث وبجرعات مكثّفة من المشاعر المتناقضة كفيلم وهلأ
لوين، إذ أن أغلب الظن بأن معظم من سيتوجّه إلى الصالة لمشاهدة تنورة
ماكسي، سيذهب وفي باله تنويع جديد على وتر الحرب والاقتتال الأهلي. مثل
هؤلاء سيخيب أملهم وسيشعرون بأنهم خدعوا بفيلم بطيء ومملّ على شاكلة
الحياة زومن الحرب، وسيغادرون الصالة على عجل في منتصف الفيلم.
إنه الفيلم اللبناني الثاني الذي أحضره خلال سنة، ويمكنني القول أن السينما اللبنانية تخطو خطوات واسعة نحو الريادة العربية.
أخيراً يبدو أن الفيلم حاز منذ يومين على جائزتين من مهرجان موناكو أفضل إخراج وأفضل ممثلة.