ذهب وبع كل شيء وابتعني، إجلالاً لروح باسل ورفاقه يوم
أمس كان أحد تلك الأيام الثقيلة المفعمة بالحزن والمرارة، لم تنفع معه حتى
أنباء الإضراب في دمشق في الرفع من معنوياتي. فما زالت صرخات أطفال الحولة
وأمهاتهم تطاردني في الليل وتمنعني من النوم. الموت يطاردني، بتّ أشعر به
من حولي كل يوم. لست خائفاً منه على الإطلاق ففيه راحة وسكينة يصعب الحصول
عليهما هذه الأيام، لا بل قد يمكنني أن أنتقل إلى جوار الرفيق الأعلى، في
النهاية ألا يفترض أنني رفيق ليسوع؟!
لا علاقة لاضطرابي بتعلقّي بالحياة، كل ما في الأمر أنني صرت مسكوناً
بهاجس الصور المريعة المترافقة مع الموت الذي أراه كل يوم. تنزع صور أطفال
الحولة، صور جثامينهم المسجاة بكفنها الأبيض، صور المقبرة الجماعية التي
أعدها أهل القرية لهم، تنزع كل هذه الصور من الموت سكينته، وتعيدني إلى
واقع بربري همجي، ما عاد فيه للحياة قيمة.
يوم أمس، كان يوماً ثقيلاً، ذكّرني أن الموت قريب، وأنه يقترب مني ومن
أصدقائي كلّ يوم أكثر فأكثر. قبل أن أذهب إلى النوم انتشر نبأ وفاة شاب من
نشطاء الثورة في سوريا. “باسل شحادة” الشاب الدمشقي، والمخرج السينمائي
الذي تخلّى عن منحة دراسية في نيويورك، ليعود إلى أرض المعركة في حمص
ويدرّب شبانها على التصوير والمونتاج، فيكونوا المراسلين الميدانيين الذين
ينقلون صورةً عملت سلطات القمع والإجرام جاهدة على منع انتقالها إلى
العالم.
لم أعرف باسل شخصياً، كل ما أعرفه أنني تلقيت منذ فترة طويلة طلب صداقة
على الفايس بوك باسم Bassel Sh ولم أستجب له خوفاً من أن يكون صاحبه أحد
أولئك الشبيحة الإليكترونيين الذين يتستّرون
بأسماء وهمية لممارسة الإرهاب الفكري وإرسال الشتائم والتهديدات التي
اعتدت تلقيها. اليوم بعد استشهاده قبلت طلب الصداقة هذا وذهبت إلى صفحته
لأرى ما الذي يدفع شاباً مسيحياً من القصاع للذهاب إلى حمص، والعيش مع
الثوار، ليموت برصاصة قناص أو قذيفة هاون!
كتب باسل على صفحته يقول ساخراً من اعتقال أصدقائه المشاركين في حملة “أوقفوا القتل”:
طيب “خففوا القتل…نريد وطنا لأغلب السوريين” بيمشي حالها يا ترى؟
هذا هو باسل الذي لم تتسنّ لي فرصة معرفته إلا بعد استشهاده. شاب حالم بوطن حقيقي، قاده حلمه إلى أن يقدم نفسه قرباناً لآلام شعبه.
كان يوم أمس يوماً ثقيلاً، أتعرفون لماذا؟ لأنني وقبيل نبأ وفاة باسل
كنت قد تلقيت ظهراً تعليقاً جارحاً طعنني طعنة نجلاء، أصابتني مباشرة في
القلب. كان تعليقاً من أحد الأشخاص الذين أقدّرهم وأحترمهم، يطالبني
بالكفّ عن الدفاع عن المجرمين الذين سيدمّرون البلد ولن يكون سوانا (أي
المسيحيين) من يدفع الثمن. لم أصدق أنه بعد سنة وبضع شهور، ما يزال
الكثيرون متمسكون بهذه البروباغاندا اللعينة! لم أصدق أنه بعد مجزرة
الحولة المروعة، ما تزال الغشاوة سميكة إلى هذا الحدّ. ألا ترون؟ ألا
تسمعون؟ ألا تعني لكم معاناة آلاف المعتقلين والشهداء شيئاً؟ كلهم سلفيون
وعراعير؟ ألا تعني لكم أسماء اسماعيل حيدر، يارا الشماس، آفاق محمّد، جورج
يازجي وغيرهم آلاف مجهولون شيئاً؟ ما الذي يجب أن نفعله أكثر من هذا لنقنع
الصامتين بأن الثورة تحتوي على كل الأطياف؛ تلك التي تنفّرهم، وتلك التي
لن يبلغوا يوماً مبلغها من التضحية والاستقامة والنزاهة.
أعترف أنني محبط ويائس من الوصول إلى عقول وقلوب هؤلاء الأصدقاء والأحبة.
مساء أمس في قدّاس الجماعة، كان الإنجيل عن مثل الشاب الغني. قال له
يسوع: “اذهب وبع كل ما تملك واتبعني”. لكنه كان طلباً شاقاً على ذلك
المسكين، تماماً كما يبدو شاقاً على كثير من المسيحيين اليوم اتباع المسيح
الذي يطالبهم من خلال صرخات أطفال الحولة أن يبيعوا كل شيء ويتبعوه. باع
باسل كل شيء. كم أنت محظوظ يا عزيزي!
قبل دخولي الرهبنة اليسوعية، واجهتني صدمة اللقاء مع نصّ المبدأ والأساس الذي يفتتح فيه القديس إغناطيوس رياضاته الروحية الشهيرة:
خُلق الإنسان ليسبّح الله ربنا ويكرّمه ويخدمه وبهذا
يُخلّص نفسه. وأما سائر الأشياء على وجه الأرض، فقد خلقت لأجل الإنسان
ولتساعده على تحقيق الغاية التي لأجلها خُلق… حتى أننا، من جهتنا، لا نريد
أن نفضل الصحة على المرض ولا الغنى على الفقر، ولا الكرامة على العار، ولا
طول الحياة على قصرها، بل نرغب ونختار ما يزيدنا اهتداء إلى الغاية التي
لأجلها خلقنا.
ومع كل يوم يمضي في حياتي الرهبانية أدرك مقدار صعوبة ما يطلبه هذا
النصّ، ومع كل يوم يمضي أدرك كم من الاحترام والتحية والإجلال يستحق أولئك
الذين يعيشون المبدأ والأساس في حياتهم دون أن يدروا. فتحية إلى روحك يا
باسل. تحية إلى أرواح المئات من نشطاء الثورة المجهولين. تحية إلى من
كرسوا أنفسهم للتضامن مع آلام شعبهم.
لا وداعاً إيها الأعزاء، بل إلى لقاء، قريب أم بعيد، يجمعنا في مكان أفضل وأنقى.
خربشة على الهامش: باسل شحادة من أولئك النشطاء الذين آمنوا بالمقاومة السلمية منذ الأيام
الأولى للثورة، وعملوا جهدهم لتكريس هذا المفهوم لدى نشطاء الثورة. كان
بحسب أصدقائه صاحب فكرة نقود الحرية منذ بضعة أشهر، والتي رميت في شوارع
دمشق وحلب.