بنات يعقوب/ فصل من رواية
08/10/2011
|
غلاف الرواية |
اقرأ.
في أثناء حرب الخليج الأولى 1991 رصدت طائرات الاستطلاع الأمريكية خمس
سيارات مدنية متوجهة إلى الموصل من بغداد، وكانت لدى الـ CIA معلومات تفيد
أن تلك السّيارات تقلّ ضباطاً يحملون وثائق فائقة الأهمية تتعلق بالمنشئات
النّووية العراقية، وأسلحة الدّمار الشّامل والصّواريخ الموجهة. فاتصلت
بفرقة من قوات "الكوماندس" معدة للقيام باعتراض مثل تلك السّيارات متواجدة
في قاعدة جوية إسرائيلية على الحدود الأردنية. لم تكن قيادة الـ CIA تدري
لماذا اختارت السّيارات طريقاً غير مبلط ولا مطروق يسهّل من اعتراضها
والسّيطرة عليها والحصول على ما في حوزتها من وثائق. الأوامر واضحة جداً:
الحصول على الوثائق بأي طريقة حتى لو اقتضى الأمر لا أسر الضّباط
العراقيين بل قتلهم جميعهم.
ظلّ أمر ذلك الاعتراض سرّاً إلى حين نشر الموضوع بعد فترة من الوقت في
مجلة TODAY NEWS التي تصدر في واشنطن العاصمة. يعود أمر الكشف عن الموضوع
لجمعية حقوق إنسان مقرها في شيكاغو، تنادي بإرجاع جميع جنود الولايات
المتحدة إلى أرض الوطن. وتقيم احتفالات توقد فيها شموعاً على أرواح شباب
قتلى لم يعلم بمصيرهم سوى أهاليهم، بينما لم يرَ بعض الأهل جثث أولادهم،
ولم يقدّم لهم سوى قطع ملابس قليلة، وتذكارات شخصية كقداحة سجاير رخيصة،
وميداليات معدنية عسكرية عليها اسم ورقم الجندي فقط.
نزلت مجموعة “الكوماندس” قبل وصول سيارات الضّباط العراقيين، من طائرتي
هليوكوبتر حديثتين على بعد نحو عشرة أميال قرب الشّرقاط، في منطقة متموجة،
منعزلة، غير مسكونة، يسهل رصد ونصب الكمائن فيها، وكان لديهم وقت كافٍ
لكشف المكان، فمسحوا بقعة كبيرة من المنطقة، واختاروا موقعاً استراتيجياً
لهم بين جبل حمرين الصّخري الأجرد وبين البادية الشّاسعة. وكان من المفروض
أن يستسلم الضّباط العراقيون المتواجدون في السّيارات جميعهم، لأنهم
سيفاجئون عندما يصلون إلى منطقة الكمين، بمجموعة “الكوماندس” تحيط بهم من
جميع الجهات، وسيكون الحسم بيد فئة منهم ارتقت صخوراً وعرة في سفح جبل
حمرين الأجرد، لتتمكن من رمي أي ضابط عراقي تسوّل له نفسه الهرب.
كمَن قائد مجموعة “الكوماندس” خلف صخرة، على ارتفاع نحو عشرة أمتار، يرصد
بمنظاره الدّقيق السّيارات القادمة من بعيد، وإذ أصبحت على بعد نحو ميلين،
أي في المكان الذّي أنزلت طائرات الهيلوكبتر الكوماندس بالضّبط أمر القائد
أعضاء مجموعته بالاستعداد.
بين العصر والمغرب يحلو الجو في تلك المنطقة وبخاصة في الرّبيع، والشّمس
في أقصى الغرب تتهيأ للرحيل، وكان من في السّيارات العراقية يراقبون
الطّريق أيضاً، ولرتابة الطّريق أحسّ معظمهم بما يشبه النّعاس. النّظر إلى
شيء يتكرر باستمرار يسمّر النّظر على لاشيء، فيفقد الفكر حيويته، وبين
اليقظة والمنام رأى أحدهم شيئاً أبيض. ورقة "مدعوكة" لكنه لم يطلب من
السّائق التّوقف، ظلّت السّيارة تسير، ثم رأى الضابط نفسه شيئاً آخر
صغيراً أحمر يلمع تحت أشعة الشّمس. فجأة رنّ جرس إنذار صغير في دماغه جعله
يطرد النعاس، يهتف فجأة، وبصوت عالٍ موجه إلى السائق: قف.
ترجل حالاً. ترى ما هذا الشيء الأحمر؟ حصاة صغيرة! لا. اقترب منه، أشبه
باللبان، لا بل هو لبان بالذات، هذه آثار أسنان؟ ارتج الوجود تحته. كيف
يأتي اللبان إلى هنا؟ في هذا القفر الخالي؟ انحنى. أمسكه بأصابعه. طريّ.
نعم. لبان طريّ. ماذا يعني هذا؟ ثمّ ما شأن الورقة المدعوكة؟ رجع إلى
الخلف راكضاً نحوها. كانت ورقة كلينكس "محرمة ورقية". لم يلمسها. اقتلع
عوداً صغيراً من الأرض، قلب الورقة. رأى فيها شيئاً لزجاً لم يجفّ بعد.
الأرض طرية. أمطرت في اليوم السّابق فهدأت الأتربة ولم يجف سوى قشرة رقيقة
منها تمكنها من حفظ الأثر. عندئذ دقق حواليه، رأى آثار أحذية عسكرية كثيرة
في غير ما اتجاه.
كانت هذه رواية قائد “الكوماندس” الأمريكي. أضاف: شاهدت الرّجل الذّي
ترجّل يصرخ، يحرك ساعديه بانفعال. ثم تكلّم مع من كان في السّيارات
الأخرى. لكني لا أدري ماذا قال لهم. كنت أراهم بالمنظار، انبطحوا جميعاً
على بطونهم وطفقوا يتكلمون، ثم نهضوا فجأة. أسرعوا نحو سياراتهم تناولوا
منها قنابل يدوية ورموها في دائرة حولهم، فارتفع دخان كثيف إلى الأعلى
غطاهم وسياراتهم وجزءاً من سفح جبل حمرين المحادد لهم، وبعد نحو ثلاث
دقائق التّهبت السّيارات بنار فظيعة كما لو ألقي على كل منها قنبلة زنة
ربع طن من مادة الـ ت ن ت. أو كما لو كانت السّيارات محملة بالمتفجرات.
اضطرب قائد “الكوماندس”. لم يدرِ ما يفعل. اتصل بالقيادة، وصَف لها ما
رأى. ثم جاءت الأوامر، ساخنة، هائجة، تكتسح الوجود كله: تتبعهم حالاً. ابن
القحبة " son of pitch " "مذر فكر". ماذا كنت تفعل؟ لا تدع أي "خراء" منهم
يفلت. لا تضييع الفرصة.
أخذ قسم من الكوماندس يجرون على أقدامهم، لكن قدوم طائرة هليكوبتر كانت
مختفية في منخفض غير بعيد سهّل لهم الأمر. أعدوا أسلحتهم لمطاردة الضّباط
قبل أن يترجلوا من الهيلوكبتر. ثم انطلقوا يركضون في المسافة المحاذية
للجبل ليصلوا إلى السّيارات العراقية المحترقة لكن الرّصاص فاجأهم من حيث
لا يحتسبون، وبشكل كثيف. رصاص من فوقهم، من أمامهم، من خلفهم. من أين؟ لم
يتوقع أحد. أصيب معظم “الكوماندس” في الحال. ترامت جثثهم على الأرض.
وحينما أراد قائدهم النّكوص والوصول إلى طائرة الهيلكوبتر رآها تنفجر،
تتلاشى حطاماً، لا بل أن إحدى شظايا الطائرة أصابت جندياً في رقبته. فصل
رأسه بلمح البصر. "جيسز" أي مأساة! لا وجود لشيء ينقذ أبطال الكوماندس
الذين أصبحوا أشبه بأرانب منبطحة لا حول ولا قوة لها، الصياد وقع فريسة في
الفخ الذي نصبه. من كان يتوقع؟ ماذا كان سيحدث لولا وصول الهيلوكوبتر
الثّانية؟ حمداً للرب المنقذ. إنها لمعجزة. "miracle" معجزة حقيقية.
لكن مع كل ذلك كان من الممكن أن يلقى الجميع نهايتهم، لولا أن تمالك
رئيسهم من السيطرة على نفسه وأصدر أمره: ظلوا منبطحين. لا تتحركوا.
ثم انعكس مسار الرياح فغطى الجميع غبش كالضّباب تولد من قنابل الدّخان التّي كانت تترى من دون انقطاع. فزحف الجميع إلى مكان آمن.
وحينما صفا الجو كان الظّلام قد حلّ.
بعد بضع ساعات وصل إلى المنطقة نحو عشر طائرات سمتية، أنزلوا خيماً ومعدات
معسكر سريع كامل: أسرة، أفرشة، أطعمة، مناضد. كل ما يحتاج إليه أكثر من
مئة جندي لمدة أسبوع.
ثم انطلقت فرق متخصّصة وتحت نيران كثيفة موجهة إلى سفح الجبل، والمنطقة
تضاء ببروجكترات هائلة لتخلق شمساً في قرارة الظّلام، وتم سحب أجساد
المصابين جميعاً ونقلهم حالاً إلى مستشفى بلد حليف.
انبثّ “الكوماندس” في صباح اليوم التّالي في منطقة حددت بسفح جبل حمرين
الغربي والبادية، حيث شوهد الضّباط العراقيون يختفون فيها، وحتى قمته،
وسفح الجبل الآخر المطل على دجلة.
حمرين جبل صخري، خالٍ من النباتات. زلق. الهيلوكبترات هي التي تنـزلهم على
قمم الصخور الهائلة الحادة. وتنقلهم من صخرة إلى صخرة، ولقد عبّر القائد
عن وعورة الجبل بقوله: أجزم بأننا كنا أول بشر يقف على صخوره. وحينما سأله
الصحفي كيف يجزم؟ ابتسم ضاحكاً: لأن أي واحد منا لم يرَ أيّ ممر أو طريق
يفضي إلى القمة أو إلى أيّ مكان في الجبل. لا ممر بين الصخور مطلقاً. لا
طريق يفضي إلى شيء. كانوا يتسلقون بضعة عشر متراً ثم يرون أنفسهم راجعين
من طريق آخر، أو يرون صخرة تعترض طريقهم لا يتمكنون تسلقها.
أين اختفى الضّباط العراقيون؟
لا أحد يدري.
حلّقت طائرات الرّصد، أخذت صور جبل حمرين منذ ظهوره جنوب الموصل وحتى
انتهائه بعد مسافة نحو مئتي ميل، ثم أرسل الفنيون الصور إلى الـ CIA، "وهم
في داخل السمتيات" صور الجبل كله من السفح إلى السفح. ومن البدء إلى
النهاية. استعانت الوكالة بالمختصين لتكبير الصور وتحليلها، في معامل
البنتاجون الفنية شديدة التطور. أظهرت الصور وجود غابة على طرف الجبل
المحاذي لدجلة، لكنها لم تظهر إلا حينما تؤخذ الصور من الشرق أو من
الأعلى. لكن مع ظهور الصور بات هناك تساؤل ملح فرض نفسه: كيف يمكن لمتسلق
الجبل أن يصل إلى القمة والصخور ناتئة ملساء، حادة، مميتة؟ وإن وصل بمعجزة
فكيف ينحدر على السّفح الثّاني ليصل إلى الغابة المطلة على نهر دجلة؟
تلك الغابة وحدها هي المكان الذّي يستطيع فيه الإنسان أن يحيا، أن يبقى
بضعة أيام. أما الجبل الصّخري الأجرد فيستحيل أن يبقى فيه المرء غير بضع
ساعات، ففي الليل تهب رياح باردة قارسة تجمِّد الإنسان والحيوان.
في البدء أعطيت الأوامر لمراقبة من يتسلق سفح الجبل الغربي. ثم جاء أمر
آخر بتناسي الأمر الأول. من يأتي إلى هذه البقعة المعزولة ليتسلق صخوراً
قاتلة؟
ثم جاء أمر ثالث أن يستعدوا للإنزال على الغابة المطلة على دجلة. لكن
الإعداد لم يتمّ بسهولة. لم يجدوا أيّ بقعة تصلح لنزول الطّائرة. الغابة
كثيفة ملتفة الأغصان، تنتشر على مسافة شاسعة أشبه بهضبة تعلو على نحو عشرة
أمتار عن النهر. وكان سقوط أي جندي من الهضبة يعني نهايته على أرض صخرية
تجري المياه فوقها بسرعة هائلة أشبه بمرور عاصفة جبارة. كان عليهم أن
يُنزلوا أفراد فرقة الكوماندس بالحبال واحداً إثر واحد، وبالرّغم من أن
ذلك يأخذ وقتاً ليس بالقصير فقد كانت الطّريقة الوحيدة المتاحة لهم.
أخيراً تمّ الإنزال بنجاح ومن دون خسائر. وبدؤوا حالاً بتمشيط غابة أشجار
الفاكهة كلها، إذا كانت تمتد نحو خمسين ميلاً، تتسع في بعض الأمكنة نحو
مئة متر ثم تضيق فلا تكاد تمتد سوى بضعة أمتار، لم يستطيعوا إتمام مهمتهم
في تمشيط الغابة والكهوف التي لا حصر لها إلا في خلال أسبوع كامل. لم
يعثروا على الضّباط قط، لا بل لم يروا أيّ أثر لهم. في عصر اليوم الأخير
أخذ معظمهم يتسلق سلالم حبال طائرات الهيلوكبتر إلا واحداً طلب الإذن أن
يصوّر شيئاً فريداً، أشبه بكنز فني. لكن قائده المتعب الهائج في الطّائرة
صرخ بكل ما يملك من قوة: أسرع. لا تصوير ولا fucking shit "قذارة". كان
مستثاراً يكاد ينفجر فقد كانت عمليتا نزول الجنود من السمتيات وصعودهم، في
ذلك الحيز الضيق خطرة تثير الأعصاب، وكانوا يظنون أنهم سينتهون في يوم
واحد، لكن سعة المكان وتشعباته وكثرة الكهوف جعل خططهم تتغير كل يوم.
أقلعت تسع طائرات بالفعل، لكن الطّائرة العاشرة ظلت في مكانها تنتظر
الجندي الذّي كان يستعد للتّصوير ولم يفعل. مراوحها تدور مصحوبة بذلك
الصّوت المزعج، والهواء يكاد يقتلع الأشجار والجنود لا يستطيعون سماع
بعضهم من دون صراخ. وهم ينظرون إلى رفاقهم يتسلقون السّلام التّي لا تني
تتراقص ككوبرا بفعل تيارات الهواء القوية. فجأة ومن غير ما يتوقع أحد سقط
آخر جنديين، أول الساقطين من أراد التّصوير. رجله اليمنى في الدّرجة
الرابعة عشرة من سلم الحبال. سقط على رأس الثاني وكان تحته بنحو متر فقط.
ارتمى الإثنان على الأرض وكأنهما أصيبا بالرّصاص، وأخذا ينتفضان من الألم
برهة ثم همدا. وحينما أسرع رفيقان لهما ليحملاهما إلى الطّائرة سقطا أيضاً
قبل وصولهما الأرض. لم يسمع أحد صوت أيّ رصاصة. ربما لأن أصوات المحركات
الجبارة في الهيلوكبتر كانت تطغى على صوت رصاصة واحدة راصدة، أو ربما كانت
الرّصاصة تنبعث من سلاح كاتم للصّوت. لا أحد يستطيع أن يتأكد من ذلك.
منع قائد الوحدة الصّغيرة في طائرة الهيلوكبتر رفاق الجنود الأربعة
المنكوبين من النّزول لسحب جثتهم. أخبر القيادة بما حدث، وأمر الطّيار أن
يقلع لكن الطّيار أصيب هو أيضاً بمثل لمح البصر. طلقة واحدة في صدغه
الأيسر، تدّفق الدّم حالاً من الثّقب الصّغير ليلوث كتفه وصدره، فهوت
الطائرة محترقة في نهر دجلة ولم يُنقذ منها سوى ثلاثة جنود وهم في الرّمق
الأخير.
وبالرّغم من اتفاق خيمة سفوان بين القوات الأمريكية والعراقية الذّي أنهى
حالة الحرب، وبالرّغم من صدور الأوامر بالانسحاب حالاً. إلا أن طائرات
عملاقة توجهت حالاً إلى المنطقة وقصفت بشدة لا يمكن وصفها الغابة كلها إلا
الجزء الصّغير الذّي تساقطت فيه جثث الجنود الأربعة. وبعد نحو أربع ساعات
من القصف المتواصل الشّديد تمكن بضعة أفراد من “الكوماندس” انتشال جثث
المصابين من الغابة المحروقة التّي لم يبقَ فيها سوى جذم سيقان متفحمة
يلفها السّخام وينبعث منها الدّخان.
ما كنت بقادر على جمع خيوط رواية بنات يعقوب، لولا قراءتي لهذا التّقرير،
الذّي نشر هذه القصة بعد انتهاء الحرب بنحو ثلاثة أشهر في مجلة TODAY NEWS
الأمريكية، مع صور ما تبقى من السّيارات المدنية العراقية الخمس المحترقة،
على طريق ترابي مهجور قرب جبل حمرين، ونشرت كذلك صور الجبل بنهاياته
الحادة المدببة، وصوراً عن الفراغ بين صخوره المستحيلة التّسلق، وصوراً
أخرى عما تبقى من غابة الفاكهة التّي كانت يوماً ما باسقة الأشجار وممتدة
على طول السّفح الشّرقي المحادد لدجلة. أحسست بالألم يعتصر قلبي، فتلك
المنطقة مألوفة لدي، لكثرة ما ذهبت إلى الشرقاط وقيارة، وبيجي، وهي قرى
صغيرة، زرتها بضع مرات لشؤون عائلية، إذا كانت تربط عائلتي وبعض الساكنين
فيها وشائج زراعة وتجارة.
لم أتذكر من ترجم المقالة إلى اللغة العربية، إذ قرأته في صحيفة إحدى دول الخليج العربي آنذاك.
والطّريف في الأمر أنني لم أكن براغب في قراءة المقال لولا العنوان المثير
المنقول عن الأصل الإنكليزي: فشل ذريع آخر في الموصل لوكالة الـCIA يكلف
دماء أبرياء لا مبرر لسفكها.
هزّتني كلمة الموصل. "مدينتي"، المنطقة تعود إلى ما يسمى لواء الموصل
سابقاً، وما يسمى بمحافظة نينوى التي عاصمتها الموصل حالياً. لكنها في
الواقع بعيدة عن الموصل بأكثر من مئة ميل.
حفزّت المقالة عندي نوعاً من الذّكرى الهامدة، بدأت تستفيق ببطء. تتعلق
الذّكرى بالطّفولة، وترجع إلى عهد عميق الجذور، إلى ما قبل نحو ستين سنة
من الآن، وكانت تتعلق بـ" الملجأين المستحيلين" الذّين كان يتطرق لذكرهما
مراراً الشّيخ الشهدي. وذكر أحدهما زميلي حسين ربيع.
لكني لم أحصل على صورة واضحة للملجأ الثّاني الذّي قُضى فيه على قسم من
مجموعة الكوماندس الأمريكان مرّة واحدة. بل على دفعات استمرت نحو عشر
سنوات أو أكثر.
تذكرت بعد قراءة المقال قصص الشّيخ الشهدي عن الملجأين المنيعين الذّين
شاهدهما في حياته. وكيف وصف الأول، وحدد مكانه بأنه في جزيرة بن عمر شمال
الموصل بنحو ثلاثمئة ميل، أي أن منطقته تعود الآن من دون ريب إلى تركيا.
وصفه بأن العقل لا "يشيله" . مدينة تحت الأرض، مئات الغرف. آبار. أفران.
مطاحن. مخازن حبوب. تتسع لمئات الأشخاص. تدخلها أشعة الشّمس من سقف مكون
من صخور صدفية شفافة مبنية ومثبتة إلى بعضها، بحيث تسير عليها العربات
والنّاس ولا يعرفون ما تحتهم. أما المدخل فلا يمكن أن يكتشفه أيّ إنسان
لأنه مخفي بين مئات الصّخور ومغطىً بأكمات أشجار منوعة وعلى من يدخله أن
يمسك بأغصان الأشجار وينزل رجليه ويدع جسده ينـزلق، وهو على ظهره بضعة عشر
متراً.
رآه مع زوجته لكنه لم يطلع أيّ إنسان عليه. لأن أهل القرية التي تزوج منها
في شبابه كانوا يريدون أن يكتموا سرّه فقد كانوا يتخذونه ملجأً أميناً
لأولادهم إن تعرضت القرية للغزاة، أو للمجرمين، أو لسلطة غاشمّة.
أما الثّاني فقد كان مخبأ مماثلاً لكنه فوق الأرض. وعلى من يقصده أن
يستعين بمن يعيش في القرية المقابلة له "الشّرقاط" فهم وحدهم يعلمون مدخله
الوحيد الذّي يقود إلى السّفح الثّاني من جبل حمرين المطل على دجلة.
والذّي يتسع لعشرات آلاف الهاربين يحتضنهم، ويغذيهم، ويمنع الأعداء من
الوصول إليهم. حتى يطمئنوا إلى المستقبل ويستطيعوا بعدئذ أن يخرجوا منه
بعد يأس مطارديهم من الوصول إليهم.
سمع الشّيخ الشهدي عن المخبأ الثّاني من جدّه الذّي لا يفتر من نعته
"البطل" الشّهم الشجاع، الذّي قَتل أحد أعظم قواد نادر شاه جيلول العملاق،
بضربة رمح قوية استقرت في صدره، وقضت عليه في الحال. وكان يشير إلى
الحادثة بنشوة وفخر مسكرين، وبكثرة، وهي تتعلق بحصار إمبراطور الشّرق نادر
شاه لمدينة الموصل بجيش يتجاوز أربعمئة وخمسين ألف رجل بينما كان القادرون
على حمل السّلاح في المدينة لا يتجاوزون خمسة عشر ألفاً. توقع نادر شاه أن
يحصل على نصر سريع بعد أن احتل بسهولة كركوك وأربيل واجتاح المدن الكردية
والقرى المسيحية واليزيدية والتّركمانية وقضى على رجالها إلا من هرب إلى
الموصل أو الجبال. لكنه لم يستطع احتلال الموصل ورجع بعد حصار طويل خائباً
محسوراً. وبانسحابه من المدينة طوى صفحة آخر حرب شنها الفرس على العراق
بعامة، والموصل بخاصة لإذلال الناس. لكن قادة جيشه قرروا استئصال ثلة من
الفرسان العرب أزعجتهم طيلة مدة الحصار الطويل للمدينة. لم يكتب أحد عن
تلك الثّلة قط. لكن الشهدي كان يشير إليها دائماً بقوله عصبة من الشباب
الشهم، تعاهدوا على الموت انتقاماً لشرف آلاف النّساء العربيات، المسلمات
والمسيحيات اللواتي اغتصبهن جيش نادر شاه ومئات آلاف الأبرياء الذّين
قتلهم. كانوا فرساناً مدربين على ركوب الخيل واستعمال القوس والنشاب
والرماح. لا أحد يعرف عددهم بالضبط، منهم من يقول مئة، ومنهم من يقول لا
يزيدون على العشرين. لكنهم أوقعوا أشد الأضرار بجيش نادر شاه العرمرم.
كانوا بالنّسبة إلى جيشه أشبه بالبقة إلى الفيل. كما كان يردد، ويضحك،
ويجعلنا نضحك نحن الأطفال أيضاً. كانوا يعتلون ظهور جياد قوية بدون سروج
كي تمكنها من الإسراع وهي خفيفة بلا ثقل إضافي. مبدؤهم الأزلي مبدأ أي
فرقة مغاوير سريعة. اضرب واهرب. يقتربون من الجيش. يكمنون ويخفون أنفسهم،
يوجهون سهامهم على الحرس فيقضون على من يستطيعون القضاء عليه ويهربون. أما
إن كان الوقت فجراً فلا يكتفون في قتل بعض الحرس بل يهاجمون من في الخيم
فيذبحون من "القزل باش" ما استطاعوا. أو يحرقون بارود المدافع. أو يسوقون
أمامهم خيول فرقة من الجيش. وفي خلال الحصار الذّي دام نحو خمسة أشهر،
وكاد يقضي على سكان أهل الموصل من الجوع والقصف، قتل هؤلاء المغاوير البدو
أكثر من ألفي جندي، بالرّغم من قلة عددهم.
صمم نادر شاه أن يستأصلهم. ويستأصل قراهم أجمع. فأرسل جيشاً من خمسة آلاف
من خيرة "القزل باش" بقيادة عبد الحسين أمير الموت. كانوا على درجة عالية
من المهارة والتّدريب والرّغبة للانتقام من هذه "العصابة" الضّالة
الصّغيرة واستئصالها. الضّفة الغربية من دجلة صخرية جرداء. لا نبتة ولا
شجرة ولا زرع ولا ضرع. وكان فرسان تلك الثّلة لا يغيبون عن أنظار جيش
القزل باش، يظهرون كالشياطين لأفراده عن بعد فإن طاردتهم مجموعة توقفوا
حتى يجعلوا بينهم وبينها مسافة لا يمكن أن تطالهم نيران بنادقها أو
سهامها. حينئذ يبدؤون بالانسحاب على مهل حتى إذ ابتعدت المجموعة المهاجمة
عن الجيش اختفى أفراد الثّلة ثم ظهروا فجأة في مكان آخر، فأصابوا من
أعدائهم وهربوا.
وقبل أن يصل القزلباش الشّرقاط تركها أهلها وانسحبوا إلى البادية، فلم يجد
الجيش أمامه أي شيء يستفيد منه وانهمك بعض أفراده بهدم بيوت القرية التّي
لم تكن تتجاوز العشرين بيتاً، ثم حرقها بعدئذ. بعد ذلك لحظوا أفراد الثّلة
تتجه إلى الجبال فتبعهم الجيش وبدؤوا يتسلقون الجبل وراءهم لكنهم فوجئوا
بعد قليل أنهم وقعوا في كمين فقد انهالتّ عليهم السّهام من حيث لا
يتوقعون. على أن أكبر محنة لقوها هي أنهم وجدوا أنفسهم في مأزق شديد، وهم
على قمم الصخور التي تسلقوها بصعوبة. إذ أنهم لم يستطيعوا الاستمرار في
التّسلق لأنه لا يفضي إلى شيء، ولم يستطيعوا النّزول بسرعة وإلا سقطوا
وتكسرت عظامهم. في وقت كانوا فيه عرضة للتهديف من جميع الجهات. سقط نحو
خمسين رجلاً من المهاجمين في بضع دقائق. وحينما حاولوا أن يجلبوا قتلاهم
في الظّلام انهالتّ عليهم الأسهم مرّة ثانية فتركوا المهمة للصّباح، ولم
يكن حظّهم في الصّباح بخير منه في اللّيل. وقدّروا أنهم لن يظفروا بقتل
شخص واحد من البدو الشّياطين فقرروا أن يتركوهم في جبالهم الجرداء
الحقيرة، وصحرائهم القاتلة مع الجرابيع والضّبان. وعليهم لعنة الله.
انسحب مدحوراً الفارس الشّجاع عبد الحسين أمير الموت وهو يبكي، فقد ترك
جثة أخيه الأصغر علي أصغر، مرمية مع باقي الجثث من دون أن يستطيع دفنها.
تركها تتفسخ في مكانها، طعماً لنسور الجو. لكن ثلة الفرسان لم تتوقف في
انسحاب العدو، بل أخذت تناوشهم على بعد وتنال منهم حتى عبروا دجلة قبل أن
يصلوا إلى الموصل.
بعد أكثر من مئة سنة على الحادثة المذكورة التّي سُجلت في ذهن آبائه تسنى
للشهدي أن يزور المنطقة. كان يعمل في قوافل تجارية تنقل البضائع من بغداد
والموصل، ومن الموصل إلى ماردين أو حلب أو بحيرة وان.
وعندما كان يقتضي الأمر أن يوصل أشياء ثمينة كبضعة أمنان من الذّهب أو
آلاف القطع النّقدية بسرعة كان يصاحب البريد الحكومي السّريع، الذّي يقطع
المسافة بين بغداد والموصل في خمسة أيام بدلاً من عشرين يوماً في القوافل
العادية. وكان ذلك عرفاً يجري وفق اتفاقات معينة بين التّجار والسّلطة من
جهة والسّلطة والعشائر المتواجدة في المناطق التّي يمرّ فيها البريد من
جهة أخرى. في إحدى المرات عَثَر جواد رئيس بعثة البريد وكسر أحد أطرافه،
فرجع أحد المرافقين لجلب جواد بديل من أقرب قرية. ولم يكن بد من المكوث
يوماً إضافياً في المنطقة، قضاها الشهدي مع أفراد البريد الذّي كان أحدهم
من سكان الشرقاط، فقرر أن يدلّهم على المخبأ تجزية للوقت، فأخذوا يتسلقون
وراءه جبل حمرين، لم يروا من بقايا جثث قزل باش نادر شاه سوى بضعة عظام
وجماجم أقل من عدد أصابع اليد. لكنهم ما إن وصلوا إلى حيث الغابة المطلة
على دجلة حتى ذهلوا للتماثيل الهائلة الموجودة على الصّخور، والكتابة
الغريبة. كان هناك بقايا لأكثر من خمسمائة بيت كامل إلا من سقوف يبدو أنها
سقطت لأنها من الخشب والحصائر. بينما كانت هناك آثار آلاف أخرى لم يبقَ
منها سوى حيطان لا ترتفع عن الأرض كثيراً. بدا أن الذين عاشوا هناك كانوا
ضاربين في جذور الحضارة أكثر من القرويين الذين يسكنون الشرقاط الآن،
فبيوتهم التي عاشوا فيها قبل آلاف السنين متطورة جداً، كأنها دور معاصرة.
مجهزة بمرافق صحية، مربوطة بمواسير من الفخار تنزل تحت الأرض لتصب على بعد
مئتي متر في دجلة. ولابد أنهم على ما يذكر الشهدي كانوا ذوي ذوق رفيع. إذ
كان الشهدي عندما يريد أن يمتدح رجلاً كاملاً، مثقفاً، عالماً، مطلعاً على
الأمور يقول " شاعر، وجلبي يفهم معنى الحياة". كلمة شاعر نعرفها نحن
الأطفال الذين نقرفص حوله كل يوم من أيام الكتاب، ولم يكن أكبرنا يتجاوز
السادسة. كان كثيراً ما كان يترنم بالشعر، ويغنيه، "لا كما يلقى الآن"
بصوته العذب الرقيق، وهو الأعمى المعمر، فطالما سحرنا إنشاده بيتي عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي.
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم.
وقصيدة ابن زريق البغدادي، التي تبدأ:
لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه.
وقصيدة علي أبن أبي الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري.
وأبيات أخرى لا يمكن أن أتذكرها الآن. لكني وقر في ذهني وأنا صغير أن كلمة
شاعر تعني من يحتل مرتبة سامية بين البشر، ولابد أن تكون كلمة جلبي ذات
معنىً مشابه. حسب رأي الشهدي أن سكان المنطقة تلك كانوا كلهم شعراء جلبية،
طبقة كاملة من البشر، وجد هناك دكاكاً منحوتة على ضفة النّهر يستطيع المرء
أن يجلس عليها ويرمي ساقيه في الماء. وهذا في نظره يعني أنهم شعراء
ويريدون التمتع بالمناظر الجميلة. ووجد مساطب من المرمر في أعلى الهضبة
تطل على دجلة. يمكن أن يلقي منها الصياد شباكاً ليصيد الأسماك. معملاً
صغيراً للجص. طاحونة كبيرة لطحن الحنطة والشّعير. مئات القوالب خشبية
مصفوفة فوق بعضها في زاوية لصنع آجر البناء . إسطبل للجياد. معصرة زيتون.
مئات أزاميل النّحت والحفر في الصّخور. أشياء كثيرة دقيقة أخرى لا أستطيع
تذكرها أنا، لكن الشهدي كان يعددها ويشرح لنا نحن الأطفال كيف تعمل. أما
الماء هناك فكان "أصفى من عين الديك"، ماء رقاق صافٍ محصور بين صخور
عملاقة ليكون بحيرات عدة تتصل بالنهر العريض. بينما كانت الأسماك كبيرة
وصغيرة تسبح في أمان.
علموا أن هذا الملجأ كان مسكوناً كملجأ تركيا بالضّبط. يقول الشهدي أنه
رأى في ذلك المكان أجمل صور النّساء التّي رآها في حياته، جمال نساء لن
يضاهيها حتى جمال الحور العين. لكننا نحن الأطفال لم نكن نفهم الحور
العين، لذا كان الأمر يلتبس في أذهاننا فيضيف الخيال للوصف هيئة رمزية.
عندما كنت طفلاً كان الشّيخ أحمد الشهدي يقضي معظم نهاره في جامع الشّيخ
محمد في الموصل المجاور لبيتنا. وكان حسب قوله قد تجاوز مئة وسبعاً وعشرين
سنة، وكان جسده صغيراً ولست أدري لماذا كان يختلف عن أجساد الآخرين كان
أشبه بجسد طفل، وكنت أحار في تفسير ظاهرته حتى قرأت فيما بعد أن الإنسان
إذا تجاوز المائة تبدأ عظامه بالتّقلص والانكماش. لم أره واقفاً قط، ولم
أره يمشي كذلك. وأظنّه كان مقعداً، لا يستطيع التحرك، فكيف يأتي إلى مكانه
كل يوم في باحة جامع الشيخ محمد؟ أغلب الظّن أن أحد أحفاده يحمله كما يحمل
الطّفل ويجلسه على فروته في مكانه نفسه الذّي لا يغيره قطّ. وكنا لا نرى
منه سوى وجهه النّحيف بلحيته البيضاء المشذبة دائماً، ويديه المعروقتين
ويشماغه الأسود والأبيض الذّي يلّفه فوق جبهته كعمامة "جراوية". كان يقصّ
علينا قصصاً لذيذة جداً وكنا نهرع إليه مرتين في اليوم خلال الاستراحتين
اللتين يمنحنا إياهما المُلا عبد الحميد. قصص الشّيخ الشهدي تختلف عن قصص
أمهاتنا التّي يدور معظمها حول أحداث وشخصيات خرافية كما يحدث الآن في
أفلام الكارتون السّينمائية. قصصه واقعية لأناس أمثالنّا.
تركزت عبقرية الشّيخ العظيمة كونه يستطيع أن يجعل من قصة عادية أمراً
لذيذاً يستهوي الطّفل في أعمارنا المبكرة تلك. ولما كانت ذاكرتي (ولست
أدري لماذا) تعمل بعشوائية لا يمكن السّيطرة عليها مطلقاً، فقد نسيت
الكثير من تلك القصص الرّائعة مع الأسف. وحينما أحاول تذكرها الآن تتمنع،
وتأبى الحضور، ثم يتبدد ما يتبقى منها في العدم كما يتبدد الرمل من بين
الأصابع. لكن قسماً منها يستيقظ فجأة ويضرب المخّ ضربة قوية ثم يتلاشى
تاركاً جزءاً من صورة غير واضحة، فيجعلني أضرب أخماساً في أسداس وأنا
أحاول أن استرجع ما يكمل الصّورة. وحينما أيأس أقلب صفحة الذّكرى لأهتم في
أمر آخر، لكن الذّكرى تتمرد ثانية على رقادها وتندفع بغتة كطلقة هادفة،
تضرب المخ ضربة ثانية لتترك جزءاً آخر من الصورة. وهكذا وبأوقات متفاوتة
استطعت استرجاع قصة المخبأين المستحيلين.
أحد المخبأين بين ماردين وغازي عنتاب"1"، حيث تزوّج الشّيخ الشهدي هناك من
حسناء وقع في حبّها عندما كادت الملاريا أن تصرعه. تركته القافلة في عناية
شيخ عربي من سكان المنطقة. فاعتنت به ابنة الشّيخ الحسناء وكان عمره آنذاك
خمس وعشرين سنة، وعندما أبل تزوجته ورافقته إلى الموصل لتموت بعد نحو عشر
سنوات في الطّاعون الذّي اجتاح المدينة. حسبما قال الشّيخ الشهدي أنه عمل
مع القوافل في القرن التّاسع عشر لكنه لم يخبرنا متى وكم وربما أخبرنا
لكننا نسينا، كنا أطفالاً لا نعي. وحينما أفكّر في الموضوع الآن فلابد أنه
كان رأى المخبأ الأول قبل مئة سنة في الأقل. رأيت الشهدي وأنا في عمر
الثّانية والنّصف على ذمة أمي وظللت ملازماً له حتى السّادسة من عمري،
"1942-1945" فذلك يعني أنه كان قرب الملجأ الأول في حدود سنة
1810-1830وحسبما يدعي الملا عبد الحميد أن الشّيخ كان يقلل من عمره، فلقد
كان يحدد عمره بـ 127 قبل أكثر من عشرين عاماً، عندما رآه الملا عبد
الحميد أول مرة، فإذا فرضنا أنه لم يكن يقلل من عمره فذلك يعني أنه أصيب
بالعمى قبل عشرين عاماً وكان عمره نحو مئة وسبعة إلى عشرة أعوام. وفي غير
مرّة قال إنه كان يعمل حتى أصبح ضريراً، إذ أنه لم ينطق كلمة العمى قط.
ربما لأنه كان يعلم أن كلمة العمى تشمل في معانيها عمى القلب أيضا،ً وهو
الخرف الذّي يخشاه أكثر المعمرين في مدينتنا. كان المعمر الثّاني في
محلتنا أبو يحي يعمل حائكاً في جومة "ورشة نسيج لفرد واحد" أقامها في
سرداب البيت منذ لا أحد يدري حتى مات بعد أن تجاوز المئة بإحدى عشرة سنة
وثلاثة أشهر كما تقول حفيدته التّي تكبرني بعشرة أعوام، لكن الحفيدة كانت
تجد من يكذبها، جارتها حسينة، المسترجلة، صاحبة أطول لسان في المحلة: لا
تشبعون من الكذب، إنه من جماعة أهل الكهف، من زمن "دقيانوس" أكبر من نوح.
مئة وإحدى عشرة أم مئة وإحدى وثلاثين، أو خمسين!
أما دور زميلي حسين ربيع في هذه الذكرى فتعود إلى سن السادسة عشرة، إذ كنا
زملاء معاً في الثّانوية. لم يتعد الأمر ذكرى ثرثرة عابرة. كان من
الشّرقاط. أجرّ بيتاً صغيراً، غرفة واحدة يُصعد إليها بنحو أربع عشرة
درجة. في الثلمي. قرب جامع الشّيخ محمد هو وأخوه حسن الأصغر منه بسنتين
ليكملا الثانوية في المدينة. كنا نخرج من المدرسة التّي كانت تتسع لأكثر
من أربعمئة طالب. نندفع كتيار جارف. لكننا نتفرق في أزقة وشوارع المدينة
وعندما نصل إلى أزقتنا نكون وحدنا. في تلك السّنة رأيت اثنين يسيران أمامي
في بداية الزقاق المؤدي إلى بيتنا، ثم رأيتهما يدخلان بيتاً إلى اليسار
قبل أن أصل إلى زقاقنا. ثم تكرر الأمر، ولست أدري من بدأ بالسّلام. أنا أم
هما. لكن علاقة ما نشأت. سلام. كلام. ثم زيارة عرفت أنهما أخوان من
الشّرقاط أتيا لإكمال الدّراسة في الموصل، الكبير حسين بعمري نفسه.
والثّاني حسن أصغر منه بسنتين. وكان ينتظره عندما ينتهي الدّوام ليأتيا
معاً إلى البيت. بعدئذ كنا نطوف بالشّوارع الحيوية في المدينة وأسواقها
نحو نصف ساعة قبل أن نرجع إلى بيوتنا.
ثم فجأة تذكرت بعد قراءتي لمقال المجلة الأمريكية، تلك الثّرثرة العابرة
التي لم يستقر في دماغي منها سوى بضع جمل تركزت حول كلمة واحدة، تذكرتها
بشكل ملح وواضح، بحيث أنني لم أنسها إلى حد الآن؟ كنا مررنا بالقرب من
"استرن بنق" في باب الطّوب، سألني: كم ديناراً يوجد في البنق؟
لماذا سألني ذلك السّؤال المحير؟ نظرت إليه مشدوها: لا أدري.
-خـمّن.
-لا أدري. ربما مئة. مائتين. ألف من يدري!
-قل ملايين.
ضحكت: لا أدري. لم أفكّر في الأمر. ولا أظن أن أحداً ممن في سننا آنذاك يفكّر فيه.
وقف ونظر في عيني: هل شاهدت فلم عصابات؟
-نعم.
-إنهم يسرقون البنوق في أمريكا. لو تيسر لي سرقة بنق فيه ملايين هنا لفعلتُ. أتفعلها؟
ابتسمتُ، لم أفكّر في الأمر، هززت رأسي نافيا: لا. ماذا أفعل بالملايين.
أنا راضٍ بحالي. لا أظن عاقلاً يتورط بسرقة بنق ويسلم على روحه.
-لماذا؟
- أنا أعجب كيف يسرق الناس؟ لا أفهم الداعي قط. لا أريد أن يسرقني أحد ولا
أريد أن أسرق أحداً، ثم أين يختبئ السارق؟ أ يوجد مكان أمين لا تصله
الشّرطة يختبئ فيه؟
قهقه حسين: يا لك من ساذج! قلت لك أن الأمريكان يسرقون البنوق.
- ليست أكثر من أفلام. قصص. خيال!
- حقيقة وليست خيالاً. اقرأ الصحف.
-لا أهتم بمثل هذا النوع من القراءة.
- أنا أهتم. أنا أعرف مخبأ مثالياً، لكني لا أستطيع سرقة بنق، هنا مستحيل.
لا تجد من يساعدك على اقتحام البنق، ولا نملك الوسائل التّي تجعلنا نصل
إلى الجبال لنختبئ هناك.
-كم تختبئ، شهر. شهرين. سنة. سنتين. بعدئذ تملّ، تسلّم نفسك.
-في خلال سنة تبرد القضية، يقلّ الاهتمام بها، أستطيع بعدئذ تغيير اسمي، زيي، هيأتي، أسافر خارج العراق. أعيش ملكاً حتى أموت.
- لن تجد المخبأ.
- كيف تعرف؟
- لا أحد يختبئ في العراق. لسنا أمريكا. قرأت الكثير من القصص البوليسية
هناك البلد كبير. أمريكا أشبه بالقارة. العراق صغير. كل ما فيه معروف. لا
يوجد مخبأ قط يتمكن الإنسان فيه أن يقضي سنة أو أكثر من دون علم أحد حتى
الجبال معروفة.
توقف، ابتسم بثقة وهو ينظر إلي، ثم أغمض عينيه كمن يقرر التوقف عن البوح،
فيما لفت نظرنا عربة خيل مسرعة فيها رجل حزين وامرأة تكفكف دمعها من تحت
البوشي "برقع وجه أسود شفاف".
- لا، الجبال غير معروفة للسلطات.
- افعلها إذن.
-لا أستطيع.
-لماذا؟
-أولاً لا أستطيع تجنيد من يساعدني في الموصل، ولا أستطيع جلب من أثق بهم من القرية إلى الموصل لأنهم أميون. وثانياً لأني أخبرتك.
ضحكت: ثق أنني لن أخبر أحداً أولاً. ولن أبتزك ثانياً.
ضحك، ضربني على كتفي: إنسَ الموضوع.
ضربت كلمة الجبال وتراً حساساً في ذاكرتي أعادت المخبأ إلى ذهني محاطاً بهالة من كلمات الشّيخ الشهدي.
حسين من الشّرقاط ولا يوجد جبال هناك سوى جبال حمرين، هذا يعني أنه يعنيها، هتفت: سمعت بذلك المخبأ في جبال حمرين.
توقف، ذعرت عيناه: قال: مستحيل. لا أحد يعرفه غيرنا. وقد نشأنا على عرف أن نحرّم ذكره لأيّ كان. فمن أفشى السّر؟
- لا أحد. إنه شيخ قريب منا. سأدلك عليه. كان زاره قبل مئة سنة تقريباً.
-أنت تخرف. أيوجد شخص تجاوز المائة؟
- نعم. رأيت اثنين منهم، هما في المحلة.
توقفت، أشرت إلى قبة جامع الشيخ محمد: سأريك إياهما. تستطيع أن تتحدث معهما.
اضطرب. لم يصدّق. ظل صامتاً مصدوماً، رفض أن يأتي معي. افترقنا، كنت أظن
أنه سيطلب مني بعدئذ أن يرى أحد الشّيخين، أو كليهما. لكنه لم يفعل. ربما
نسي. لأني أنا أيضاً نسيت الأمر برمته. رأيت حسين بعد بضع سنوات في زيي
ملازم ثانٍ مشاة. ولا أتذكر أنني تبادلت معه حديثاً طويلاً، افترقنا مرة
أخرى. اختفى من ذاكرتي كلية ولولا تلك المقالة الغريبة المترجمة عن مهمة
"الكوماندس" الأمريكان الفاشلة في منطقة جبل حمرين لما تذكرته إطلاقاً. ثم
فجأة بلغ بخيالي الشّطط فتصورت أن حسين ربيع كان أحد الضّباط الذّين
اختفوا هناك في جبل حمرين، أو ربما كان دليل الضّباط إلى ذلك المخبأ.
في سنة 2003 غزت القوات الأمريكية العراق، وأسقطت النّظام وغيرت الوجه
السّياسي لبلادنا. بعد نحو سنة أو أكثر عنّ لي أن أزور أهلي فأجرت سيارة
من عمان إلى بغداد، ولم أبقَ هناك سوى وقت تناولي الإفطار، ثم استقللت
سيارة أجرة إلى الموصل. كان السّائق موصلياً في الخمسين من عمره نحيفاً،
لكنه يبدو أكبر من عمره بنحو عشرين سنة ويلّف رأسه بيشماغ فلا تظهر سوى
عينيه، لكنه يفتحه ما إن يرى سيطرة، ويحاول أن يجيب بأدب شديد أثار عجبي
عند الاستجواب، وكانت الاستجوابات تترى، فنقاط التفتيش والسّيطرة العراقية
والأمريكية لا تنتهي، وتثير الحنق والاشمئزاز. ضبط الأعصاب في مثل هذه
المواقف يهدّ الحيل كما يقول السّائق. وعندما سألته لماذا هذه الأسئلة
المعادة المتكررة قال إنهم يتحججون علينا. أقل زلة يرمونك، أو يوقفونك
فتذهب إلى غير رجعة. كان علينا أن نتوقف تماماً عندما نرى أي قافلة عسكرية
قادمة. لأنها ربما تطلب منا التوقف. وأن لا نحاول أن نسبق أي قافلة أمامنا
وإلا قضي علينا كلنا.
توقفت السّيارة في بيجي وهي منتصف الطّريق بين بغداد والموصل، شربنا الشاي
في مقهى بدائي جداً، ثم واصلنا سفرنا وحينما مررنا بالشّرقاط رجوت السّائق
أن يقف في أقرب مقهىً على الطّريق.
المقهى متواضع جداً كمقهى بيجي. مساطب الخشب الطويلة يجف عليها التراب
والسخام، الحصائر الخفيفة متأكلة. مناضد الحديد الصغيرة قذرة. أغمضت عيني
على صوت يدق في رأسي" لا تتعب نفسك في التوصل إلى درجة تطور المنطقة في
خمسين عاماً. لا يزيد على صفر في المائة" تناولنا أنا والسّائق الشّاي
التقليدي الطّيب. كانت جبال حمرين تمتد شامخة أمامي. تلون صخورها الحادة
المائلة إلى الحمرة الأفق على مد النظر فيما تحلّق النسور بشموخ فوقها. ثم
فجأة عنّ في ذهني أن أسأل صاحب المقهى عن حسين ربيع. كان في الأربعين أصغر
مني بنحو عشرين عاماً، فحدجني بنظرة شك عميقة. عذرته لذلك فالبلد تحت
الاحتلال، وحسين ربيع ضابط. ربما قتل، وربما اعتقل، من يدري! بادرت إلى
القول حالاً لأبدد شكوكه: إني صديق له ولأخيه حسن في الثّانوية. وأنا قادم
توّاً من الخارج، وأعتبر أهله أهلي وقد جئت لهم بهدايا.
ثم أخرجت جواز سفري وفتحته على صفحة ختم حدود طريبيل الأردنية. لم ينظر
إلى الجواز قط. حدّق في والشّك ما يزال ماثلاً في نظراته، تقاطيعه، صوته:
من أين جئت؟
- من مصر.
وطفقت أقلب أوراق جواز السّفر، لأريه تأشيرة مصر، فافتر ثغره عن ابتسامة
شحيحة، قال كمن يستيقظ من نوم قرن كامل: ليس هنا. لم يبقَ أحدٌ من أهله
الأقربين هنا منذ أكثر من عشرين عاماً. هم في بغداد. السّيدية. مقابل
"العلوة". لا يمكن أن تخطئه العين.
صافحته. وضعت في يده "كارتون سجاير" إنكليزية مشهورة في العراق، فابتسم ابتسامة خجلى، دفع يدي ليرجع السّجاير لكني كنت قد ابتعدت.
لم أبقَ في الموصل سوى يوم واحد. مدينة محاصرة، يعيش المرء فيها على
أعصابه. المجندون كلهم من خارجها أو لا يتكلمون العربي، يعاملون الجميع
بعنف لا مبرر له. يقتلون لأتفه الأسباب، يعتقلون من دون ذكر أي سبب. كل
شيء يقبض القلب. أينما تسير ترى أنقاض قصف عشوائي. لا كهرباء، لا تلفون.
المياه تأتي نصف ساعة في اليوم. لا مجاري للمياه الملوثة. الأسواق خالية.
بصمة الكآبة واضحة على جميع الوجوه.
على أن الوضع في بغداد لم يكن بأفضل من الموصل بأي حال من الأحوال، كان
هناك تقصير في الخدمات منقطع النّظير يحيل الحياة إلى جحيم، فالتيار
الكهربائي ينقطع لأمد غير معلوم، وكذلك المياه، وقنوات الصرف الصحي ظلت
مغلقة فتراكمت القاذورات في الشوارع، وأخذت تفرخ أفواج الفئران والجرذان،
وأصبحت بيئة مثالية لأنتاج الحشرات والديدان، مع ما ينبعث منها من روائح
عفنة تغلف الجو بتلك الرائحة المقبضة الكريهة، توجهت نحو السّيدية ما إن
وصلت بغداد.
مقابل سوق الخضار "العلوة"، سوق عام. هناك بضعة دكاكين. أحدها لبيع
الأقمشة، محل لبيع الأدوات الصحية، بقالات متنوعة. في الزاوية مخبز. إذن
علي أن أسألهم جميعاً. ليس في اليد حيلة.
لم أتعب، وجدت الدّار. كنت أعرف المنطقة جيداً، سكنتها من قبل. ضغطت على
الزّر الكهربائي. مرّت لحظة طويلة. كان هناك باب حديدي مثبّت في سياج يحيط
الحديقة الصّغيرة، ويرتفع إلى الأعلى ليمنع رؤية من يفتح الباب الخشبي
للدار حتى يقوم هذا بفتح الباب الحديد.
قلت مع نفسي ربما تكون الكهرباء مقطوعة عن الدّار. لأطرق الباب الحديد.
لكني قبل أن أفعل ذلك فُتح الباب قليلاً جداً بحيث رأيت عيناً واحدة لشاب.
مرّت هنيهة. عذرتهم لذلك الحرص. ربما أرادوا أن يتأكدوا قبل فتح الباب.
تفهمت الأمر. حُذّّرت من الاتصال بأي ضابط سابق. ففي الجو تعصف شائعة
قاتلة لفتوى رجال دين إيرانيين تقضي بقتل ضباط الجيش العراقي السابق
جميعاً، وبخاصة من شارك في الحرب الإيرانية العراقية. بات الاغتيال أمراً
عادياً يحدث على مدار الساعة. أخيراً ظهر شاب في الخامسة والعشرين وراء
الباب الحديد المشبك. وقف بحيث يستطيع أن يختفي خلف الستارة ما إن يشك بأي
بادرة. الشاب رشيق. متوسط الطّول، عينان صفراوان. شعر كستنائي فاتح. ابتسم
ابتسامة رقيقة قال وهو ينفخ دخان سيجارة: أهلاً وسهلاً.
ابتسمت بدوري، كنت حضرّت جملة للمناسبة إذا رأيت حسين، وأخرى إن رأيت
غيره: أنا صديق حسين ربيع منذ الثّانوية. أتيت اليوم من الخارج وأحب أن
أسلّم عليه.
ثم ذكرت أسمي، امتلأ وجهه بابتسامة كبيرة، ثم رأيت طفلاً في عمر السّنتين،
يدفع الباب الداخلي الساج، ويسرع نحوه، بالرغم من هياج الشاب وصراخه مرة
بعد مرة: ادخل. لكن الطفل لم يرجع، ولم يدخل البيت، توقف. حضنه من ساقه
وهو ينظر إلي ويبتسم أيضاً. بادرت الشاب قبل أن ينطق: أ أنت ابنه؟
-نعم. لكني آسف. لن يستطيع مقابلتك الآن. إنه نائم. هلا أتيت عصراً في الخامسة. سيكون مستعداً لك؟
أحنيت رأسي: نعم. سآتي.
ثم قدمت له علبة شكولاته إنكليزية مشهورة في العراق، وعلمت أنه سيعتذر عن القبول. فقطعت عليه خط الاعتراض، أشرت للطفل: هذه له.
ضحك، وضحكت. تناولها من فوق الباب الحديد. ابتعدت. كان هناك نحو سبع
ساعات. لا أدري كيف قضيتها، تمشيت إلى بيتي الذّي بعته بأقل من عشر ثمنه
قبل نحو عشر سنوات في منطقة السيدية نفسها حينما سحبت عائلتي من العراق.
رأيته كما كان لم يصبه قصف. لم أرَ باب السّياج مفتوحاً. مررت بالقرب من
أبواب الجيران. لم أرَ أحداً أعرفه. ذهبت إلى بيت قريب زوجتي رأيت أناساً
غرباء فيه. تمشيت بالقرب من مصرف الرّافدين. كان مزدحماً جداً. أما المكتب
الأنيق لوكالة الخليج العربي فكان مصاباً بقذيفة تركته حطاماً، وكل ما فيه
أسود.
تغديت ظهراً، قرأت، نعست، أقلت، ثم توجهت إلى الموعد. رأيت حسين. وقف
أمامي يحدّق فيّ والباب الحديد بيننا. عينان حيتان. تشعان. لم يغزُ رأسه
الصّلع مثلي. شعر كثيف لكنه أشيب كله حتى حاجبيه. لم يعرفني بسرعة. نسي
ملامحي. كل شيء عني حتى اسمي. ظل ينظر في ملامحي. كدت أظن أنه سيقول لي:
لا أعرفك. ثم ابتسم بعد أن ذكرته بالثّلمي، بالبيت ذي الدّرج الطّويل.
بالغرفة الصّغيرة. باسترن بنق. آنذاك قهقه. فتح الباب الحديد. أصبحنا
وجهاً لوجه. أمسك بيدي. سحبني إلى الدّاخل. عانقني. سألته عن أخيه حسن.
عرفت أنه اغتيل قبل أشهر. ترك سبعة أولاد لكن معظمهم بالغ. متزوج. قسم
منهم كما في كل عائلة فقد وظيفته، عمله. ثم قهقه: لا بأس. لكن القطار ما
زال يسير. أشار إلى ابنه بكر: ماستر في الآثار. استشهدت أمه في اليوم
الأخير للحرب. ظننا أن الحرب انتهت، أصرّت على أن نحتفل بشواء السّمك.
بائع السّمك صديق، قالت لي لابد أنه حضّر لنا برزماً نحتفل به. كنا نعيش
وحدنا أنا وهي فقط. الأولاد في بيوت مستقلة، قلت لها سأذهب أنا. انتظري.
أحلق لحيتي. أستبدل ملابسي. قالت لي. لا تعجل. افعل ذلك على مهل. سأشتري
السّمك. أعدّه. نذهب معاً بعدئذ إلى الأولاد نجمعهم. لنحتفل. بعد ثوانٍ من
خروجها سمعنا القصف. زلزلت الأرض، هزّة أرضية عنيفة، وصوت انفجار يطبق
السّماء على الأرض. استشهد في العلوة أكثر من ستين شخصاً، بينهم نحو خمسة
وعشرين طفلاً وامرأة. قال موضحاً: حرب إبادة! يعطي المتعاونون مع أمريكا
معلومات مضللة للقوات الغازية عن أمكنة يزعمون فيها أنها للقاعدة، وعادة
ما تكون للمدنيين الأبرياء.
حدّقتُ فيه، عيناه غائمتان. تسمّرت نظراته في الأرض. بدا وكأنه خسر
باغتيال شريكة حياته ما بقي له من حياته كلها، وهو في هذا السّن. تشربت
حزنه فقد كنت وحيداً مثله. لم أنطق بأي كلمة.
ابتسم، بدا وكأنه تغلّب على أحزانه، أو كأنه لم يرد أن يحمّلها أحداً
غيره، قال بصوت خفيض: ما الرّيح التّي قذفت بك؟ لماذا؟ لابد من وجود سبب
ما. لا يمكن أن تريد أن تلقاني بعد هذه السنين الطويلة من دون سبب!
- أنت على حق. هناك سبب.
- معقول؟
- نعم. سبب معقول بالنّسبة لي. لكني لا أدري إن كنت تراه كذلك. أتذكر المخبأ الذّي تحدثت لي عنه قبل نحو نصف قرن في جبل حمرين؟
قرّب وجهه مني: ماذا عنه؟
- أريد أن أزوره.
ضحك وأخذ يضرب فخذه بقوة. ورافقه ابنه ضاحكاً ومقهقهاً. توقعت أن ابنه
يعرف عن الموضوع ما جعل ضحكته تتجاوب مع ضحكة أبيه. هدأ بعدئذ. حدّق في
عيني ابنه: اذهب معه واجلب حقيبته من الفندق. ثم نظر إليّ: ستقضي الليلة
عندنا لا في الفندق. بيتنا كبير، حتى بكر له بيته، صدف أن جاء هو وزوجته
عندي البارحة لتسليتي. وفي الفجر نتوجه أنا وأنت إلى هناك، نصل عصراً،
نقضي الليلة في الشّرقاط عند الأقرباء وفي الفجر نبكر إلى المخبأ ثم نرجع
لنصل بغداد مساءً.
لم أشعر إلا وابنه يسحبني من يدي: تفضل عمي.
هكذا من دون أخذ رأيي تمّ الأمر، وحينما جلبت حقيبتي قدّمت لبكر "كارتوني"
سجاير أجنبية ثم قلت لحسين: إن كنت تشرب فقد جلبت معي ويسكي، وأن كنت لا
تشرب فسيبقى عندي.
أشار إلى ابنه: أعطه لبكر. اجلس هنا قربي.
ضحك ابنه وهو يتسلم الوسكي مني، ثم سألني: هل تشرب الآن؟
ابتسمت: إن كان لديك عرق.
قهقه حسين: علمت ذلك. اشتريته حينما ذهب بكر ليأتي بحقيبتك. هناك مزّة جيدة أيضاً. ماذا تحبّ؟
- حيّ الله.
-بل قل رجاءً.
-جاجيك.
قهقه، وهو ينظر إلى ابنه: ألم أقل لك! إنه جيلنا.
جلست قرب حسين، كان بيننا على الكنبة مجموعة هائلة من الصّور ربما ألف صورة بحجم البطاقة البريدية.
-ما هذه الصّور؟
- إنها قصة المخبأ المستحيل. الصّور والتّماثيل الموجودة هناك. تعادل ما
موجود في العراق كله. ربما مليون تمثال ونقش وكتابة على الحيطان. إنه سجّل
الحياة في العراق في العهد البابلي، والعهود التي سبقته، ربما تستطيع أن
تقول إنه ليس سجل أحداث وتاريخ العراق حسب بل العراق نفسه، العراق كله
بقضه وقضيضه. سترى الماضي واضحاً فيه، ومن خلال الماضي سترى المستقبل، ومن
أهم ما سترى هنا كيف نشأت التوراة في بابل.
تدخل ابنه: ربما ألف نحات اشترك في نحت التماثيل والجداريات طيلة نحو ألف
سنة في الأقل. لو كنت معي هناك لأريتك اختلاف أساليب النحت وتطورها. يبدو
أن المخبأ سكن ألفي سنة أيضاً. أما لماذا خلا بعدئذ فلا أحد يدري!
أمسكت بإحدى الصّور، هتفت من دون شعور: لابد أنها