الشعريـة وتخطي الأجناس الأدبيـة
د. سميـر الخليـل
النص الشعري الحديث لم يعد نصاً
قائماً بذاته من حيث التجنيس وشأنه شأن الأجناس الأدبية الأخرى من (قصة
ورواية ومسرحية) يحمل سمات هجينة خارج خارطة التجنيس ، وهذا ما وسمته
المناهج النقدية المعاصرة بالشعرية التي تعني : "مقترحات لتوسيع المقولات
التي تسمح لنا بالقبض – في الآن نفسه – على الوحدة والتنوع في الأعمال
الأدبية" ، واتخذت الشعرية سماتها من تخطي الأجناس الأدبية ، إذ يرى
(أدونيس) أنّ واحدة من سمات الحداثة الشعرية بأننا "لا نعود نتلمس معيار
التمييز في نوعية المكتوب ، هل هو قصيدة ؟ أم قصة ؟ أم مسرحية أم رواية ، وإنما نتلمسه في درجة حضوره الإبداعي".
لقد حملت نصوص ليث فائز الأيوبي الشعرية في مجموعته (فضيحة الاسكندر المقدوني) سمات الشعرية إذ اتسمت أغلب نصوص المجموعة بتنافذ نصوص سردية وحكائية فيها ، يبدأ النص الشعري مستعرضاً حوادث ودلالات ووقائع تخص الذات العراقية في حياتها اليومية بعد عام 2003 . ومن التقنيات السردية في نصه الشعري حضور راوٍ يحرّك الأحداث ويصفها ويرسم ملامح الشخصيات ، أو يقوم بتصوير الحوادث أو الوقائع ورصدها من خلال عين الكاميرا في تسجيلها للأشياء والأحداث.
ففي نص (العشيقة النزقة) يصبح الشاعر راوياً لأحداث النص أو يمكن أن نجعل الذات الشاعرة هي الراصدة للوقائع والصور :
في الظلام .. بقيتُ كحارس مقبرة
في الحديقة .. أحرس أضرحة للدمى
كي أزيل المخاوف عن دميتي
لتنام على ساعدي وهي تهذي
ويستمر النص في تحولاته السردية لرسم أفعال وأحداث تنتهي بصورة درامية يمثلها (الراوي / الذات الشاعرة) إذ حمل النص الشعري أبعاداً في صراع (الذات / الراوي) مع أحداث وكائنات، يتمثل في مراقبة الراوي للأحداث مدوناً إياها وفق الرصد الحيادي كما في نص (فقاعات حمورابي) فالنص حكاية
ذات سمات شعرية سريالية ترصد اهتزازات الحياة العراقية بعد التغيير 2003 ،
إذ ينسف غاضباً التاريخ العراقي برموزه السياسية والثقافية المدونة في المتاحف العراقية ، فكان شاهداً على تلك الاهتزازات والخراب الثقافي :
الحجر على التل / يلعق من فرط غبطته / قدمي حمورابي
وهو يسنّ القوانين تحت سلالم / مبنى مديرية الأمن
محترساً من تصدع جدران مكتبة / تحت أصداء سرب المروحيات
وتندرج في أحداث النص دلالات الخراب للحياة بأبعادها التاريخية والثقافية
والنفسية، إذ تدمّر دمى الأطفال وتهدّم التماثيل وتحرق اللوحات وتتفشى
الأمراض وتشيع المجاعة، ليقترن كل ذلك بما آلت إليه أحداث الثورات
التاريخية التي شهدتها شعوب الارض ومنها فرنسا.
والنص يتيح أبعاداً سردية حكائية يربط بين الحاضر العراقي ومحنته الوجودية وبين التاريخ في شعاب الأرض، مما أتاح جملة وقائع وتواريخ إنسانية أثرت في أبعاد النص وبنيته الجمالية.
وتبدو السردية في أقصى مستوياتها في نص الأيوبي الشعري (عمى ألوان) وفيه يطرح حكاية سردية بعناصرها المعروفة كما أنّ شكلها الشعري يمكن تحويله إلى شكل نثري برفع توالي الأسطر الشعرية ، وكما في الشكل الآتي :
كلما صادفها على دراجته وهي عائدة من دائرتها في الظهيرة ، مثقلة
بالتنهدات والهالات المتأرجحة تحت عينيها من مرارة الأرق ، مثقلة
بالآهات والرموش الاصطناعية وتحرشات زملائها معها ، حتى
راحت تتحسس محرجة خاتم خطوبتها بشيء من الارتباك مضطرة لإخفاء
بريقه الحاد أمام عيني ساعي البريد .. !
والشكل الذي حورناه يمكن أن يدرج بوصفه نصّاً قصصياً قصيراً بكل أبعاد القصة وشخوصها وراويها وفضائها السردي ، مما يجعل من النص الشعري المعاصر نصاً جامعاً لفضاءات أنواع أدبية أخرى.
كما حمل متن (حظوظ شنيعة) الشعري تقنية سردية أخرى ممثلاً بالقصة القصيـرة جداً ، فالأحداث في تواتر مستمر تختزل به الأحداث والشخوص من دون ملامح مكانية أو زمانية محددة :
بائع
الكعك المتجول / أوقف عربته / لكي يهش الذباب / عن كنوزه المطلية بماء
الذهب / مخترقاً سوق الصاغة / وهو يرمق بريـق القـلادة المتدليـة / من عنق
الفتاة الشنيـعة / مندهشاً / كيف دسّت ما تبقى / من شطيرتها في حقيبتها دون أن / يتبعها الذباب !!
فباستطاعتنا أن نحوّر النص عبر ازالة الشكل السطري ليكون فقريا يوحي بقصة قصيرة جدا، وهو شأن جمالي طرحته النصوص الشعرية الحداثية في اعتمادها السرد معيناً تعبيرياً داخل نصوص شعرية لها شموليتها من التنوع التجنيسي.
وينضوي نص ليث الأيوبي الشعري المعنون "أرملة الامبراطور" إلى القصة القصيرة جداً ، لما فيه
من سرد استرجاعي (فالسـارد / الذات الشعرية) يلاحق جملة دلالات وأفعال
وفضاءات لها متغيراتها بعد حادث رحيل الامبراطور وما آلت إليه حياة زوجته ،
كونها لا تجيد أداء أي فعل حياتي لتدخل في غيبوبة الذكريات :
تتذكر باكية زوجها / وهو مغمى عليه على يدها
يتنفس محتضراً / والدماء تسيل على صدره
راحلاً .. بانقلاب مهين – أطاح بشاربه..
ويتأسس نص (أحدب بغداد) على تناص سردي لرواية (أحدب نوتردام) فكلا الأمرين من بغداد وفضاء (نوتردام) لها ذات الغربة الحياتية في بغداد ، فأحدب بغداد في عزلة تامة عمّا يكشف عطبه الطبيعي وهيئته الجسمية ومنها (المرايا) لكونها تظهر ما يحاول تجاوزه.
ويستدعي الشاعر ليث الأيوبي نصاً له حضوره في النثر العربي ممثلاً بالدعاء أو ما يقارب تقديم (القربان) و(النذور) في آداب العراق القديم ، إذ يقف الشاعر أمام (الشعر) داعياً إياه إلى الوثوب في وجه
من حاول إعادته إلى عمود المدح والتكسب ، متوسلاً إياه أن يذهب إلى فضاءات
الإنسان المستعبد والمقهور، يمثل (الشعر) مصدراً لتغيير ما كرسته أنظمة
الظلم والاستبداد :
أيها الشعر كن مثلما شئت / كن عسلاً يتدفق من شفتي
أو لهيب / أيها الشعر كن أنت مشنقتي / ودمي عندليب
والمحتل باحتلاله للوطن ينهض :
موقظاً بعد منتصف الليل
أطفالنا الملتحين بلا رغبة
عن وسائدهم / لمزاولة السير نحو القمامة
إنَّ نصوص
مجموعة الشاعر (ليث فائز الأيوبي) حافلة بالإحالات الواقعية والرمزية
والسريالية ، عاكساً وقائع الحياة العراقية التي تزدحم عبر تاريخها بكل
المآسي والفجائع، فكان نصّه الشعري متنافذاً بنصوص أخرى كي يستوعب الأحداث الجلل لوطنه.