ما زالت عديد المجتمعات العربية
تعيش في بؤرة واقع التخلف السياسي والاقتصادي رغم ما يعلوها من بعض مظاهر
الحداثة أو التحديث الظاهري التي يمكن مشاهدتها وملاحظتها عند زيارة بعض
البلدان، خاصة تلك التي تتوافر فيها الثروات الباطنية والموارد الطبيعية
كالنفط والغاز وغيرهما..
وتظهر مواقع التخلف المجتمعية وأنماطه في انتشار الثقافة ما قبل
الدولتية، من القبلية الدينية والسياسية، وسريان روح العشيرة في نفوس الناس
وعقولهم، واعتماد فكرة الوراثة والتوريث السياسي والاجتماعي أيضاً.. وهذه
الإشكاليات انعكست سلباً على واقع تلك المجتمعات وأدائها وحياتها، من خلال
بقائها معلقة في بؤرة التأزم المجتمعي والسياسي العملي الدائم المستمرّ،
الذي يظهر عبر تخلّف مجمل التطبيقات والإجرائيات السياسة الحاكمة وسوء
إدارة ملفات التنمية الاقتصادية القائمة، التي تعتمد فيها عقلية الرعاية
الاستهلاكية الادخارية البذخية، عوضاً عن عقلية الإنتاج والتطوير والبحث
العلمي.. وقد لاحظنا مؤخراً نماذج وأمثلة عديدة سلبية لهذا النوع من
الاقتصاد الرعوي والعقلية الرعائية البدائية، من خلال إصدار بعض حكام
بلداننا العربية
لمراسيم زيادة الرواتب ومنح الناس بعض التفضيلات والعطايا المالية، وآخر
أمثلتها إصدار الملك السعودي عبد الله- ربما تحت ضغط التهديد بحدوث توتّرات
وانتفاضات شعبية في بلده- مجموعة مراسيم ملكية (اقتصادية!!) منح من خلالها
أكثر من 100 مليار دولار (لرعيته!!) بهدف التخفيف عن واقع الناس الاقتصادي
والمعيشي.. حيث كان من الممكن ومنذ زمن طويل جلب وزيادة قدرات وإمكانات
الاقتصاد السعودي بمئات المليارات كانت كافية ربما لزيادة مداخيل ومعيشة
الناس وبناء اقتصاد إنتاجي صناعي متين، لو تمّ بناء قاعدة اقتصادية إنتاجية
على غير الصورة التي نشاهدها حالياً والقائمة على هذا النوع من التعاطي
الرعائي الرعوي مع مسائل اقتصادية حساسة تتطلب رؤى وأفكار وسلوكيات علمية
دقيقة..
وهذه الخطوة في إراحة الناس وقتياً وآنياً التي قد يشكر عليها هذا
الحاكم أو ذاك، والتي لا يمكن أن تقرأ في هذا الوقت بالذات إلا كنوع من
الخضوع المؤقت أو رشوة الشعوب لشراء سكوتها في ظل الضغوط الشعبية المتزايدة
في معظم الشوارع العربية
من المغرب إلى اليمن، ومحاولةً منه لامتصاص نقمة أبناء وأفراد المجتمع
السعودي التي تتصاعد نتيجة ما يرونه بأمّ أعينهم من ضخامة ثروات العائلة
المالكة وأملاكها، وأيضاً من أجل تخفيف توتراتهم النفسية التي تتصاعد
باستمرار خاصة في الآونة الأخيرة من خلال ما يشاهدونه من ثورات وانتفاضات
شعبية عارمة عمت وستعم مختلف أرجاء الوطن العربي الكبير..
من هنا فإنّ ما يكفل بناء المجتمع، أيّ مجتمع، وتطويره، بقطع
النظر عن بنيته ومكوّناته الذاتية والموضوعية، ليس وجود الحاكم الأعلى
الأشبه بالإله المقدس، وليس بما يهبه من عطايا وهبات وتبرعات لأفراد مجتمعه
الذين يعاملهم كمجرد رعايا لا كمواطنين محترمين لهم حقوقهم السياسية
والفكرية والاجتماعية، بل ما يكفل هذا التطوير والازدهار المجتمعي الدائم
المطلوب –القائم على ما تمتلكه مجتمعاتنا العربية
من قدرات وثروات وإمكانات هائلة منظورة وغير منظورة- هو بناء السياسة
ذاتها على وجود الإنسان الفرد الحرّ المشارك في مصائر بلده عبر صندوق
الاقتراع الحقيقي الحرّ والنزيه، والمساهم في إيصال مجالس بلدية وبرلمانية
حرة إلى مواقع السلطة الاشتراعية المسؤولة عن التشريع ومراقبة عمل السلطات
التنفيذية بفاعلية قانونية، والضامنة لحريات الناس في التعبير عن الرأي
وحرية التنظيم السياسي والاعتقاد المعرفي، وحقهم السياسي البديهي في
التداول السلمي للسلطة، وتقنين وتقييد حركة أي مسؤول في أي موقع بالاستناد
إلى القانون وخدمة الناس والمجتمع ككل..
وما يمكن أن يساهم في تطوير تلك المجتمعات، ويساعد في بناء أوطان حرة
ذات قوانين ومؤسسات ديمقراطية عادلة، تتوزع فيها الثروة بشكل متوازن بين
الناس، وتتقلص فيه مساحات الفساد السياسي والمالي إلى أدنى حدوده
ومستوياته، هو وجود جمعيات وهيئات ومنظمات المجتمع المدني والأهلي التي
تعمل كظل لهيئات وإدارات الدولة، فتقوم بمراقبة أعمالها ومشروعاتها، وتتأكد
من مصداقية تنفيذها لخططها وبرامجها التنفيذية..
إن وجود حياة سياسية حقيقية في بلداننا العربية –وهو من الأهداف التي تسعى إليها هذه الانتفاضات والثورات العربية
المشتعلة من المحيط إلى الخليج- لا يمكن أن يتحقق على الأرض ما دامت تلك
الدول تحارب كل محاولات بناء مجتمعات مدنية حقيقية ترنو للحرية والعقلانية،
والدين فيها علاقة شخصية رأسية.. على عكس ما هو قائم على الأرض حالياً حيث
أن تلك الحكومات القائمة حالياً لا تريد لأحد أن ينغص عليها سكونها
وجمودها وعطالتها وراحتها الكاملة في سنّ القوانين التي تريدها وتناسبها
وتناسب مقاسات وحجوم عملائها وشبكاتها الزبائنية ومستثمريها الجدد، ولا
تريد لأحد أن يوجه إليها سيوف النقد الموضوعي (ولو بالحدّ الأدنى) ليتحدث
عن فشلها الكبير العارم في إيصال سفينة مجتمعاتنا إلى شواطئ الأمان
والاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي الحقيقي لا المزيف…
لأن وجود هيئات وجمعيات ومجالس مدنية (أي تفعيل وتقوية المجتمع المدني
بما يساهم بشكل فاعل في تطوير بنية الدولة ذاتها) سيقيد عمل وحركة قادة هذه
الدول ومسؤوليها الكبار، وسيخضعهم لقيود الدساتير والقوانين والنظام العام
بصورة عملية دائمة، فهناك من يراقبهم ويراقب أعمالهم وتوجهاتهم من
المعارضات والمجالس والبرلمانات المنتخبة والإعلام الحر وغيرها.. إنه الرأي
العام المدني المجتمعي المؤلف من مختلف أوساط المجتمع من الطبقة الوسطى
التي تحمل هم التغيير الدائم من المتعلمين والمثقفين والباحثين والمعلمين
والمهندسين والدكاترة، فهؤلاء هم من يجب أن يكون صناع القرار المجتمعي
الحقيقي..
وقد عملت كل الحكومات العربية
القائمة –وما زالت- على مصادرة تلك الهيئات ومواجهتها وإسقاط عملها
وسلوكيتها وأهدافها.. ومع ذلك يبدو أن أمامنا فرصة تاريخية لإحداث تغيير
حقيقي في بنية تلك الحكومات والمجتمعات، وإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي
في تكريس حكم الديمقراطية والمجتمع المدني وبناء دولة القانون والمؤسسات،
الدولة الخادمة لا الدولة المستبدة.. دولة الإنسان لا دولة الإله.. الدولة
التي تعمل وتنتج وتنجح هنا وتخطئ هناك، وتتعلم من تجاربها وأخطائها، لا
الدولة التي كلها أخطاء ولكنها تدّعي العصمة عن الخطأ.. والويل والثبور لمن
يسير ولو بصورة بسيطة لأي خطأ فيها من هنا وهناك..
من هنا، فإن الأمل كبير في بناء دول عربية مدنية حديثة متطورة، والأمل
ينطلق أساساً من خلال الشباب الطامح للحياة الحرة الكريمة، والعاشق والمحب
للتغيير السلمي الديمقراطي المدني الحقيقي الذي يكرس حكم القانون وتصحيح
العلاقة بين الحاكم والمحكوم ولإقامتها على أسس الحرية والديمقراطية، وما
يستتبعها من حرية النشاط السياسي والنقابي، وحرية الرأي والاجتماع
والتعبير، وبما يعطي هؤلاء الشبّان حقوقهم الإنسانية البديهية في العمل
والإنتاج والمعرفة وإعادة توزيع الثروة وتكافؤ الفرص وتقرير المصير.. بعد
عهود طويلة من القمع والإقصاء واستباحة الحكام لهم ولآبائهم من قبلهم، وما
أدت إليه من إحداث بون شاسع وواسع بين هؤلاء الحكام وبين شعوبهم المستضعفة،
مما جعل من إمكانية تجسير هذه الهوة بينهما أمراً مستحيلاً دون اتخاذ
إجراءات جذرية حاسمة يمكن أن تكون قادرة على إقناع الناس بنفعها وقدرتها
على تحقيق بعض تطلعاتهم في الحرية والسلام المجتمعي الحقيقي.. في إقامة
الدولة الديمقراطية المدنية القائمة على وعي وإرادات الناس الأحرار لا
المستبدّ بهم..