لا
يفكِّر 'النظام' السوري، الآن، في شيء سوى كسر عظام 'شعبه' وردِّه،
خاسئاً، مهزوماً، إلى حظيرة الطاعة التي تجرأ على الخروج منها بعد خمسة
عقود من الذل والهوان والخرس القسري. لا شيء على طاولة 'الفريق الركن' سوى
خرائط البؤر المنتفضة ضد حكم العائلة. لا شيء لديه، فعلاً، سوى الاستمرار
في دفع الدبابات وقطعان الشبّيحة (يذكرنا ذلك، فقط، بقطعان المستوطنين في
فلسطين المحتلة) إلى كل بلدة، كل حيٍّ، كل زقاق ارتفعت فيه صرخة تطالب
بالحرية. لا شيء عند هذا 'النظام' سوى الرصاص. لا يعرف، في الواقع، سوى هذا
الطريق المجرَّب من قبل لإبقاء 'شعبه' تحت رحمة عشرة، خمسة عشر جهاز
مخابرات وبضع فرق مجحفلة من خواص جيشه. لا سياسة لديه في 'الداخل' غير هذه
'السياسة'، أما سياسة الخارج فليست سوى شعارات راحت تتساقط الواحد بعد
الآخر. بقاء 'النظام' هو كلُّ ما يهم 'النظام'. ليس مهماً الثمن. ليست مهمة
الكلفة. ليس مهماً ما يقول الأقربون والأبعدون. فكل شيء يهون مقابل احتفاظ
الأسد الوريث بكرسي القصر المرصَّع بعظام الضحايا وأنين المعذبين على يد
الأب والابن. كل شيء مباح في سبيل أن يخرج 'النظام' سالماً من حمام الدم
السوري الكبير، من جلجلة الأصوات التي لم يكن يحسب أن 'شعبه' يمتلكها بعد
خرس طويل. تجاربه السابقة في التملّص من المآزق. في تجنب العقاب. في عودته،
مرة أخرى، إلى 'الأسرة الدولية' تحفزه على المضي في العنف العاري حتى يرفع
الشعب الراية البيضاء ويسلّم العالم بالأمر الواقع أياً كانت مرارته. لذلك
كفَّ 'النظام' السوري عن المناورة والتستر وراء الشعارات. خلع ورقة توت
'المقاومة' و'الممانعة' وراح يلِّوح بالزلازل والانفجارات والفوضى التي
ستعم المنطقة في حال سقوطه. قالها، مرةً فأخرى، إن استقرار اسرائيل من
استقراره. أي بقاءها من بقائه. وضع يده على النقطة التي يعرف أنها توجع
الغرب وتستنفر حواسه. لا 'مقاومة' إذن؟ هناك اسرائيل. إنها الورقة الباقية
في يد 'النظام' السوري. إسرائيل، عدو 'النظام'، على الورق والشعار، هي من
سينقذ 'النظام' من 'مصيره الحزين'.
لا شيء عند 'النظام' يقدمه. على
الجميع أن يعرفوا ذلك ويصدعوا إليه مرغمين. موافقته على 'المبادرة العربية'
لم تكن سوى خدعة اقتبسها، يا للعجب، من علي عبد الله صالح. فـ 'دهقان
صنعاء' طلع أذكى من دهاقنة دمشق: يوافق على 'المبادرة الخليجية' ويستمر في
انهاك معارضيه حتى النهاية. يكذب ولا يخجل من الكذب، فالكذب، والحال، ملح
'النظام'. التركيبة العائلية والأمنية لـ 'النظامين' متشابهة، والمصائر
متشابهة كذلك، ولا غضاضة في أن يأخذ 'نظام' الأسد، ذو الشوكة الأقوى
والأعنف، عن 'نظام' صنعاء المتهالك.
لا شيء بقي عند 'طبيب العيون' الذي
رفعته العائلة، في مراسم توريث الجمهورية، الى مرتبة 'فريق ركن'، دفعة
واحدة، غير ما نراه اليوم. هذا ما عنده: استعادة درس حماة من دفاتر الأب.
فـ 'النظام' الذي يوصف بأنه بارع في اللعب على التناقضات واستثمار المساحات
الرمادية في السياسة لم يعد قادراً على ترفٍ كهذا والصرخات المدوّية
تهدِّدُ، من حناجر لا تتعب ولا تكلّ، قصر الحكم، تهدِّدُ بتقويض الأسس وليس
الأسوار فقط. من اللعب على التناقضات إلى اللعب بالدم قطع 'النظام' السوري
مسافة قصيرة. قفز، فقط، من فوق الحيط. فلم تكن المسافة الفاصلة بين الحديث
المعسول وهدير الدبابة كبيرة. حسبناها كذلك. لكنها لم تكن. إنها مجرد قفزة
قصيرة.
هكذا يتقوض الأساس الواهي للسياسة وتعـــود القـــــوة عارية من
أي شيء يستر عورتها. تختفي 'الســـــياسة' (المقصود، الحكم بتهديد القوة
الكامنة من دون استخدامها) بلمح البصر وتنتصب شرعة الغاب في أتمِّ صورها
وأجلاها. كل الذين راهنوا على سياسة عند بشار الأسد خاب ظنهم سريعاً. لا
أتحدث عن الأزلام والأبواق فهؤلاء مجرد 'شبيحة' في زيٍّ آخر، ولكنـــــي
أتحدث عن ذوي حسن الظن بطبـــــيب العـــــيون، وربما، أيضاً، أولئــــك
الذين لا يرغبون في أن تنزلق سورية إلى هوَّة الحرب الأهلية التي صارت
خياراً شمشونياً واضحاً لـ 'النظام' لهدم المعبد على الجميع.
فـ
'السياسة' (تعني هنا الاحتيال والدهاء) سهلة في أوقات القمع العادية التي
عرفتها سورية على مدار حكم العائلة ولكن لا محل لها من الإعراب في أوقات
الجمر هذه. السياسة 'السورية' الوحيدة، الممكنة الآن، هي الكذب الصريح
(الذي لم يعد يتجشَّم عناء التضليل والخداع بمقاصده) ممزوجاً بالقوة
البدائية العارية. هذا ما فعله 'النظام' عندما طلب منه العرب، متأخرين
ومتلكئين، أن يعمد الى سياسة الحوار بدلاً من حوار الدبابة.
واضح،
بالطبع، أننا حيال 'نظام' يُطلب منه ما لا يقوى عليه، بل ما لم يفكر فيه
قط. لا يستطيع 'نظام' جعل الدبابة لسانه الناطق، ودرعه الحامي أن يترجَّل
من الدبابة، ففي ذلك نهايته وهو لن يسلِّم، طائعاً، بمصير كهذا. ولا أدلَّ
على معرفة أناس الشارع السوري بـ 'نظامهم' من تلك اليافطة التي رفعها
المتظاهرون غداة موافقته 'غير المشروطة' على المبادرة العربية: كذَّاب!
لكنَّ
محنة الشعب السوري البطل الذي يخرج الى الموت المعلن كل يوم، الذي يرتدي
كفنه من أجل كلمة الحرية ومعناها لا تكمن، فقط، في 'نظام' لا يرعوي عن فعل
أي شيء في سبيل البقاء بل في معارضة مشتتة، متنابذة، غير قادرة على مكافأة
الدم الذي يسيل بقليل من الوحدة وتراصّ الصفوف. هذه هي المحنة السورية
الكبرى: شعب يواصل صعود الجلجلة بالأكفان ومعارضة تتصارع على الفتات!