زاهر الجيزاني
(1 )
ستختلط –دائما- السياسة بالأدب والفن، ولا مفر من ذلك،هذا
قدر الأدباء والفنانين والكتاب الذين واجهوا ويواجهون حزبيين يخرقون
القانون أو يتعالون عليه أو يفسرونه مثلما يشاؤون،وكل له أقداره التي
توجهه فالأديب ملزم بالابداع والموقف، والحزبي ملزم بالاستحواذ على السلطة
والمال، وهاتان آليتان تتحركان عكسيا في مجرى التاريخ ولا نعرف متى
تلتقيان، واذا كان انتاج الأديب أو الفنان والكاتب يتميز بالقيمة الفنية
العالية فهذه القيمة تضع عليه شرط الموقف الصحيح من حزبيي السلطة والمال
الذين يخرقون القانون ويتعالون عليه أو يحتكرون تفسيره.
هذه كانت مهمتي
عندما فكرت أن أكتب مقالة اسبوعية في جريدة الصباح، ولم يخطر في بالي أن
هذه الجريدة ،جريدة الحكومة بمعنى أنها تتخذ جانب الحكومة في تبرير أخطائها
والمبالغة في اطرائها من غير أن تعطي فسحة للمراقبين والمحللين والناقدين
لأداء الحكومة وفشلها ، في لحظة فاصلة يتهيأ فيها الجميع لتشييد الدولة
التي انتظرناها، بل انتظرها آباؤنا عبثا، لكن الدولة لا تأتي بالانتظار،
يجب أن ننتزعها،فهذه الجريدة، أعتقد هكذا،جريدة الدولة التي ننتظر ونسعى
اليها.
وهناك ثلاثة مسميات للسيطرة( السلطة والحكومة والدولة ) السلطة
هي قوى الامن والمال التي تقف وراء الحكومة ،وتتألف من كل التنفيذيين
الثانويين أو الصف الثاني الذي يتحكم مباشرة بالمال والسلاح والاتباع
والتغول، والاستبداد دائما يبدأ من وسط هؤلاء، ثم الحكومة الوجه الناعم
والانيق والمرئي للسلطة، ثم الدولة حيث يسود القانون وتختفي قبضة السلطة
وقبضة الحكومة وتظهر قبضة القانون حاضرة في كل زاوية من زوايا حركة
المجتمع.
أذن يسعى الكثير من المثقفين أن تتحرر وسائل الاعلام من سيطرة
الحكومة ووضعها نظريا في صف الدولة التي ننتظر، وحرية الاعلام هي الوسيلة
الوحيدة لمراقبة استبداد السلطة الخفية التي تدير المال والقوة، وقد نجح
صدام حسين عندما أحكم قبضته على الاعلام وقضى نهائيا على أية محاسبة محتملة
على ما سببه من كوارث.
لو هذه الجريدة جريدة حكومة لانتفت الحاجة
للكتابة فيها مادامت المقالة تخضع وفقا لمصالح المشرفين الشخصية، خوفا من
غضب المسؤول الاعلى،المسؤول الاعلامي يعمل في منطقة صعبة، والمسؤولية
الاعلامية لا تحتاج الى موظف يخشى على وظيفته أكثر من خشيته على حرية
التعبير وايصال الرسائل الواضحة سواء للحكومة أو الناس بأمانة، منعا
للأفعال المريبة التي تتجاوز على حقوق الناس أو الحقوق القانونية للحكومة.
ومثلما
يشن فريق كبير من المثقفين العراقيين حملة ادانة واسعة على الارهاببين
سواء كانوا تكفيريين أوبعثيين من خلال أعمدتهم الصحفية الناجحة، أيضا يجب
أن تتناول هذه الأعمدة اليومية أو الاسبوعية أداء الحكومة فشلا أو نجاحا،
يعلو نجم الاديب والفنان والكاتب ويمكث اسمه طويلا في التواريخ من خلال
ابداعه ومواقفه، وأحيانا تضفي مواقفه مسحة اجلال على انتاجه الابداعي
الضعيف.خذ شعر الزهاوي الذي يتوارى ضئيلا خلف مواقفه الساطعة فهو المدافع
الباسل عن المرأة وحقها في التعليم والعمل والتمدن ومشاركة الرجل في نهضة
البلد، وهو المدافع الذي لا يكل عن العقل مقابل الخرافة والجهل وهو المدافع
عن العلوم الحديثة مقابل علوم التعميات والظنون اكتسب اسمه وانتاجه الكثير
من السطوع، حتى ابناؤنا اليوم يعرفونه صاحب ثورة في الجحيم والسفور
والحجاب، ومؤجج معركة العقل مع قاطني الكهوف، فليس عجبا أن تنهمك مجموعة
من خيرة ادبائنا وفنانينا وكتابنا في صناعة عمود صحفي يمتلك المعلومة
الجديدة والتحليل العقلاني لمشاكلنا اليومية مع نزعةحرص واضحة على ترسيخ
هذا النظام السياسي ،الذي يعد رغم ثغراته خطوة اساسية لولادة دولة المؤسسا ت
التي نترقبها،في هذه اللحظة الفاصلة من يراقب حركة الحكومة وأخطائها
الجمة،هؤلاء في المقدمة ،الأدباء والفنانون والكتاب،ومن غير لف ومباشرة هم
سيقولون للحكومة، هذه اخطاؤك وهم أيضا سيدافعون عن الحكومة الناجحة ويصطفون
معها.
(2)
هنري آبسن كاتب مسرحي نرويجي معروف،عاش في القرن
التاسع عشر،لاتخلو مسرحية واحدة من مسرحياته من كشف عيوب أعمدة
المجتمع،التي تتألف من الحاكم ورجل الدين والتاجر والمتعلم،وعندما هبت رياح
الاصلاح والتغيير والتحديث ووصلت الى دول الثلج وقف البعض من أعمدة
المجتمع ضد اصلاح وتحديث البلد، وفي مسرحيته . he parills of society
ركائز المجتمع-
يعرض أبسن الجدل الساخن بشأن مشروع مد سكك حديد حديثة،
فالحاكم رفض المشروع لأنه سيقوض عادات وتقاليد البلدة ورجل الدين، رفض
المشروع لأنه ضد رسالة المسيح،ماالذي يفعله المثقف المتنور؟
وماهو
موقفه من تحديث البلد؟ عمد ابسن الى كشف الحياة اليومية لحاكم البلدة، وهي
حياة قائمة على الخيانة والتزوير والرشوة والبطش بالآخرين، وأن سكك حديد
حديثة ستوفر فرص عمل للعاطلين وتنمي التجارة وتقرب المسافات بين المجتمعات،
بايجاز،سينضج وعي الناس وتظهر معه المطالبات بالحقوق وهذا يثلم من سلطة
الحاكم وسلطة رجل الدين،انظر كيف صاغ هذا الفنان درسا سياسيا اجتماعيا من
عمل مسرحي أصبح أداة تحريض للمثقفين فيما بعد حين تمر بلدانهم بأزمات
مشابهة.
لم يكتب الفنان الآخر ارثر ميللر مسرحيته –البوتقة- التي أدان فيها الحقبة المكارثية و عصفت بقيم الحرية
في اميركامن 1950-1955 على يد السناتور جوزيف مكارثي، الا انطلاقا من مسرحيات هنري أبسن الأب الملهم
للمثقفين
التنويريين المحتجين على سلب الحريات وتضييع حقوق الناس،فبطل مسرحية-
البوتقة-خير بين الوشاية بصديقته أو الموت، فاختار الموت،لكن النتيجة
الصاعقة التي يعرض صياغتها ميللر تكمن في تفسير معنى اختيارالبطل الموت
بدلا من الوشاية بالآخرين ، وهم أبرياء، تقول المسرحية...انه في بلدة
صغيرة يعول كل مواطن فيها على سمعته ونظافة اسمه، وأن أي خدش أو تشويه
للأسماء يعني موتا قاسيا، لذلك يمكن بيع الروح ولكن لا يمكن بيع الاسم،هذه
المسرحية كتبها ارثر ميللر ردا على السناتور مكارثي وردا على بعض أصدقائه
من المثقفين الذي قبلوا ببيع أسمائهم مقابل ا نقاذ أرواحهم .
بعد أربعين
سنة اعتذر الممثل الذي أصبح رئيسا للولايات المتحدة الامريكية رونالد
ريغان في مذكراته،بأنه تجسس على أصدقائه الممثلين عندما كان رئيسا لنقابتهم
ورفض مسيرة الاحتجاج التي قادها ممثلو هوليوود، ردا على جو الرعب المصطنع
الذي أخل بالحريات،تلك المسيرة التأريخية التي قادها الممثل همفري بوغارت
والممثلة لورين بيكال ثم انضم اليهما غريغوري بيك، وداني كاي وجين كيلي
وجميس ستيوارت، ومثلما انهار حاكم البلدة في مسرحية هنري ابسن واعترف
بخطاياه وطلب الاعتذار من الاهالي، كذلك كان مصير مكارثي الذي قدم
للمحاكمة بتهمة التزوير والرشوة ثم انتهى مدمنا على المخدرات.
يبدو تحت
التملّي العميق أن الكتابة المبتَكرَة ليست بالضرورة ذات موضوع مبتَكر،
والجديد فنياً ليس جديدَ موضوعٍ، نستطيع أن نعدد أسماء شعراء كان لهم موضوع
أليف واحد ينوّعون عليه نتاجهم، لكنهم مع ذلك أتوا بما لا يستطيعه سواهم،
روائيون وقصاصون شُغلوا بثيمة واحدة بل استخدموا شخوصاً بأعيانهم وخلدوا
بعد أن خلّدوا هذه الثيمات وهؤلاء الشخوص.يحضرني الآن مثال ابي نؤاس،
موضوعه الخمر واللهو والطربُ، وكم من قصائده تبدأ بكلمة “اسقني” أو ما
يناظرها، وندر أن تجد قصيدة له لا يعلن فيها عن تهتكه، لكنه مع ذلك كله
جديد أبداً، غضّ ولا يكاد تكرار الموضوع لديه يعنينا من قريب أو من
بعيد.كأنما في الأمر نحو من التحدي، لسان حال الشاعر القولُ أنني بموضوعة
واحدة استطيع أن أغدو شاعراً، نحو من امتحان للخيال واختبار للعدّة اللغوية
وللقدرة على استحداث تراكيب وصياغات مبتكرة، وينجح في الامتحان بتقدير
عالٍ من يوقف هذه العدّة ويشغلها في موضوعة بعينها دون سواها.موضوعة الزهد
وتقبيح اللذات عند أبي العلاء تتكرر، هي علامته الفارقة، وهو الضدّ التامّ
لأبي نؤاس، لكنهما كلاهما يشرق شعرهما بالجميل، يشرف كلاهما على فسحة واحدة
من فسحات الذات الإنسانية، ويخاطب كلّ منهما نازعاً إنسانياً مختلفاً،
وكلاهما لا يبارى في اشتغاله.التوفير في المواضيع تقابله وفرةٌ في
التراكيب، فإذا كان أبو العلاء قد دعا الى إماطة اللثام عن الوجه القبيح
لكلّ شيء، ورأى الفساد في كل شيء وأراد لنا أن نرى الجانب الفاني في
الوجود، لكنه قال ذلك بجودٍ وكرمٍ قلّ نظيرهما، جود لغويّ ووفرة كلامية
تكشف عن كرمٍ وسعةِ عطاءٍ هما قدَرُ كلّ شاعر حقيقيّ، فإن أبا نؤاس قابل
الجود بالجود، رأى في عطاء الحياة وسيل لذاتها الذي لا ينقطع مناسبة لإخراج
كرمه الشخصيّ الشعريّ.كلما قرأت أبا نؤاس آمنتُ بأن الوجود مشتقّ من
الجود، أعرف ان هذا الاشتقاق خطأ من الناحية اللغوية، لكني أشكر الصدفة
التي جعلت الكلمتين تشتركان بذات الحروف، وأيقنتُ أن البخل والشعر لا
يجتمعان.الوجود جود، يستوي في إعلان هذه الحقيقة متهتك عبّ الحياةَ بجرعات
كبيرة كأبي نؤاس، وآخر زاهد قال بخلَ الحياة وتقتيرها بكرم لغويّ وأسلوبيّ
كبير.المواضيع قليلة لكن الشعر وفير، والحياة قصيرة لكن احتفالنا بها
مديد:ألِفَ الْمُدامَة َ، فالزَّمانُ قَصِيرُصَافٍ عَلَيْهِ، وما بِهِ
تَكْدِيرُ وَلَهُ بِدَوْرِ الكأسِ كُلَّ عَشِيّة ٍ حالان: موتٌ تارة ً،
ونُشُورُ!