- كتابة : كريس لانغ
- ترجمة : معين جعفر محمد
معين جعفر محمد، من مواليد 1954-
المسيب/محافظة بابل، وهو شاعر وناقد و أديب مترجم. بدأ النشر في مطلع
السبعينات، وله العديد من القصائد المنشورة في مجلات متخصصة. كتبَ العديد
من الدراسات النقدية التي نشرت في مجلات محلية و عربية حيث درس شعراء
عديدين. هذا فضلا عن دراسات مترجمة أخرى نشرت في مجلات متخصصة كالأقلام،
الثقافة الأجنبية. يعمل حاليا مدرسا للغة الإنكليزية في التعليم الثانوي في
الحلة.
(في جمهورية الزمالة العلمية ، لكل مواطن حق دستوري في إضاعة نفسه كليا على النحو الذي يريحه)
ديفيد هاكيت فيشر
(هناك هي ، خفة الكائن التي لا تحتمل )
ميلان كونديرا
إحدى المقاربات في تفحص ما بعد الحداثة، تضع مرتسما دقيقا للتغيرات
الحاصلة في الفلسفة أو في تأريخ الأفكار. من هذا المنظور، تُرى الحداثة
ظاهرة تشدد على عقلانية قائمة على أساس التخطيط الكوني أو المفهوم الذي
يسبغ نظاما على واقع تمكن معرفته من خلال منهج مناسب، أي: منهج علمي. كذلك
هي تشدد على إيمان تفاؤلي باستثنائية الجنس البشري و قدرته على التقدم. ومن
جهة أخرى، تؤكد ما بعد الحداثة الافتقار إلى أساس في المعرفة، إلى حالة
تجذر للفهم في اللغة و المحيط ، وكذلك إلى نبذ للفكرة القائلة بأن "
الإنسان " في مركز الكون. و بطرائق عديدة، من الممكن رؤية ما بعد الحداثة
بصفتها امتدادا للحداثة، سيما وإن أفكار الواحدة منهما متجذرة في الأخرى.
سأحاول تقديم خلاصة وجيزة لهذا الطرح، فيما يأتي.
من التنويرية إلى الوجودية : الوجود فوق الماهية
كثيرون
هم الذين يعزون ظهور الحداثة في الفلسفة إلى معالجة ديكارت لأصلية الشك.
وكان قصده ينصب في وضع المعرفة على قاعدة أساس مضمون. وابتغاء تحقيق هذا،
أبدى ارتيابه – منهجيا – من كل ما كان يشعر بأنه عارف به، واكتشف أن كل
الأشياء، تقريبا، يمكن التشكيك بها. انتهى (ديكارت) من شكه ، أو وجد قاعدة
وطيدة أقامها على الأساس الواهي لوعيه هو. كان إدراكه الذاتي الباطن هو
الشيء الوحيد الذي بات متيقنا منه. وتعد مقولته " أنا أفكر، إذن، أنا
موجود" ( I think therefore I am) هي إعلانه النهائي. وبينما كان قصده
العثور على يقين في المعرفة، غيّر ديكارت تغييرا جذريا الإبستيمولوجيا
(نظرية المعرفة – المترجم) وذلك بتقديم شكه علمي المنهج (methodological
doubt ) وهذه عملية قلما كانت تنتهي حيث كان ديكارت قد
انتهى.
ومع قلة من اتفقوا مع (ديكارت) على
تأكيده هذا، فلا أحد نجا من التأثر به. لقد بدأت ملكة تفكيره بإحداث نقلة
في الطريقة التي كان الناس يدركون الواقع و يختبرونه بها. وهكذا جاء المثال
الجدلي الحديث مستصحبا معه بحثا عن موضوعية قائمة على أسس واهية من الوعي
الفردي. يتمثل (كيركيغارد)، بحدة ملاحظة هذا الانعطاف الذاتي في وقت مبكر
عام 1843 وذلك في منشوره الموسوم : ( الذعر و الارتعاد )( Fear and
Trembling )
إذ يقول :"ما صرخ ديكارت: حريق ! وجعل الشك واجبا على كل
فرد، فقد كان ديكارت مفكرا هادئا ومستوحدا، وليس خفير شوارع جئار؛ كان
متواضعا بما يكفي للتسليم بأن منهجه كان هاما [ لشخصه فقط ] ( المعقوفتان
من عندي – كاتبة المقال )، و نشأ – إلى حد ما – عن لهوه الشخصي المبكر
بالمعرفة. ( وهكذا ليس هدفي هنا تعليم المنهج الذي ينبغي على الجميع أتباعه
من أجل الارتقاء بالبلوغ الأمثل للعقل، بل لأبين، فقط، بأية طريقة قد سعيت
لكي أبلغ عقلي أنا.. "(1).
هذا
بينما سيحاول (هيغل)، لاحقا، شمول الواقع كله في نظامه، وطبقا لكيركيغارد
كانت نوايا ديكارت أشد تواضعا بكثير إن التحول الحاصل في المنهج
الإبستيمولوجي و اليقين، لهو في صميم ما يشار إليه بصفته حداثة وما بعد
حداثة.
لقد توخى المشروع التنويري ( The Enlightenment project )
استبدال التجلي السماوي بالعقل البشري، وكان المذهب التجريبي (Empiricism )
والمنهج العلمي ينظران) بصيغة المبني للمجهول – المترجم ( وسيلتين لا
تضاهيان لإحراز بلوغ للحقيقة التي تعتبر جديرة بأن تعرف ضمن هذا المثال
الجدلي. كانت الذات الفردية الإنسانية تتخذ طور مركز. على أية حال، في عالم
ما بعد ديكارت أصبحت المعرفة تدرك بصفتها سعيا ذاتيا بازدياد مطرد، و هذه
مفارقة سيما وإن ديكارت كان يتوخى جعل المعرفة تستقر على أرضية موضوعية.
أما (لسلي نيوبيجن) فيرى الذهنية التنويرية متابعة لا هوادة فيها للمنهج
النقدي. يقول نيوبيجن: " لكن المنهج النقدي لا بد من أن يدمر نفسه في خاتمة
المطاف، فلا يمكنك انتقاد تصريح من نوع يدعي أنه الحقيقة، إلا على أساس
ادعاء آخر بالحقيقة بحيث تسلم به – إبان تلك اللحظة – دون نقد. ولكن ذلك
الادعاء بالحقيقة الذي يقوم نقدك على أساسه، تبعا لذلك، لا بد من أن ينتقد
هو أيضا "(2). وعلى الرغم من كون العقلانية باتت سائدة من زمان ديكارت
حتى زماننا نحن، فهي لم تكن بلا منتقصين منها. وتعد الحركة الرومانتيكية في
الأدبين الإنجليزي والألماني واحدة ممن حطوا من شأنها. وكرد فعل ضد جدب و
مكننة الحياة برمتها، و بضمنها الحياة الدينية ، بشهادة الربوبية ( Deism
).. فقد توخى الرومانتيكيون تأكيد الطبيعة الديناميكية للكون بالتغاير مع
النظام العقلاني البارد (3 ). وأكدت الرومانتيكية ثانية المكانة المركزية
للذات الفردية وتوخت تحرير العقل اللاواعي.
أما
الوجوديةExistentialism فتعد شكلا آخر من التمرد ضد العقلانية وتشاطر
الرومانتيكية بعدد من أوجه الشبه في هذا الصدد. يقيم (فردريك كوبلستن) هذا
الوضع تقييما بديعا إذ يقول : " توخى هيغل أسر الواقع برمته في شبكة من
مفاهيم فكره الديالكتيكي، في حين انسل الوجود فالتا من خلال عيون الشبكة "
(4 ). لقد أبدت الوجودية رد فعل ضد أي نوع من النظام الكوني أو المطلق
الأخلاقي (وضد نظام هيجل الميتافيزيقي على نحو خاص ) الذي يقف فوق الذات
الفردية. يوجز العالم النفسي الوجودي رولو مي هذا الوضع بذكاء شديد إذ
يقول:
" تعني الوجودية تمركزا على الشخص الموجود (existing person ) ،
إنها التأكيد على الكينونة البشرية وهي قيد الانبثاق ، قيد الصيرورة. تأتي
كلمة " وجود " [ existence ] من الجذر [ ex – sistere ] الذي يعني حرفيا
[to stand out , emerge ] يبرز، ينبثق.
على
صعيد تقليدي في الثقافة الغربية، باتت القاعدة أن الوجود فوقي بالتغاير مع
الماهية، ولكون الأخيرة تأكيدا على أمور من نحو: مبادئ ثابتة، حقيقة،
قوانين منطقية..الخ، فهي يفترض أن تقف فوق أي وجود معطى "(5). في أعقاب
الوجودية، يكتسب الوجود أولوية على الماهية مع التأكيد، بالدرجة الأولى،
على تحقيق الفرد لوجوده أو وجودها من خلال اختيار ما. تختبر الحقيقة بصفتها
عاطفة باطنية أو الاسترداد لكينونة تعد ضدا لمبدأ ثابت. و كما عبّر عن هذا
(كيركيغارد) ، فإن " شكا موضوعيا مسيطراً عليه بإحكام في عملية استحواذية
من عمليات الباطنية الأشد عاطفية.. هو الحقيقة، الحقيقة الأعلى التي يمكن
إحرازها بالنسبة إلى فرد موجود " (6 ). يعن لي أن أحاجج بأنه إلى المدى
الذي قد نجحت معه الوجودية في الإطاحة بالكوني أو " الماهية "، كانت
النتيجة اندثار فكرة " الحقيقة المطلقة ". على أية حال، فإن فقدان الماهية
ينتج عنه، في خاتمة المطاف، فقدان وجود محصلته " خفة الكائن التي لا تحتمل
" (7).
أي كائن لم يعد ذا معنى. ومن الطبيعي أن تفضي هذه الحالة إلى
نسبية فلسفية، وهذا ما بالغت به نظريات اللغة التي تأتي لاحقة. بهذا الصدد،
يتوصل (جينيه إدوارد فيث) إلى استنتاج صائب إذ يقول: "إن الوجودية هي
الأساس الفلسفي لما بعد الحداثة "(8).
بصفته منظِّرا أدبيا لما بعد
الحداثة، يبدي (ستانلي فيش)، هو الآخر، اعتمادا على الفكر الوجودي ومنه فكر
غادامير في كتاباته. ومع أن توكيده على ما يفعله النص بإزاء ما يعنيه ، قد
يكون مدينا، في المقام الأول، للمذهب البراغماتي، فإن فكرة كون " المعنى
واقعة " هي فكرة وجودية بالكامل. يظهِر فيش الأولوية الوجودية للوعي
الإنساني لكون هذا الأخير مأتى بروز الفرد الموجود، و ذلك بتركيزه على
الخبرة. و غالبا ما يميز المعنى بصفته خبرة متعارضة مع ماهية أو حقيقة، هي
في وضع مستقل عن القارئ الفرد. " فيما يتعلق بالإجراءات ، أود أن أحاجج بأن
فعاليات القارئ في مركز الاهتمام ، حيث لا تعتبر مفضية إلى معنى بل حاملة
معنى في ذاتها" (9). و يدلي بتصريح غير منمق بخصوص طبيعة الإنسان من طريق
مقارنة بين المقاربة الأسلوبية ( الشكلانية ) التي هي متجذرة في المذهب
التجريبي والفلسفة الوضعية [ positivism ] وبين مقاربته هو، معلنا أن
الأولى لا تستحق الجهد " لأنها تنكر على الإنسان واحدة من أشد قدراته جدارة
بالاعتبار، ألا وهي قدرته على إعطاء العالم معنى بدلا من اقتباس معنى جاهز
في حيز الوجود " (10). يشعر (فيش) ظاهريا بأن حريته الفلسفية مهددة من قبل
أولئك الذين سبقوه من شركائه في المهنة.
بيد أن من الممكن رؤية
جزء كبير من موقف فيش التنظيري بصفته رجعيا، وذلك إذ ينظر إليه بالتغاير مع
الستارة الخلفية لمسرح ما بعد الحداثة الفلسفية، التي أعني بها المشروع
التنويري بتوخيه يقينا مطلقا وموضوعية علمية. في تفكير فيش، ومعظم المفكرين
ما بعد الحداثويين، أيضا ..
تعد الموضوعية وهما أتت به التنويرية التي
غالبا ما يلام (ديكارت) عليها. وإذ يقف الوجود فوق الماهية، إذن فإن
الماهوية [ essentialism ] أو التأسيسية [ foundationalism ] كما يطيب لفيش
أن يدعوها .. تفقد استقلاليتها وتصبح معتمدة على خبرة الفرد. يدعي فيش بأن
أسلافه الشكلانيين كانوا يزعمون وجود " حقائق جديرة بالملاحظة يمكن وصفها
وتأويلها " (11 ) . و لكنه يحاجج بأن ما يعد حقيقة إنما هو مقرر في حد ذاته
بوساطة الافتراض المسبق في ذهن القائم بالتأويل وتبعا لذلك ، يوهن الإجراء
بكامله .
في مقالة نشرت في أعقاب ذلك ببضع سنين، نجد فيش (الذي لا
بد من أنه حظي بالإطراء لامتلاكه شجاعة أن يكون منطقيا ثابتا على المبدأ ،
حتى لو كان الأخير غير منطقي ) يقر بعجزه جملة و تفصيلا بشهادة من ضمنها
حجة يمكن أن تدعم موقفه، " ولكن هذه الإمكانية لإعطاء حجة هي ذاتها التي
تستنكر [ في هذه الورقة ] ....لقد قاطعت أية استعانة بأية إجراءات برهانية "
(12) . عند هذه النقطة، يتساءل المرء : ما الغرض من نشر أوراق إن لم يكن
طرح آراء ومناقشات والشيء نفسه ينسحب على سوق البراهين؟ إنه لرأي فيش أن
الموضوعية وهم؛ أما عن سوقه ادعاء بالنسبية، ففي أي حين يحاجج المرء بغية
تثبيت موقف، نجده عندئذ يراهن على ادعاء بالمعرفة، وفي أي حين يراهن المرء
على ادعاء بالمعرفة، فإن ادعاء بالموضوعية أو الحقيقة يكون محمولا ضمنيا .