توغّل في مجاهل اللاوعي الجماعي والأسطوري والخيال الهائل
كوليت مرشليان
قد يكون "الكتاب الأحمر" الذي كتبه العالم والفيلسوف والطبيب المعالج
والمحلل النفسي السويسري كارل غوستاف يونغ (1875 ـ 1961) ما بين 1913 و1930
والذي بقي مخطوطاً سرياً احتفظت به عائلة يونغ بعد رحيله في أحد المصارف
السويسرية لينشر بعد حوالى المئة عام على بداية تدوينه، كتابَ القرن الواحد
والعشرين بلا منازع.
وهو إذ صدر نهاية العام 2009 باللغتين الألمانية ـ
لغة يونغ الأم ـ والانكليزية، استقطب الآلاف لشرائه ومئات الآلاف لقراءة
بعض فصوله على الانترنت ذلك ان سعر النسخة كان في حدود مئتي يورو، وها هو
يصدر في شهر أيلول 2011 الحالي عبر العالم بالفرنسية والألمانية والاسبانية
والايطالية...
في نسخ جديدة ستحمل العنوان "الكتاب الأحمر" مع ان
عنوانه الأصلي هو "ليبر نوفوس" أو "الكتاب الجديد"، ويتزامن هذا الصدور مع
ذكرى خمسين سنة على رحيله. وكان يونغ قد أمتنع عن نشر هذا الكتاب في حياته
وهو بمثابة سيرة ذاتية وروحية له تعمّق في كتابته ووضع فيه وبجرأة لا مثيل
لها كل ما لم يدوّنه في مؤلفاته العلمية المنشورة. وكأن مضمونه العلمي
والفانتازي في آنٍ جاء ليؤكد أكثر نظرياته العلمية. وقد بدأ يونغ في تأليف
"الكتاب الأحمر" عقب خلاف علمي وفكري احتدم بينه وبين استاذه عالم النفس
سيغموند فرويد (1856 ـ 1939) مؤسس التحليل النفسي. وكان الخلاف الكبير
بينهما عبر التباين في وجهة نظر كل منهما حول نظرية العقل اللاواعي. وكان
يونغ قد نشر عام 1912 كتابه "سيكولوجية العقل اللاواعي" ما أدى الى تفجر
الخلاف بين الاثنين، واثر ذلك انفصلت "جمعية التحليل النفسي" في زوريخ التي
كان يونغ مساهماً في نشاطاتها عن الجمعية الدولية للتحليل النفسي التي كان
يترأسها فرويد.
عام 1913 بدأ يونغ كتابه السرّي الذي لم يعرف أحد من
المقربين منه أي شيء عن مضمونه وسرت شائعات كثيرة حوله في تلك المرحلة
وحاول البعض فهم ما يرمي إليه المؤلف من دون جدوى، وقد استغرقت كتابته 13
عاماً، وما تمكّنت الصحافة من ان تصل إليه يومها هو بعض العناوين العريضة
منه، وكُتب يومها بأنه "يرسم رحلة في أعماق روحه"، غير انه وبعد ان ظهر
الكتاب تبيّن بأن مادته تشكّلت من التحليل النفسي الذي قام به يونغ لأبطال
وبطلات الأساطير الى جانب تأثرها بالعقائد الدينية والنظريات الموروثة...
وكل ذلك في إطار تخيلي واسع النطاق استمده من أحلامه وأفكاره.
عالم هائل
يرسمه يونغ في الكتاب الأحمر: مقاتلون، وحوش، قلاع، حيوانات مفترسة من
الواقع أو من عالم الأسطورة مربوطة بخيوط من نسج الخيال وضعها أيضاً في
رسوم هائلة رافقت نصوصه وهي شديدة العمق في رموزها وايحاءاتها. وكان يونغ
من أكثر المهتمين بأهمية الرموز ودلالاتها وهو رسم الأطوار البدائية
للأساطير التي أقنعته بأن إبداع الرموز هو سمة أساسية من سمات البشرية.
مئة عام
و"الكتاب الأحمر" الذي سيصير بعد أيام قليلة في العديد من
مكتبات العالم، بلغات مختلفة وفي متناول أي إنسان يرغب في مطالعته، نام
أكثر من مئة عام في درج خزانة في أحد المصارف السويسرية في زوريخ بعد أن
تمنّع يونغ عن نشره، كذلك أولاده وأحفاده وذلك لأنه تضّمن كل تجربة يونغ
الفلسفية والشخصية في غوصه في مجاهل اللاوعي وعلى طريقته الخاصة جداً التي
ناقضت كل القواعد العقلية وناقضت كل القواعد العقلية وناقضت أيضاً أب
التحليل النفسي سيغموند فرويد الذي كان أستاذه وصديقه، فانفصل عنه وذهب في
دراساته الى أمكنة أخرى أبعد من التي تطرّق إليها فرويد. وإذا كانت كل
مؤلفاته ودراساته قد بحثت في هذه الموضوعات وكان أبرز هذه المؤلفات: "علم
النفس التحليلي" و"البنية النفسية عند الإنسان" و"القوى الروحية وعلم النفس
التحليلي" و"جدلية الأنا واللاوعي" و"سر الزهرة الذهبية" و"تحليل الأحلام"
و"حقيقة الروح" و"علم النفس والخيمياء"، وغيرها عشرات من الكتب، فهو وضع
في "الكتاب الأحمر" ما لم يتجرأ على طرحه في دراساته. ومنذ الفصل الأول
فيه، يتلو ما يشبه الاعترافات ويصرّح بأن الكتاب يشرح هدفه بنفسه، وفيه يرى
يونغ ان ثمة روحاً تتجاوز الوعي العقلاني عند الإنسان الذي وفي حياته على
الأرض فقد هذه الروح، وكل ما يعيشه هو مجرد بحث عنها من خلال مغامرات
متنوعة... بعض الناس يرى ان هذه الحياة الداخلية جديدة ليس فقط بالبحث انما
بالاستكشاف اليومي. وإذا كان فرويد قد اعتبر في أساس تحليله النفسي ان
اللاوعي هو خزّان الرغبات الجنسية بالدرجة الأولى وغير الجنسية بدرجات
متفاوتة وهي كلها مقموعة، فإن يونغ أضاف بأنه لا يمكن تحديد الروح
الإنسانية بالرغبات المقموعة فقط بل سعى الى إثبات ان الذات كيان روحاني
أشبه بالمحيط الكبير الذي فيه الخلاص الوحيد للإنسان وهو أطلق على هذا
الكيان تسمية "اللاوعي الجماعي" الذي يتضمن لدى كل إنسان التجارب والذكريات
التي قد تعود الى مئات السنين أو الآلاف منها وهي تظهر لدى الإنسان في
الأحلام بأشكال رمزية غير واضحة وغير مفهومة في الكثير من الأحيان.
ويونغ
مرّ شخصياً بأزمات نفسية كثيرة ابتداء من العام 1913 أي السنة التي بدأ
فيها "الكتاب الأحمر" وقد اعترف في أكثر من مقابلة بأنه يعيش مرحلة صعبة
تتسم بالارهاق والقلق وصلت الى حدّ التوهمات والهلوسات فكان يسمع أصواتاً
غريبة في نومه وخاف ان يكون قد أصيب بالجنون وتحديداً بانفصام في الشخصية
إلا انه ومن منطلق وعيه العلمي قرر مواجهة الوضع بالمنطق والشجاعة. وما
كتبه في صفحات "الكتاب الأحمر" هو بدايةً مجابهة "رعب لاوعيه" وما توصل
إليه في الفصول الأخيرة هو "تمزيق الحجاب بين الذات الأنانية والذات الحقّة
أو الروح.
ومن المتوقع ان يحقق هذا الكتاب ظاهرة عبر استكماله بعد مئة
عام ما بدأه المؤلف في كل كتبه السابقة، انما هنا نحن في حضرة يونغ
المتحرر، المتفلت والجامح والشرس والمنطلق مثل الريح في معركته الأخيرة
التي أرادها إنسانية وكونية تخرق كل الحدود المرسومة بعقلانية ومنطق. في
اللاوعي عثر يونغ على جذور الحياة النفسية في "الكتاب الأحمر" ذهب الى عمق
هذه الجذور بحرية متفلتة لا تخشى لا النقد ولا العقاب، حرية هذيانية قصوى
لم يعرف هو نفسه ربما الى أين قد تؤدي به، غير انه مضى في مغامرته تلك
واضعاً نصب عينيه حقيقة أو أمر واقع وحيد وهو انه لن ينشر هذا الكتاب،
فجاءت النتيجة رحلة متفلتة في مجاهل الروح الإنسانية. وقد كتب في الفصل
الأول: "السنوات التي شهدت كل الرؤى والأحلام الداخلية تتشكل لدي كانت
المرحلة الأهم في حياتي، وكل ما فعلته من بعد تلك المرحلة هو شرح وتفسير
تلك الرؤى والأحلام التي فاضت وضاقت بها روحي..." هذه الهلوسات التي حملت
رموزاً وصوراً فانتازية هائلة رافقت يونغ كل سنواته الاخيرة، وواجهها بأن
بدأ يكتب عنها أو يكتبها وذلك طوال 16 عاماً. ورسمها أيضاً من هنا يبدو هذا
الكتاب أقرب الى المشهدية المسرحية حيث تظهر الشخصيات الطالعة من أساطير
وأحلام لتغدو رموزاً لمفاهيم مغايرة يطلقها في سماء روحه: البطل والصحراء
والروح والساحر والأفعى والشيطان والفارس على حصانه والوحش... كلها شخصيات
أو توهمات فانتازية تؤلف المشهد المسرحي الهائل الذي يطلقه يونغ في كتابه
الأحمر الذي يجمع في آنٍ السيرة والتحليل والنفسي والتصوير الغرافيكي والنص
المسرحي لتصوير ساعات الجنون القصوى أو ساعات العبقرية القصوى في حياة
كارل غوستاف يونغ.