ترجمة: راوية صادق
ذات يوم، حدد "بودلير" الفن - في صيغة مدهشة - بأنه سحر إيمائي يحتوي
الشيء والموضوع في آن واحد، العالم الخارجي للفنان والفنان نفسه. ويلاحظ
دانييل - رويس أنه يمكن تطبيق هذه الصيغة على القصائد النثرية الصغيرة في
"سأم باريس"، مثلما على "أزهار الشر": بل ربما نجد - أيضا - في "سأم
باريس"
تأكيدا أشد على الشعور بالانصهار بالتطابق بين الشيء والموضوع: كل هذه
الأشياء - كما يقول "بودلير" - أمام مشهد يجري، تفكر من خلالي أنا، وأنا
أفكر من خلالها. هذا التشتت (أو هذا التوسع) للـ"أنا" سوف تساعد عليه أجواء
المدينة الكبرى: ففي المشهد المديني، وفي قلب الحشد المتنوع في أشكاله،
يحس الشاعر بشخصيته تتضاعف،
وهو ثمل من "المشاركة الكونية". وتصبح روحه
المنبسطة روحا جمعية تبكي، وتأمل، وتتنبأ أحيانا. وعلى نحو متبادل، فعندما
يعبر عن شخصيته الخاصة، وصداماته وشكوكه، ومتطلباته المتناقضة، فإنه يعبر
عن الروح الحديثة بكل تعقيدها، كما صاغتها الحياة المحمومة اللاهثة
والمصطنعة للعاصمة.
ويقترح "بودلير" على حبيبته - في دعوة الى السفر
(نثر)- الذهاب الى هولندا ليتحلى في "توافقها الخاص بها، " فإن أشعاره
الباريسية (ولا سيما المكتوبة نثرا) تقدم لنا مظهرين متشابهين و"متوافقين"
يلخصهما "تيبوديه" بأنهما تعرية روح في مدينة كبيرة،وتعرية روح مدينة كبيرة
وما يجب التأكيد عليه هو الأسلوب الشديد الوعي والقصدي تماما - الذي
استهدف "بودلير" تحقيقه في "سأم باريس" ؛ هو شعر العاصمة. فأرابيسك الزهور -
الذي يحيط بصولجان باخوس - لا يمكن إدراكه، في هذا الديوان،، من دون العصا
التي تسنده أريد أن أقول أن باقة القصائد هذه، ذات المظهر المتحرر
والمتنوع تلتف حول خط مستقيم، هو - هنا - قصد يدعمه شعر حديث ومديني. وفي
هذا العمل الأكثر تفردا، والأكثر قصدية - على أية حال - من أزهار الشر
(ولابد من أخذ تصريح "بودلير" بعين الحسبان يحدد المفهوم،لأبنية الديوان
فحسب بل التعبير والشكل المستخدمين أيضا. إنه القصد الحداثي الذي يجب
التأكد عليه أولا، فهو الذي سيقود استخدام النثر كأداة شكلية.
"جوال باريسي" وتأثير "سانت بوف"
"عند
تصفحي - للمرة العشرين، على الأقل لـ "جاسبار الليلي" الشهير لآلويزيوس
بوتران... واتتني فكرة محاولة شيء على مثاله، وأن أطبق على وصف الحياة
الحديثة، أو - بالأحرى - على حياة واحدة حديثة وأكثر تجريدا، النهج
-التصويري بشكل غريب - الذي استخدمه في رسم الحياة القديمة "؛ ذلك ما كتبه
"بوذلير" في إهداء Dédicace الى "أرسين هوسايي"، الذي نشر في "لا بريس La
Presse "، عام 1862- العشرين الأولى من قصائد النثر هذه. اعتراف له
دلالته: فما فعله "برتران" بالنسبة لباريس القديمة وديجون العتيقة، يريد
"بودلير" أن يفعله لباريس عصره: فشعر حديث لا يمكن أن يكون - بالفعل (وهو
ما يؤكده "بودلير" أيضا) - إلا شعرا مدينيا وصادرا مباشرة - عن مخالطة
المدن الكبرى، التي شهد القرن التاسع عشر تطورها المخيف وهو يتسارع.
منذ
عام 1846 وفي تعبيره عن نظريته في "لحداثة" - هذا الجانب الهارب والنسبي
من الجمال والمتنوع مع كل عصر - أضاف "بودلير" أن الحياة الباريسية مفعمة
بالموضوعات الشعرية والعجيبة ولكن في حوالي عام 1860 سنراه مشدودا بشكل
خاص الى العاصمة، الخزان الذي لا ينضب من الأنماط والأحلام: يكتب "لوحات
باريسية" (التي ستشكل في طبعة عام 1861 - قسما جديدا من "أزهار الشر")
ويبدأ قصائده النثرية ويخصص مقالا (في نهاية 1859 وبداية 1860) بشان "رسام
الحياة الحديثة "، "قسطنطين جيز":
عشقه ومهنته أن يعانق الحشد... إنه
معجب بالجمال الأبدي والانسجام المدهش للحياة في العواصم، انسجام مصون بفعل
العناية الالهية في خضم الحرية الانسانية. إنه يتأمل مناظر المدينة
الكبرى، مشاهد الأحجار يداعبها الضباب، أو تضربها لفحات الشمس.
و"بودلير" - مثل جيز - يريد أن يكون "المتسكع الكامل"، في مطاراته -
"الجمال العابر، الهارب، للحياة الراهنة لقد فكر - عام 1860- في أن يسمي
ديوانه الذي يضم قصائد النثر،"لطواف المنعزل" أو "الجوال الباريسي" ونحن
ندرك أن انجاز هذه القصائد كان يتطلب - في ذلك الحين، وكما سيكتب الى "سانت
- بوف" من بلجيكا في 4مايو 1865 - "إثارة غريبة، تحتاج الى عروض، الى
جمهور، وموسيقى والى مرايا عاكسة حتى". و" حمام الجمهور الشهير هذا"، الذي
يتحدث عنه في العامة،باريس وحدها هي التي يمكن أن تمنحه كل ذلك. وبعيدا عن
باريس، لن يكون لالهامه الا أن يذوي.
لن نتمكن - هنا - من ترضية تأثير
"سانت - بوف": فكيف لا نتعرف في هذا الطواف المنعزل والمتأمل على "جوزيف
ديلورم" جديد، وهو يستسلم بدوره -على البلاط الباريسي- الى "الأفكار التي
يولدها المسير"؟ وهو تقارب أشار اليه "بودلير" نفسه -على أية حال- وهو يكتب
الى "سانت -بوف"، في 15 يناير 1866، من أنه أراد تقديم "جوزيف ديلورم جديد
يسقط فكره الرابسودي على كل واقعة في تسكعه". والواقع أنه وسط الجمع
الباريسي، سيضيع المنعزل (الوارد من قصيدة / "الأشعة الصفراء الشهيرة ")
الذي كان "بودلير" يصفه بأنه "العـاشق الفاسد" التي تستجلب في مقاطعها
الأخيرة، كما يقول "أ" فيران - "موضوع الرثاء الحديث كله المتطور في ديكور
معاصر”
هكذا يمضي فكري والليل قد جاء،
انزل بين الحشد المجهول
وسرعان ما اغرقت كآبتي:
اكثر من ذراع تحتك بي، ندخل حانة ريفية،
نخرج من الملهى والعاجز المخمور
يغني بصوت مرتعش لحنا مرحا.
انها ليست غير أغان، وصخب ومشاجرات سكارى
او عشق في الهواء الطلق، وقبلات بلا حياء،
وعواطف علنية،
أعود: وفي طريقي يحثون الخطى يتقافزون
طوال الليل أسمع السكارى في شارعي يجرجرون
اقدامهم
ويصيحون
والجدير
بالملاحظة أن "سانت بوف" يحلو له الا أن يغوص فحسب، كما يعلن، في "عمق
الواقع الأكثر سوقية" أي ان يتخذ نقطة انطلاقه من الحياة الخاصة واليومية
(نعلم أنه كان يريد أن يبدع - على غرار شعراء البحيرة، ورد زورث وكولريدج -
شعرا حميما، وخاصا، أليفا، ومألوفا، على نحو ما كتب في مقدمة عزاءات
Consolations، وفي ملحوظة لـ "أفكار أغسطس" - بل أن يلح على المظاهر
الأكثر كآبة والأكثر دناءة لهذا الواقع اليومي: فأية أجواء هذه التي يرى
"جوزيف ديلورم" فيها الشارع الخارجي، مكان نزهاته الداعرة؟!
هذه الجدران
السوداء الطويلة المملة للعين. حزام كئيب للمقبرة الفسيحة التي يسمونها
مدينة كبيرة، وهذا الأسيجة غير المقفلة تماما تمكننا من الرؤية عبر الفتحات
والعشب المتسخ في بساتين الفاكهة، وهذه الممرات الحزينة الرتيبة وأشجار
الدردار الرمادية بفعل التراب - وفي الأسفل - بضع عجائز يجلسن القرفصاء مع
أطفال على حافة حفرة...
الا نجد هنا - عام (1829) رد فعل ضد أوائل
الالعاب النارية الرومانتيكية، "شوقيات Orientales " أو "أناشيد غنائية
Ballades " والتجسيد المسبق لما ستصبح عليه الحركة الواقعية ؟ ثم - في
"السهرة " نوع من الثنائية الرمزية، التي تتعارض والأفق الضاحك لهوجو،
والأفق الكئيب لصديقه - الذي يبدو وهو منعزل يملأ سهراته بهذا الهدوء
المنهك وبهذه الأحلام التافهة
ويطلق نوعا من التصريح الكئيب هنا - ولا
سيما في "ربة شعري" تعارض دال بين، "الجارية اللامعة" والـ "بيري"، أو
العذراء الاقطاعية التي تلهم شعراء آخرين، وربة الشعر المعدمة المسلولة
والمجروحة من الحياة، لسانت - بوف.
ألن تكون ربة الشعر هذه نفسها (ربة
شعر "الوجود الناقص") هي التي ستسكن "سأم باريس"، مع كل هؤلاء المنبوذين،
العجائز الفقراء، والعجائز المهرجين، والأرامل الفقيرات والشحاذين، والكلاب
الهائمة، "الذين خرجوا من الحياة يعرجـون، ومنحت - كديكور لهذه "الكوميديا
المدينية " - الحديقة العامة حيث يبحث "الصعلوك" الشعبي عن التقاط بقايا
الحفلمجانا، والحانة التي نذهب اليها لاحتساء كوب من البيرة والبيوت
الحقيرة التي تنتشر وسطها رائحـة مقليـات؟ كومبارس غريب، وديكور شاذ لشخص
متأنق ! نضال دائم ضد الصعوبات المادية ؟ فهل انتصر المحضرون والديون وبنك
"مون - دي - بيتيه" على حب "بودلير" للرفاهية والجمال الشهواني؟ أعتقد -
بالأحرى - أنه قام بجهد شديد الوعي لإدخال الواقع الأكثر ابتذالا في الشعر،
وذلك إذا جاز القول - لخلق شعر من النثري. ويمكننا - بالقطع - أن نستخلص
دلالة عميقة من المشهد الشائع.
ويكتب "بودلير" في مذكراته الخاصة:
في
بعض الحالات ما فوق الطبيعية للروح، فإن عمق الحياة يتبدى - بكامله - في
المشهد، رغم عاديته الشديدة، والذي نراه تحت عيوننا. إنه يصبح رمزا لها.
و"
سانت - بوف " نفسه، "سانت - بوف " الذي أحيانا ما تشبه أشعاره - النثرية
بشكل بشع شعر "فرانسوا كوبيه " على نحو تام، قد رأى - جيدا - أن الفنان
يحدس فيما وراء هذا العالم الظاهر بالعالم الآخر، الداخلي تماما، الذي
يجهله أغلـب الناس، وهو ما يدعونا الى أن نكتشف - فيما وراء الواقعية
السطحية للوحات المبتذلة ظاهريا- حياة أكثر غموضا وعمقا. ومع ذلك فإن موقف
"بودلير" تجاه الواقع اليومي يختلف كثيرا - في "لوحات باريسية " - عنه في
"أزهار الشر" (التي كتبت - هي أيضا، في معظمها - حوالي عام 1860- 1861)
وعنه في "سأم باريس". وتبحث القصائد المنظومة:
في التعرجات الملتوية للعواصم القديمة
حيث يتحول كل شيء حتى البشاعات، الى تعاويذ
عن
الغامض- قبل كل شيء - والمجهول، واللقاءات الغريبة، والمجازات، حتى لو
انطلق "بودلير" من معطيات سوقية أو منفرة ("الشارع المزعج" العميان
"البشعين
حقا" العجائز القصيرات، "مسخ متخلع") فذلك ليقوم بعملية
التحويل الغامضة، التي يلمح اليها في مشروعه "خاتمة Epilogue وهو يخاطب
المدينة:
لقد اعطيتني طينك فصنعت منه ذهبا
وفي "سأم باريس" يظل الطين
طينا، أسود ولزجا. ويسعى الشاعر - بقصدية تامة - الى استخدام هذه المادة
الأولية، كما هي أحيانا كي يزيد من إحساسنا - على غرار "سانت - بوف" -
بالوجود الذي يغوص في هذا الطين، ويبرر الهروب الدائم الذي يغري به عبثا
الـ "حلم" ، وأحيانا للبحث عن مؤثرات هزلية أو تهكمية - على غرار "جويا" -
بفلتات مفاجئة من الرقة، أو الغنائية: سأوحد المرعب الهزلي، بل الرقة
بالحقد، ذلك ما كتبه "بودلير" الى والدت، بصدد ديوانه. ويمثل هذه المؤثرات
الخاصة بالتناقض، ومؤثرات الرتابة، كان "بودلير" يشعر بحرية في النثر أكبر
مما في النظم. ألم يسبق وسجل - عام 1857 وهو يترجم أ. بو") أن كاتب القصة
يمتلك في حوزته تعددا في النغمات وظلال اللغة والوقع المتأمل، والتهكمية،
والسخرية، التي يتخلى عنها الشعر، والتي شأنها شأن تنافر الأصوات - هي
إهانات لفكرة الجمال الخالص ؟ وتكاد بعض القصائد الباريسية - في "سأم
باريس" - أن تكون، تقريبا أقاصيص (صانع الزجاج الرديء، موت بطولي، اللاعب
الكريم، فلنقتل الفقراء!) حيث يستخدم "بودلير" بكثرة - متأثرا في ذلك
مباشـرة، بأدجار بو - "نغمات" سبق الحديث عنها. علينا - إذن - أن نقر بأنه
يرى في قصيدة النثر شكلا أكثر حرية، أكثر "انفتاحا" من قصيدة النظم في
قبولها بتنافر الأصوات، وانقطاعات النغمة، والسخرية بشكل خاص - الا يقول عن
"سأم باريس"، في فبراير/ شباط 1866، أننا نجد فيه "كثيرا من الحرية
والتفاصيل، والتهكم"، بأكثر مما في "أزهار الشر"؟ وهنا ثمة تقنيتان
مختلفتان تماما. ولا تنحو مؤثراتهما وايحاءاتهما نحو الشعر عبر نفس الطرق،
ربما يكون "بودلير" أول من أدرك - بوضوح - الامكانيات التي يتيحها النثر
كشكل للشعر الحديث، الذي يحتفي بكل تناقضات الحياة الحديثة.
النثر، شكل لعشر "حديث"
ومن
الضروري حقا -هنا- فيما أعتقد الا نفصل "شكل" الـ "نثر"، الذي اختاره
"بودلير" عن قصده الحداثي: فمن أجل ترجمة حياة وروح بشر القرن التاسع عشر
في كل تعقيداتها. كان من الضروري استخدام شكل مرن. "مرن بشكل كاف"، وغير
مستو بما يكفي ليتوافق مع الحركات الغنائية للروح، ومع تموجات أحلام
اليقظة، وانتفاضات الوعي. ومن اللافت للنظر أن هذا النموذج عن "نثر شعري"
-كما عبر عنه "بودلير" يبدو مرتبطا لديه بـ "مخالطه المدن الكبرى"نثر بالغ
السلاسة فحسب، ومتخلص من كل ضغوط شكلية (وهو ما يميز- للوهلة الأولى -
"بودلير" عن "برتران") يمكن أن يقترن، بلا معاضلة، بنبضات الحياة، وتموجات
الاحساس في قلب مدينة كبيرة.
ولا يخطي، "بودلير" في أن يرى - هنا "شيئا
جيدا كإحساس وكتعبير. هذه الرغبة في التنويع، وفي التناقضات، تتعارض مع
مبدأ "وحدة النغمة" الذي تفرضه الجماليات القديمة. ونستطيع على أية حال -
أن نتساءل: الى أي حد لا ينسجم هذا الميل الى "الشرائح Troncons " والى
النغمات والأنواع الأدبية البالغة التنوع، مع تجزيء الشخصية، ومع تعددية
تتناقض تماما والشعور الكلاسيكي بوحدة الفرد. إثراء أم تفكيك ؟على أية حال،
فعبر رؤية مقطعية، وفي ظل مظاهر ليست تكميلية فحسب، لكنها - في الغالب -
متناقضة، سيظهر لنا المشهد الروحي للشاعر، بكل تناقضاته، سيظهـر لنا المشهد
الروحي للشاعـر، بكل تناقضاته وتنافراته، و"ابتهالاته" المضادة: وللتعبير
عن كل هذه التناقضات، كل هذه الدوامات الذهنية، يحتاج "بودلير" الى شكل
أكثر حرية من الشعر المنظوم الذي يلبي متطلبات أخرى بحركته الموزونة
والمنتظمة، والقابلة لترجمة (أو إنتاج) السكينة، والنظام والانسجام.
ولاشك أن الشعر الرومانتيكي قد "فتلك الشكل الشعري، وقد تحدثت عن الحركة
التحررية لهوجو، وقد بذل سانت - بوف - أيضا - جهودا واعية للتقريب بين
الشعر والنثر، لخلق ما أسماه "البحر السكندري العادي"، فبطله "جوزيف
ديلورم" أحيانا ما ينصح بالبحث - في الشعر - عن شكل "أقل صرامة" يمتلك
"ميزة الطبيعية والبساطة"ونعلم أخيرا أن "بودلير" قد سعى، أحيانا في "أزهار
الشر" الى كسر انتظام الايقاع، والتوصل الى اضطراب إيقاعي arythmie أو
-بالأحرى- الى ايقاع النثر، كما يكتب كاسانيي في ملاحظته عن هذه المحاولات
العجيبة – وذلك حينـما تتطلب الفكرة أو حركة الجملة ذلك: فالنبرة المألوفة
للحديث في الرحلة :
قل، ما الذي رأيتموه؟
- رأينا كواكب
وأمواجا، ورأينا رمالا أيضا،
وبرغم صدمات عديدة وكوارث غير متوقعة
فكثير ما أصابنا الملل، مثلما هنا
ومؤثر القطع المفاجئ في "هاوية":
أخشى النوم مثلما يخشون حفرة عميقة
محاولات
كهذه تظل محدودة للغاية، طالما نرفض المطالبة (مثلما سيفعل الرمزيون)
بحرية الشعر الكاملة. ويظل مؤكدا أن المجرى المنتظم للبيت الكلاسيكي لا
يتوافق واضطرابات وتعرجات الوجود الحديث، فيبدو لي من المستبعد - مثلا الا
يكون "بودلير" قد انزعج، مادام قد عرف جيدا "الأشعة الصفراء"، من عدم توافق
الشكل مع الموضوع في المقاطع الشعرية الأخيرة، ومن الارتباكات التي تقود
اليها متطلبات النظم (التورية أكثر من ذراع تحتك بي، والتعاكس "عواطف
علنية"). وعلى أية حال، فقد انزعج من عدم ملاءمة مفردات تطبق كل اكليشيهات
الشعر الكلاسيكي لوصف حياة حديثة ومدينية: وهو يكتب الى "سانت - بوف أنه
ثمة في "جوزيف ديلورم":أعواد، وربابات، وقيثارات، ويهوه أكثر من اللازم.
وهو ما يشرب القصائد الباريسية لكن هذه المفردات السامية، أليست هي -
بالتحديد - ثوب الشعر الكلاسيكي، أو - بالأحرى - سترة نيسوس" الخاصة به؟
لقد تحدث "هوجو" - وحتى "بودلير" - عن موجات وجرار في أشعارهم.
فمن
يدري؟ ربما انتاب "بودلير" الندم - أحيانا ما - على أن يجد نفسه، حسب صيغه
"رامبو" مشنوقا بالشكل القديم، وربما كان سيبحث وقتئذ - في النثر -
وبالتحديد في النثرية، أقصد عن حرية الشكل والتخلي إراديا عن المقاطع
واللازمات والتماثلات وحرية النغمة، والتعبير، والابتعاد عن كل مؤثرات
"النثر الشعري" التي سعى اليها سابقوه. محاولة أصيلة - بالقطع - وخصبة في
إمكانياتها. لكن حرية الى هذا الحد لا تعدم بعض المخاطر - وهذه المخاطر،
التي التزم "بودلير" - بالضرورة - بمواجهتها، كانت تتضاعف بمخاطر أخرى،
ترجع الى الصعوبات المادية والثقافية التي كان الشاعر يواجهها. وعلينا -
الآن - أن نحكم على "بودلير" وفقا لانجازاته.
2- الانجاز
يدهشنا
تضارب الآراء، عند بحثنا للأحكام الموجهة الى "سأم باريس"، فالبعض يعجب
ببودلير الذي -وقد رفض كل تأثير للأسلبة Stylisation أو الموسيقية - قد
نجح، برغم ذلك، بالنثر الأكثر إيجازا، والأكثر "نثرية"، قي أن "يقول الأكثر
من خلال الأقل" بل يذهبون الى حد اعتبار "التعاويذ الايمائية" أكثر فاعلية
في قصيدة النثر مما في المقطوعة المنظومة، وذلك في الحالات التي تكون فيها
المقارنه ممكنه. ولا يرى الاخرون - في "سام باريس" سوى نثر خالص، ولا
يمنحون اسم قصيدة النثر إلا لمقطوعة وحيدة هي "محاسن القمر" فبم نفسر تضارب
الأحكام الى هذا الحد؟
بطبيعة الحال، علينا أن نضع في الحسبان الأفكار
المسبقة، وأن نرى عبر أي منظار ينظر النقاد. فبالنسبة لجوستاف كان (وستتاح
لنا فرصة العودة اليه) الذي يدرك قصيدة النثر باعتبارها نوعا شكليا وفنيا
صرفا، يهيمن عليه البحث البارع عن الجناس و الايقاعات - فإن الشكل شديد
الحرية لبودلير هو شيء بلا معنى، وبالعكس، فإذا ما اعتبرنا قصيدة النثر -
مثل "بلان" - نوعا من النقيض من "النثر الشعري" والموزون، يستخدم - في
الارتقاء بنفسه – "نثرا خاما"، غير إيقاعي، فسنحيل الى البحث عن نماذج له
في "سأم باريس" لا في "الأناشيد الغنائية" لآلويزيوس بوتران. إنها خاصية
قصيدة النثر - هذا النوع المنقسم - التي تمضي في اتجاهين متعارضين، يتذبذب
بينهما الشعراء والنقاد: الاتجاه الى الانتظام، والكمال الشكلي - والاتجاه
الى الحرية، بل الى الاختلال الفوضوي - مظهران أكدت عليهما في التو.
أما
وقد فرض ذلك، فإنه يتبقى - في الأساليب التي تستخدمها قصيدة النثر سواء
ارتبطت ببعض أشكال المعمار الشفاهي، أو - على العكس - بتدميرها، فإنها يجب
أن تنحو - دائما - نحو أهداف تتخطى تلك الخاصة بالنثر الدارج، ولا تتعارض
مع الخصائص اللانفعية، والغموض، والكثافة، التي هي بعض من خصائص الشعر.
ولنعد الى "بودلير"، فهل استطاع منح نثره -البالغ التحرر عن قصد، والمفتقر
غالبا، الى كل الزخارف اللفظية أو الموسيقية – "البريق التحتي" الشهير،
الذي سيتحدث عنه "مالارميه"؟ وهذا النثر النثري أهو -أيضا- شعري؟
علينا
أيضا أن نتأمل - عن كثب - تقنية "بودلير" في ما يتعلق، من ناحية، ببنية
القصائد، و"الأرابيسك" الذي ترسمه العناصر المتنوعة، و- من ناحية أخرى -
تنوع النغمات المستخدمة وعلاقاتها مع خط الجملة، وغالبا ما يمكن توضيح هذه
الدراسة بالمقارنات سواء مع النثر أو الشعر المنظوم،وأخيرا فإنه من الضروري
مراعاة العنصر الشخصي - أقصد الفارق الذي يفصل المجموعة الأولى، القصائد
التي نشرت في "لابريس" - عام 1862 - عن القصائد التالية، المكتوبة بعناء
وبطء متزايد: في 23 يناير 1862، أحس "بودلير" "بإنذار غريب"، إذ هبت عليه
"ريح جناح الغباء" فمعطيات المشكلة - كما نرى - معقدة، بما سيجبرنا على
التخفيف من حكمنا.
أ- ارابيسك اقصائد. قصائد فنية وقصائد "رابسودية"
ما
أجاد "بودلير" قوله - عن الفنان التشكيلي، عام 1859: يمكن أن يقال أيضا عن
الشاعر: فـ "كل العالم المرئي" -أي في حالتنا الآنية، المدينة وشوارعها
وسكانها - ليس سوى مخزن لصور واشارات سيمنحها الخيال مكانا وقيمة نسبيتين،
إنه نوع من العجين، على الخيال أن يتمثله يهضمه ويشكله ولن تكون قصيدة إلا
اعتبارا من اللحظة التى يأخذ فيها الكاتب العناصر التي يتيحها الواقع و"
ينظمها بفن معين" ليصنع منها إبداعه الخاص. وموقع هذه العناصر في "ارابيسك"
القصيدة والطريقة التي تعمل بها ضمن الكل، والتي يتفاعل بها الواحد مع
الأخر، لانتاج مؤثرات الانسجام أو التناقض، وأخيرا، خضوع هذه العناصر
لـ"الفكرة المولدة" ولـ "القانون الأعلى للانسجام العام"، الذي سيمنح
القصيدة نبرتها الخاصة ووحدتها، كل هذا ذو أهمية قصوى (وهو ما لا ندركه
-دائما -بشكل كاف) في هذا الابداع لـ"عالم جديد. عالم شعري.
كيف يدرك
"بودلير" في "سأم باريس" -هذا الصياغة للعناصر التي يتيحها الواقع، والتي
تعتبر أحدى الأدوات الرئيسية التي يتمتع بها شاعر النثر ليكتب قصائد لا
نثرا - وكيف يحققها؟ هذا ما يتوجب علينا بحثه أولا.
سنرى أنه لا غنى -
هنا - عن تأمل التواريخ جيدا: فالخطأ في ذلك (والواقع انني لا أعتقد أن
أحدا قد فعل ذلك، حتى الآن) لن يمكننا من متابعة التطور الداخلي للفكر
الابداعي عند "بودلير" في الفترة من 1857 حتى 1866.
ففي عام 1899 بعث
"بودلير" الى "دنوييه" - من أجل ديوان "فونتنبلو Fontainebleau" المشترك -
بأولى قصيدتيه النثريتين: "غسق المساء" و"العزلـه" بالاضافه الى قصيدتي
"غسق" من "أزهار الشر"، معلنا عدم قدرته على الكتابة - في شعر منظوم – "عن
الطبيعة (...) عن الغابات، عن أشجار البلوط الكبيرة، عن العشب، وعن
الحشرات، ويضيف:
في أعماق الغابة، وأنا محبوس في هذه القباب الشبيهة
بقباب الكنائس والكاتدرائيات، أفكر في مدننا المدهشة، والموسيقى الاعجازية
التي تدور حول القمم تبدو لي ترجمة للنواح البشري.
لكن، في عام 1857،
عندما فكر - حقا - في كتابة ديوان من قصائد النثر، وفكر في تسميته (ربما
تحت تأثير "جاسبار الليلي"؟) بـ "قصائد ليلية" ، لم تكن غديته استغلال هذه
القريحة في الشعر "المديني"، بقدر ما استهدف كتابة عمل نثري نظير لـ "ازهار
الشر".اربع قصائد - عام 1857(من خمس) تستعيد - في الواقع - موضوعات
متماثلة (في "أي مكان خارج العالم Anywhere out of the world ، نجد موضوع
"الرحلة" وفي "المشروعات"،نجد موضوع "البوم"، كموضوعين يختلطان بالايحاء
الغرائبي الموجود في "البعيد عن هنا")، أو متطابقة ("ازدوجت" قصيدة نصف كرة
في خصلة شعر بقصيدة "خصلة الشعر" وقصيدة "الدعوة الى السفر(ازدوجت بقصيدة
تحمل نفس العنوان في "أزهار الشر") ففي قصائد عام 1857 هذه وفيها فقط -
تقريبا يبدو أن "بودلير" كان يبحث، تحت تأثير "ألويزيوس بوتران" بلا شك، عن
تماثلات شكلية، ومؤثرات اللوازم أو التكرارات الصوتية، التي تفرض على
القصيدة - مثلما يفعل المقطع الشعري وبيت الشعر- معمارا معدا سلفا. وفي "أي
مكان خارج العالم"، ثمة لعبة اقتراح ورفض تبادلية، مع تصاعد لقلق يؤدي الى
نتيجة مفاجئة، وفي "نصف كرة ثمة مؤثر الانتظام المستمد من التكرار، في
مقدمة كل مقطع لكمات شعرك أو "خصلة شعرك" وفي "الدعوة الى السفر"، عدة
استعادات لتعبير (بلد النعيم.. بلد النعيم الحقيقي. بلد النعيم الحقيقي،
أقول لك)، وفي الختام تجميع لكل الموضوعات المثارة، التي تلتحم لتكون
بورتريها مماثلا للمرأة المحبوبة (فالكمات: "إنه أنت.. نحوك أنت. تستعاد
ثلاث مرات، في هذا المقطع الأخير) وعلينا أن نضيف أن السجع والمحارفة،
اللذين رصد "كريبيه و"بلان" تكرارهما في نصف كرة في "خصلة شعر" يخلقان
إيقاعا صوتيا شبيها بما تحدثه القافية: Un charmant réve plein de
voilures et de matures.. ou l’atmosphere est parfumee par les fruits,
par les feuille
(حلم ساحر مليء بالأشرعة والصواري.. حيث الجو ممطر
بالفواكه والأوراق) واذا ما لاحظنا الى أي حد يحرص "بودلير" على وحدة
المناخ ويتجنب كل تنافر صادم، حتى خلال سعيه الى بعض المؤثرات التصويرية،
فإننا نميل الى أن نستخلص أن هذه القصائد هي أكثر قصائد الديوان وضوحا
ووعيا من ناحية الاعداد الفني. ولنضم اليها - إن شئنا – "دوروتيه
الجميلة"،وهي قصيدة فكر "بودلير" - طويلا - في منحها الشكل المنظوم
و"التعداد الغنائي" لـ"محاسن القمر"، بتكرارها الواسع للتموجات - من خلال
حركتها المزدوجة المتماثلة، التي تشعر الروح بالتوازي الذي تخضع له مصائر
العشاق "غريبي الأطوار"، وسنتوصل الى الجانب التناغمي و"الفني" لفن
"بودلير"، كشاعر نثر، عندما سيجتهد لخلق عالم كل ما فيا ليس سوى:
نظام جمال
رفاهية وسكينة ونشوة
لكن
بدءا من 1861، سوف يسيطر الالهام الباريسي على شعر "بودلير": فيعطي مجلة
"لاروفي فانتازيست" ثلاث قصائد باريسية: "العامة" و"الأرامل" و" المهرج
العجوز" (والأخيرتان - وهو أمر دال - كانتا محل تقـدير خاص من "سانت –
بوف"، وقد ألف "بودلير" أربع عشرة قصيدة أخرى، ستنشرها "لابريس في اغسطس
اب وسبتمبر / ايلول 1862.
عندئذ، أحس "بودلير" بكل الصعوبات الملازمة
لمفهومه الواقعي والـ "رابسودي" لقصيدة النثر فإذا ما أردنا أن نعرض لجوال
يسقط فكره على كل واقعة في تسكعه، فإنا سننكر من نفسه المنطلق أي تكوين وأي
إعداد فني: وكي نستعيد التمييز الذي أجراه "بودلير" في صالون 1859، فلم
يعد الأمر يتعلق - عندئذ – "خيال خلاق"، لكن بـ "فانتازيا"، بـ"مصادفة" إن
شئنا، هذه المصادفة التي اعتبرها "بودلير" قبل "مالارميه" - متعارضة مع
العمل الفني. وسنرى "بودلير" في قصائد عام 1862 هذه - موزعا بين الرغبة في
الاستسلام الى مصادفات التسكع (بالخضوع الى العالم الخارجي، الى الشيء)
والرغبة في تنظيم قصيدته في شكل فني: إنه الصراع دائما، "الازدواجية بين
الفنان وموضوعه بين الفكر والمادة.
وسواء ما إذا كان "بودلير" قد أحس
بضرورة التركيز والوحدة المتطابقين مع المفهوم الجمالي الأعلى لـ"بو" لا
يجب أن تتسرب - في التكوين كله - كلمة واحدة، بلا قصد لا تنحو بصورة مباشرة
أو غير مباشرة - الى انجاز مخطط تم التفكير فيه مسبقاواذا ما كانت لديه -
من ناحية أخرى - أفكار دقيقة الى حد ما، حول بنية قصيدة النثر، فلدينا
الدليل على ذلك في التعديلات التي أدخلها على نص نثري كتبه عام 1853- هو
"أخلاقيات اللعبة" - ليجعل منه، عام 1862، إحدى "قصائده النثرية" العشرين،
ويتناول نص عام 1835 تطور الاختلافات بين أنواع اللعب: "الاختراعات الصغيرة
الأرضية"، و " اللعبة الحية"،و "اللعبة العلمية"،الخ. وعلى سبيل التوضيح،
يدرج "بودلير" هذا "الشيء المرئي" خلال الاحصاء:
وبصدد لعبة الفقير، فقد رأيت شيئا أبسط، بكثير لكنه أكثر كآبة من اللعبة التي يبلغ ثمنها مليما - إنها اللعبة الحية.
وفي قصيدة النثر، يستخدم "بودلير" - كمقدمة - ما قاله عن "الاختراعات
الصغيرة الأرضية"، لكنه يكثف ويحذف التحديدات التقنية الزائدة، والتأملات
ذات اللهجة الأخلاقية الخالصة، ثم يدخل - من دون تمهيد - في صلب الموضوع.
فكيف
سيرفع من شأن هذه الطرفة الى مستوى القصيدة ؟ أولا بأن يمنحها مغزى
مختلفا: فسوف يشدد على الرمز، وذلك بتطوير فكرة النص الأول عن "أسوار
الحديد الرمزية" وسيكشف الطفلان - الغني والفقير - كل منهما للآخر عن
ألعابهما، "عبر هذه الأسرار الرمزية، التي تفصل بين عالمين، الشارع الرئيس
والقصر"، ويجد "بودلير" - في الختام - خيطا موفقا يوسع من الطرفة ويمنحها
ملمحا روحيا:
وأخذ الطفلان يتبادلان الابتسام في أخوة، بأسنان ذات بياض
متساو. هو الخيط الختامي الذي يعتبر - لحما يقول "جـ. كربيه" – "الضوء
الأكبر لهذه اللوحة العذبة"، أعده "بودلير" بملاحظة كعب - في أرابيسك
القصيدة - دور الوسيط ونقطة التحول: لم يعد الفقير الصغير يوصف - (كما في
المقال النثري – كـ "أحد هؤلاء الصبية الذين يشق المخاط عليهم - ببطء -
طريقا بين الوسخ والتراب"، لكن على نحو أكثر مثالية، باعتباره أحد الصبية
المنبوذين، الذي ستكشف العين المنصفة مواطن الجمال فيه، إذا ما نظفته من
أوكسيد البؤس الناتئ والمنفر، مثل عين العالم التي تتخيل لوحة مثالية تحت
الطلاء اللامع لصانع المركبات".
وفي المقام الثاني، فهذا النص -الذي لم
يشكل في صورته الأولية إلا مقطعا واحدا وجزءا من كل أوسع -قد اقتطعه
"بودلير" ونظمه في ثماني فقرات: ونستطيع أن نستخلص من ذلك أنه يضع نفسه ضمن
مدرسة "برتران"، فيعتبر التقسيم الى مقاطع من خصائص قصيدة النثر، أليس
المقطع:le couplet – هنا - هو المرادف لـ "المقطع الشعري la strophe "في
الشعر المنظوم؟ وعلى أية حال، فهذا التقسيم يسمح له بتهوية قصيدته، وبأن
يفصل العناصر بوقفات إيمائية، فيبرز الخيط الأخير - على ايجازه - بطريقة
أكثر تأثيرا أيضا.
ونستطيع - على النحو ذاته - أن ندرس بنية "الغريب" و"
لكل خرافته" و "الغرفة المزدوجة" (كيلا نذكر سوى أكثر قصائد "بودلير"
نجاحا، بما لا يمكن إنكاره)، لنصل الى نتيجة مفادها أن الانجاز في هذه
الأعمال - الرمزية أو الغنائية - متحقق على مستوى القصد، وهو - هنا - قصد
شعري وخلاق، على نحو صريح. ولنكتف بالنظر - عن كثب أكثر - الى "صلاة اعتراف
الفنان" - وهي إحدى القصائد التي تسهم في خلق "غنائية حديثة" تجعلنا نشعر
بتمردات وطموحات واحباطات روح حديثة من نمط "بودلير" نفسه. ولن نجد مثالا
أفضل منها على "سحر إيمائي" ينطوي - حسب تعبير "بودلير" - على "الموضوع
والشيء"، على الأرابيسك المزدوج للعناصر المادية: اللازوردي، والبحر
بأمواجه، والشراع البعيد، وعناصر روحية تتجاوب معهم، لتشكل لوحة قوية
البنيان حيث لا شيء مجاني: فاللازوردي يتجاوب مع انطباع باللانهائي
وبالروحانية (العفة والشفافية) ومع البحر انطباع بالجمال الثابت وغير
المحسوس، ومع الشراع المرتعش في الأفق شعور بالضعف والعزلة، يتجاوب مع
الوجود العضال للشاعر ويقوده الى صرخة رعب امام الاتساع الرهيب للمشهد،
وعجزه عن ترجمته. ولفهم الطريقة التي تعمل بها العناصر المختلفة - من
الناحية الجمالية - فلنفكر في الدور الوسيط الذي يلعبه هذا الشراع الصغير،
وهو العنصر الانساني الوحيد في المشهد، الذي يصنع بشكل ما الانتقالة بين
المشهد والانسان.
وعلى العموم، فالبناء أكثر تركيبية - في هذه القصائد
التي نعثر فيها على موضوعات "بودلير" الغنائية الكبرى - والعلاقات
المعمارية مدروسة بشكل أفضل، وقانون الانسجام العام تمت مراعاته أكثر. وفي
المقابل، فإن نقص الوحدة الفنية فاضح - غالبا - في القصائد الباريسية، وذلك
بسبب نزعتها "الرابسودية" نفسها.
ولنأخذ - على سبيل المثال - قصيدة
"الأرامل": لقد أحس "بودلير" نفسه - بمساويه هذه الصفات الملفقة الواحدة في
الأخرى، التي اجتهد لخلق وحدة لها -رغم أنها مصطنعة - من خلال
الجملة/المفصل: "من هي الأرملة الأكثر حزنا والأكثر إثارة للحزن، تلك التي
تجرجر في يدها طفلا لا تستطيع أن تقتسم معه أحلام اليقظة، أم تلك الوحيدة
تماما؟ " (في "العجائز القصيرات" من أزهار الشر" - لا يطور "بودلير" غير
نموذج واحد). لكن الاستطرادات في القصيدة ذاتها - تلعب، في ما يتعلق بالحفل
الموسيقي، دور فاتح شهية حقيقي، وأخشي أن يكون "بسانت – بوف" - بشعره
المتراخي الذي يتبع مصادفات النزهة أو المحادثة (انظر -من بينها - محادثة
الحفل الراقص قد أصبح أستاذا خطرا على "بودلير".
والخطر - بالنسبة
للباقي- يحس به "بودلير" جيدا: فهو يجتهد - على سبيل المثال - في "المهرج
العجوز"، ليؤلف وينظم لوحة العيد السوقي، فيصنع تقابلا يتخذ شكل تعارض حاد -
بين الجانب المضيء، الصاخب (انفجار جنوني للحيوية)، والجانب المظلم
والكئيب، ذلك الركن الذي يقف فيه المهرج صامتا وساكنا "تناقض بين المظاهر
الخارجية والنزعات الأخلاقية في آن. وهو يجتهد - أيضا - للارتقاء بالوصف من
خلال الرمز الختامي، الذي برغمه (وربما بسببه) تظل القصيدة كلها - فيما
يبدو لي - في منتصف الطريق بين النثر والشعر، فالمستوى الحكائي والمستوى
المجازي متجاوران، وليسا ممتزجين (انظروا على النقيض - التداخل البارع، في
قصيدة "البجعة" من "أزهار القسر"، للوحة "الحداثية" والرمز).
لكن هناك
-أيضا - ما هو أكثر خطورة ويكمن فيما يمكن تسميته "المرحلة الثالثة" من
تأليف "سأم باريس" (بعد نشر العشرين قصيدة الأولى، وحتى موت الشاعر) وسيهدد
خطر جديد الوحدة الداخلية للقصائد وتوازنها: هو الرغبة - التي لم يستطع
"بودلير" مقاومتها - في ترميمها بعد فوات الأوان، وفي استعادتها في اتجاه
شواغله اللحظية. وأحيانا ما كان يتم تصحيح النص بعد عدة أعوام فاصلة: كيف
يمكن - إذن - للقصيدة أن تحافظ على الوحدة، على كلية التأثير" التي كان
"بودلير" يعتبرها ضرورية - مع ذلك - للعمل الفني: ولا شك أن الفقرات الثلاث
التي تختتم - اعتبارا من 1864- "غسق المساء"،لا ينقصها الجمال، في تدفقها
الغنائي، لكن "بودلير" - عندما أضافها الى النص الأولى، الحكائي الخالص،
والمفترض أن ينشر في ديوان "فونتانبلو Fontainebleau" كيف لم يشعر أنه يطعم
قصيدة أخرى بالأولى، مختلفة في الخصائص والالهام ؟ وتعديل قصيدة "مشروعات"
أكثر غرابة - وأكثر إزعاجا -أيضا ففي عام 1864، كان ذهن "بودلير" موجها
نحو مشروعه في شعر "تسكعي" و"رابسودي" كان يريد أن يعرض لشخص جوال، تتشبث
أحلام يقظته كما سيكتب الى "سانت – بوف" - بكل واقعه في تجواله، يتعلق
الأمر - هنا - بحديقة يتم عبورها أو بخاتم يرى في "محل لبيع أعمال
الزنكوغراف" او فندق نقابله "خلال المسير في شارع رئيسي: "كل هذا الديكور
المتكلف -الى حد ما - لم يكن له وجود عام 1857، ولا حتى عام 1866: فعبر
المشهد الداخلي الوحيد - فحسب - تجول خيال الشاعر، والأخطر أن الخاتمة
شديدة الاختلاف: فهي أكثر عادية، وأقل "بودليرية".
1857
الحلم !
الحلم ! دائما الحلم الملعون ! إنه يقتل الفعل ويأكل الزمن ! - إن الأحلام
تخفف من لحظة الحيوان المفترس الذي يضطرب فينا، إنه سم مسكن يغذيه. أين
يمكن العثور -إذن – على كأس عميقة بما يكفي، وسم كثيف بما يكفي للقضاء على
الحيوان؟
1864
حصلت اليوم، في الحلم، على ثلاثة بيوت، حيث وجدت لذة
متساوية. لماذا أجبر جسدي على تغيير المكان طالما روحي تسافر بهذه الخفة ؟
وما الجدوى من تنفيذ أية مشروعات، ما دام المشروع - في ذاته -هو متعة كافية
؟
هذه التحولات في اتجاه السطحية تشوه ضمن ما تشوه أيضا كثيرا من قصائد
المرحلة الأخيرة: لهاث، ونضوب في الخيال الخلاق (وعبثا سيسعى "بودلير"
لانجاز مؤلفه "الكتاب الملعون") وهو نوع من التورط ايضا في النثريه، الذي
حكم مفهوم ديوانه نفسه على "بودلير" بأن يواجهه باستمرار ونشعر أن "بودلير"
في أخر سنوات حياته لم يعد يمتلك القوة الخلاقة الضرورية كي يفرض على
عادته نسقا فنيا، فيقتصر على "نسخ القاموس".