ماجد الحسن
عادة ما يوصف (الحلم) بأنه معطى (لا مرئي) وهو خزين ترميزي لمعطيات
متعينة، والتي يستثيرها الشعر وفقاً لحقائقها المدركة كواقعة لها امتدادات
في عالمه، إن القاعدة التكوينية للشعر تمارس وظائفها على أنها إمساك
المدلولات المغيبة في مجاهيل الرؤيا الإنسانية، وما الحلم إلا تكريس
لجوهرانية هذه الرؤية في جدلية تظهر ما لا يمكن تعيينه؛ لذلك تبين لنا أن
هناك حقائق مدركة ومعطيات لا مرئية، وأن اقتران الشعر بهما، هو تحقيق
لوجوده لأنه يتصف بوعي ترافقه رؤية حلمية.
وبواسطة الارتداد (الحلمي)
نمسك بالرؤية الشعرية، على اعتبار أن اللامرئي يبدو حقيقياً حين ندركه، وأن
الحركة التأملية هي إقرار بوجودية اللامرئي، والتي ينبثق الشعر منها
لاستعادة وعيه والعودة إلى الذات " لأن هناك ساعات في حياة الشاعر حيث
التأملات الشاردة تستوعب الواقع نفسه (الواقع بمعنى الحقيقة)، وكل ما يدركه
هو مستوعب، فيتم ابتلاع العالم الواقع بالعالم التخييلي " (1) فإن التأمل
هو الذي يجعل اللامرئي ممكناً لأنه إنجذاب إلى داخل الذات الشاعرة التي
بواسطتها يمكن استبصار الوجود، وهو بلوغ تأملي للأشياء.
إن اللحظة التي
يدرك (الحلم) فيها، هي ذات اللحظة التي ندرك بها العالم المتعين، وليس
هناك تعارض بينهما، فكلاهما واقعة تفصح عن كينونة الأشياء انطلاقاً من
تساؤل عن العمق الترميزي فيهما، فالحلم سيجد لحظته المفارقة كاتساع مطلق في
وعي الذات له، وهذا الاتساع هو الصورة المضادة للواقع والتي تجعله حين ذاك
ذا فاعلية في التوتر الشعري وسموه والنهوض بالفعاليات الجوانية للشاعر؛
إذن هو استنهاض واستنطاق لجميع تلك الفعاليات التي لا تحقق وجودها إلا في
ضوء ملاحقة اللامرئي لها.
إن فرضية الإحساس بالحلم تُبقي المعنى الشعري
محلقاً ومتعدد القراءات، ولا بد لهذا الإحساس هو مرور الأشياء مُدرِكة
المعنى إلى رؤية تتعدد فيها المعاني؛ لكون الأشياء هي كينونات منغلقة على
ذاتها، ولكنها في حدود المعطيات اللامرئية تصبح منفتحة إلى ما لا نهاية من
الإحتمالات والتصورات، فالواقعة الحلمية لا تتقيد بأحادية المعنى والتصور؛
بل تندفع إلى الجذور المغيبة لتفتح أفقاً من الترميزات الهائلة، قد ينفتح
الحلم لدرجة أنه يستبعد جميع الأشياء ويفجر مكامنها، فهو تخط إلى ما وراء
الأشياء لينتهك حدودها ويكشف عن المسكوت عنه لتنساب العوالم فيه كاشفة عن
كل مكوناتها؛ ولذلك يبقى الحلم في الرؤية الشعرية بأنه لا يختلط في لحظتها،
وإنما يستجمع الأزمان كلها بلا قصدية سابقة، ويبقى العمق الشعري ينبثق من
هذه اللحظة التي يحتدم فيها الواقعان المتعين واللامرئي، وكأنه احتدام بين
الوجود وعدمه، وهكذا يبقى جوهر الحلم هو فوق العالم المحسوس والبحث عما
وراءه.
اعتقد إن التعينات الشعرية للوقائع تبقى مجرد تصورات سطحية إذا
ما أكتشف فضاء اللامرئي فيها؛ لأنه سيفتح أفق التصورات المفارقة وسنزداد
قناعة إذا ما أدركنا أن اللامرئي إستبصار وكشف عن ما تخبئه الوقائع " لأنه
في الداخل بالمعنى حيث يكون الداخل حاوياً بصورة مضاعفة للداخل المحسوس
الخارجي، أنه إلى جانب محسوس في كل مكان حيث لا يوجد العالم " (2) فعن
طريقه تمر الذات إلى حقيقتها، فهو وجهها الآخر بسموها وإخفاقاتها، إنه لا
ينفي الذات، بل ينفي توقعاتها وممكناتها، وهو لم يكن صورة سطحية لها، بل
أعماقها وتخطي المحسوس فيها، لأن الذات محتملة والحلم حضور خارج هذا
الاحتمال، أنه معاينة متغيرة دائماً تتلمس وجودها في اللامألوف وليس
التحديد من افتراضاته، لأن في التحديد اجتراح قوانين تسير المعنى وتحد من
دلالاته.
لم يخطىء الشعر حين جعل من اللامرئي الغياب الكلي والحضور
الكلي للواقع، فالحضور يستدعي الواقع والغياب هو المعادلة التي تفتت
علاقاته وعلائقه . وأن اللامرئي هو الأطروحة الأكثر فعالية في الشعر لأنه
إضافة منتجة في تفكيك الظواهر وسبر أغوارها، والكشف عن دواخلها، والشعر هو
فيض من تلك الفاعلية التي تستمد عن طريقها توهجه وحريته، لأن من المؤكد أن
الواقع المتعين هو قيد الشعر وسجنه، وأن اكتساب حريته هو بتهشيم اللامرئي
لهذا القيد.
إن اللامرئي لا يفرض تصوراته على الأشياء، وإنما يخلخل
قوانينها، وبهذا الاتجاه ينصرف الشعر لاقتحامها والكشف عن نزوعها، فهو لا
يضع الحقائق بصورتها المعقولة، بل تتقاطع في رؤيته لها بنزوع ما ورائي .أن
الشعر إذا ما تعين عليه استدراج اللامرئي أن يتخطى كل الأشياء إلى معنى
أوسع يحطم فيه جميع المدركات؛ لأنه احساس من داخل الشيء في رؤية تنزع إلى
التحليق . فالشعر الحقيقة العليا التي تتوقف عندها جميع الحقائق وهو
(هيولى) التراكمات الإنسانية به حلَّ الإنسان قلقه (الميتافيزيقي)، لا ينفع
أن تكسو تمثلاته ألفاظاً لأنه مقترن بحرية الخلق، إنه غياب لحضور معلن في
(كينوناتنا)، فهو لم يكن لحظة خاطفة، بل هو الوجود كله في تضاده وتشابكه،
وهو انتقال من الحدث المجرد إلى استعادة وعي هذا الحدث بصدمة (حلمية) حتى
كأننا نُعرّف الوجود كله (بالحلم) الذي يعلل الدمج بين الحدس اللامحدود
والتعالي الروحي، أنه القوة المحركة في الشعر والذي يكون بدوره إدراكاً
للحقائق المطلقة، كما إنه اللحظة التي نمتلك فيها العالم ويخرج الكينونة
الإنسانية من دوامة الفراق إلى امتلاء الشعر، إنه حالة الصحو الوجودي الذي
يعي جميع الحقائق كما أنه كما يقول ( غاستون باشلار) " أحد السبل لبلوغ
الشعر