أ.د. قاسم حسين صالح
لماذا نخاف من الموت؟ وهل نتساوى جميعا في ذلك؟ أعني هل يتساوى
المثقف في خوفه من الموت مع الانسان العادي مثلا؟ ومن يخاف من الموت اكثر،
المؤمن أم الملحد؟.الخوف،في مفهومنا نحن السيكولوجيين، حالة نفسية تنشأ عن
قلق من شيء يشكل للفرد تهديدا او خطرا..والخطر هنا يهدد حياة الانسان
للبقاء..لأن الموت يعني فناءه.
ان الانسان هو الكائن الوحيد بين
المخلوقات الذي يعرف انه سيموت..غير ان الناس يتباينون في درجة او حدة
خوفهم من الموت، ويكونون على صنفين: الأول يكون لديه الخوف من الموت بحدوده
العادية، والثاني، يتجاوز هذه الحدود، وبتجاوزها يصبح عصابا او حالة
مرضية..شبيهة بمصاب بعصاب النظافة. فأن تغسل يديك مرتين او ثلاثا
بالصابون،حالة عادية..لكن ان تغسلهما عشرين او ثلاثين مرّة تصبح الحالة
عصابا او مرضا نفسيا..متعبة لك وللآخرين من حولك، وكذا الحال في الخوف من
الموت.
لكن الشيء الجيد ان التفكير بالموت يأتي من مرحلة الشيخوخة،حين
يدرك الانسان ان ايامه اصبحت معدودة..ومع ذلك فأن تعامل كبار السن مع الخوف
من الموت يكون مختلفا، فمنهم من يتقبله ويقول: ( الحمد لله حسن الختام)،
واخرون يعملون على خفضه بزيارة اضرحة الائمة والرجال الصالحين او الحج، او
التردد على الكنيسة..وهذه كلها وسائل تخدم خفض الخوف من الموت. وقسم آخر
يقول لنفسه: لأستمتع بالباقي من عمري..في السفر مثلا"..او الزواج من صبية!.
وبالمناسبة، ان الساعة البيولوجية في الجسم تتحسس قرب النهاية، فتقلل
ساعات النوم حين يتقدم الانسان بالعمر، وكأنها تقول له: لقد قربت
نهايتك..وسأخفض من ساعات نومك لتستمتع..فوراءك نوم طويل!.
الموت.. عبر الحضارات
المجتمعات عبر التاريخ لديها معتقدات فلسفية او دينية بخصوص الموت.
ومعظمها لديها تقاليد او شعائر او طقوس تخص مغادرة الحياة نحو الموت. فبعض
المجتمعات تقيم وجبة غداء طقوسية مصحوبة بمهرجانات!، فيما مجتمعات أخرى
تقيم الحداد وتلبس الاسود. غير ان معظم المجتمعات لا تنظر للموت على أنه
نهاية الوجود البيولوجي بموت الجسد، لاعتقادها ببقاء الروح.. بمعنى ان
الجسد يفنى وان الروح تبقى الى الأبد..لكنها تختلف في كيفية صيرورة الروح.
فبعض المجتمعات تؤمن بأن الروح تبعث من جديد في الجسد الذي كانت فيه،
وبعضها يعتقد أن الروح تولد في جسم انسان جديد، واخرى ترى انها تتوحد في
كائنات لطيفة..كالطيور مثلا.كما ان المجتمعات تختلف في نوعية ادراكها للموت
وفي ردود فعلها نحوه. ففي حضارة(الكوند) بالهند يرى الناس هناك ان السحر
والعفاريت هي السبب في موت الانسان، ولذلك فهم يستجيبون بغضب لحدوثه، فيما
ترى حضارة (التاتالا) في مدغشقر ان قوى طبيعية خارجية هي السبب في حدوث
الموت، ولهذا يستجيبون له بسلام.وللموت عبر التاريخ فلسفة،فالفيثاغورية
تؤمن بالتناسخ والخلود، والموت عند البابليين مجهول مخيف ، وهم لا يعتقدون
ان الموتى يعيشون حياة أخرى مشابهة لحياتهم . ولم يبد على السومريين
والاكديين انهم فكروا بان الموتى يحيون الا الحكّام منهم الذين يعيشون حياة
اخرى ، ولذلك يدفن معهم مرافقوهم وزوجاتهم وحرسهم وعدتهم . وتعتقد "
البوذية " بان المثل الاسمى الذي يمكن ان يصبوا اليه الفرد هو الوصول الى
درجة النرفانا ، اي فناء الذات واتصالها بعالم الحقيقة ، فيما يعد المذهب "
الزرادشتي " الموت انتقالا من الحياة الاولى في الدنيا الى حياة الاخرة ،
وحرمت الزرادشتية دفن الموتى في الارض ودعت الى حياة نشيطة مليئة بالعمل
والكفاح . والنظرة الى الموت وسر الوجود مرتبطة بشكل وثيق بالنظرة الى
الحياة ومغزاها . وسواء أكانت هذه الحياة نقمة احيانا فهي امتحان وتجربة
وهي معاناة وهي متعة . وكما يقول الاديب الوزير الفرنسي " اندريه مالرو "
الذي كان يخاف الموت لاشعوريا بسبب انتحار والده وفقده ولديه في حادثة
سيارة :( ان الحياة لا تساوي شيئا..ولكن شيئا لا يساوي الحياة).
أسباب الخوف من الموت.
للخوف من الموت أكثر من سبب نجملها بالآتي:
سبب سيكولوجي صرف يتحدد بحاجة الانسان للبقاء وخوفه من الفناء.
سبب
اجتماعي ـ حضاري (متعلم). ففي الحضارة الاوربية مثلا، يتجنب الناس الحديث
عن الموت، ويكون التعبير عن الحزن بأقل درجاته،فيتعلم الأطفال ذلك حين
يكبرون فيما عملت حضارتنا العربية والاسلامية على تضخيم الخوف من الموت.
واظن ان المجتمع العراقي هو (الانموذج) في هذا الشأن. فتقاليدنا العراقية
تقضي بلبس الملابس السود (على المتوفى) لأشهر..وسنة أو سنوات..وهنالك
السبعة، ,والأربعين، ودورة السنة..وفي تشييع الجنازة يكون اللطم على الخدود
والصدور والنواح وشق الثياب،في تراجيديا سوداء..ولا اظن ان امرأة في
العالم تضاهي(العراقيات) في اللطم الجمعي على الميت..لدرجة انهن يتبارين
بالعويل والبكاء وتدفق الدم من الخدود والصدور..فصار الخوف من
الموت..اوالمبالغة فيه حالة او سلوكا اجتماعيا نتعلمه جيلا بعد جيل، تماما
مثلما تتعلم الطفلة الصغيرة الخوف من الفأرة..حين ترى امها تصاب بالرعب
منها.
وثالث الأسباب، ان الانسان لا يخاف من الموت نفسه، بقدر ما يخاف
من عملية الموت التي يتصورها بأنها مرعبة و(حشرجه..وغصّه) ويخلق خيالات
وتصورات مخيفة بخصوص الموت يتعامل معها كما لو كانت حقائق، مع ان الموت
مسألة بسيطة جدا..هي ان تطرح زفيرا ولا تأخذ بعده شهيقا!.
ورابعها ان بعض الاشخاص لا يخافون من الموت نفسه بل يخافون منه لأنه ينهي الى الأبد علاقة بأحبّة متعلقين بهم.
المثقفون..والموت!
نضيف الى فرضياتنا التي طرحناها سابقا في
صفحة ثقافة فرضية جديدة هي (ان المثقفين اكثر الناس خوفا من الموت)، وذلك
لمبررات(حيثيات) نوجزها بالأتي:
ان نسبة النرجسية بين المثقفين اعلى مقارنة بفئات المجتمع الأخرى. وان النرجسي متعلق بالحياة وترعبه فكرة الموت.
ان المثقف اكثر الناس تعلقا بالحب وتحسسا للجمال، ولأن الحب والجمال مرتبطان بالحياة فيما الموت يعني ـ عنده ـ القبح والفناء.
ان
المثقف اكثر الآخرين انشغالا بالتفكير في الحياة والموت واكثرهم اهتماما
بقراءة او كتابة الروايات والشعر والمسرحيات التي تدور افكارها الاساسية
حول الحياة والموت، فينشغل بها لاشعوريا لاسيما في نوعية احلامه.
ان
المثقف اكثر الناس انشغالا بهمومهم وأكثرهم حرصا على ان تكون الحياة
انسانية..وبما ان اهدافه غالبا ما تكون مثالية..فأنه يخشى ان يباغته الموت
قبل ان يحققها.
ان المثقف أكثر الناس انشغالا بفكرة مصير الانسان بعد
الموت،وبينهم نسبة كبيرة تعيش حالة الشك بين ان يبعث بعد الموت او يفنى..او
حالة شبيهة بحالة بطل رواية (الحب في زمن الكوليرا) حين يسأله صاحبه:هل
تؤمن بالله؟ فيجيبه: لا ،ولكني أخاف منه!.
المتدينون..والملحدون
يعدّ
المتدينون هم الاشخاص الأقل خوفا من الموت، لأن المتدين ينظر الى الحياة
بوصفها مرحلة عمرية قصيرة، او سفرا ينتهي بالوصول الى مكان مقصود. ولأن
لديه يقينا بأنه سينتقل، بعد الموت، الى حياة ابدية خالدة..في جنة، وان
اختلفت مواصفاتها في الأديان، لكنها جنة..فيها كل ما تحتاجه النفس البشرية
من راحة ومتعة وسلام.
اما الملحدون فأنهم يعدّون الموت فناء..وان
الانسان، هذا الكائن الجميل والعقل المبدع والروح الشفافة و...،يتحول بعد
الموت الى سماد كيمياوي يمتزج بالتربة، فينظرون للموت على انه نهاية غير
عادلة..او قرار ظالم..مجحف..مرعب!. لكن الملحدين على نوعين في موقفهم من
الموت، فالوجوديون منهم يعدّون الموت نهاية حتمية يجب تقبلها، ويرون ان
الذي يخاف من الموت هو الذي لا يجد في حياته معنى ولا يرى في الوجود معنى،
فيما الملحدون (العبثيون او الشكاكون) يكونون خائفين من الموت، لأنهم بلا
فلسفة حياتية وبلا ايمان بدين.
هل انت خائف من الموت؟!
نعم، كلنا نخاف من الموت بمن فينا
المتدينون الذين لديهم يقين ثابت بالحياة الأخرى. فهنالك رواية عن النبي
موسى انه حين جاءه عزرائيل ليقبض روحه رجاه ان يمهله قليلا وحين غاب عنه
هرب موسى خائفا من الموت.لكننا نقصد هنا الذي لديه خوف مضخّم او مبالغ فيه
من الموت، واليه نهدي اربع نصائح:
الاولى: دع الحب يستوطن قلبك..واعني الحب بكل انواعه، من حب الحبيبة الى حب الناس والوطن والجمال والحياة..واشغل نفسك بعمل تحبه.
والثانية:
اياك وحب الثروة..فهنالك علاقة طردية بينهما، فكلما زادت ثروتك زاد خوفك
من الموت، وجنابك تعرف الأسباب.والثالثة: اجرائية تتعلق بتصحيح مفاهيمنا
بخصوص الحزن. فاحزاننا، وبخاصة العراقيين، احزان مرضية وليست احزانا
انسانية. وهذه مهمة المناهج التربوية ورجال الدين والوسائل الاعلامية، ان
تحولنا الى ان نضحك بسرعة لا ان نبكي بسرعة كما هي عادتنا!.اما الرابعة:
فليكن عندك معتقد تؤمن به، سواء كان دينيا او فلسفيا..وعش حياتك كما ينبغي
فالانسان الذي يعيش حياة كاملة يكون مستعدا للموت في اي وقت بتعبير الكاتب
الامريكي الساخر مارك توين.وبما ان معظم العرب (والغالبية المطلقة من
العراقيين،والمثقفين بشكل خاص) ما عاشوا حياة كاملة فاننا نتوقع ان ربيعهم
وديمقراطيتنا سيساعدان على خفض الخوف من الموت..اذا جاءا بحكومات تحترم
كرامة الانسان وتوفر له الفرصة لأن يعيش حياة كاملة.