سعيد خطيبي
مضى أكثر من قرن على رحيل الكاتبة والرحّالة إيزابيل ايبرهاردت وما يزال
يدور حول شخصها ومجمل أعمالها الكثير من التساؤلات. حياتها يتخللها الكثير
من مناطق الظّل، وكتاباتها جعلت منها واحدة من أهم المختصات في شؤون
الأهالي سنوات الاحتلال. رحلت في مقتبل العمر، قبل أن تفشي بأسرارها، وما
يزال نقاد ومختصون يصرّون على كونها بنتا غير شرعية للشاعر الفرنسي آرتير
ريمبو. طرح تبنته الكاتبة الفرنسية فرانسواز دوبون في كتابها 'تاج
الرمال'(1967).
ايبرهاردت قصة يطول شرحها. كثير من التأويلات والفرضيات
تدور حولها. ولا احد يمتلك دليلا واضحا على نسبها. نجهل هوية والدها
الحقيقي ولسنا نعرف سوى والدتها ناتالي، التي منحتها اسمها، وحملتها معها
سنة 1879 من برد وقسوة العيش في سويسرا إلى دفء شمس عنابة شرق الجزائر، أين
ترقد الآن بعدما أعلنت اعتناقها الإسلام.
على خلاف أمها ارتحلت إيزابيل
(1877-1904) صوب الجنوب. غامرت نحو الصحراء. عاشت جلّ حياتها بالقرب من
الأهالي. تتنقل من مدينة إلى أخرى في زيّ رجالي، مخافة إثارة الانتباه،
مغيّرة اسمها إلى 'سي محمود'. عملت صحافية في جريدة 'الأخبار' المعادية
للسياسة الكولونيالية وتعرضت لمحاولة اغتيال في إحدى الزوايا الصوفية. راحت
ضحية فيضان وادي عين الصفراء (جنوب غرب الجزائر)، وهي لم تتعد سنّ السابعة
والعشرين. تركت أعمالا، نشرت غالبيتها بعد وفاتها، من بينها 'مذكراتي'
(1921) حيث تسرد تفاصيل تيهها في الصحراء، 'في بلاد الرمال' (1923) ومجموعة
من القصص القصيرة، المتناثرة عبر صحف نهاية القرن التاسع عشر، التي جمعا
ونقلها، لأول مرة، إلى العربية المترجم بوداود عميّر في كتاب بعنوان
'ياسمينة وقصص أخرى' (دار القدس العربي ـ الجزائر 2011).
ثلاثة مواضيع
جد حاضرة في مختلف قصص الكاتبة: الصحراء، المرأة والحبّ. تعلن انتماءها
لحياة لا تمت بصلة إلى حياة بني جلدتها الأوروبيات. تجتهد في الاقتراب من
نساء جزائريات، تتحدث لغتهن العربية وتنقل جزءا من محنهن وآلامهن. تصادفنا
في القصة الرئيسية من المجموعة شخصية ياسمينة. شابة يافعة حالمة. بدوية
وعاشقة. أمية تريد الانتقام من واقعها. 'أحيانا وهي قابعة في عزلتها، كانت
تردد بعض الأغاني الحزينة التي تحبها وتأخذ في البكاء. زفرات تمزقها مقاطع
كئيبة من أغانيها' تكتب ايبرهاردت. تُزوّج غصبا، وفق التقاليد الاجتماعية
المنتهجة آنذاك، من رجل لا تعرفه، يتم سجنه، بعد عام من ارتباطهما، لمدة
عشر سنوات. تجد نفسها وحيدة، بدون معيل. تضطر لدخول عالم البغاء لكسب لقمة
العيش وتنهي حياتها بشكل درامي: 'صارت ياسمينة عبارة عن خرقة من اللحم
أنهشها المرض والموت بلا مقاومةô لقد تحطمت في لحظة واحدة دوافع الحياة
داخلها' تضيف إيزابيل.
يكتب المترجم في مقدمة الكتاب 'تميزت نصوص
ايبرهاردت أدبيا باستخدام كثيف للكلمات العربية داخل النص المكتوب
بالفرنسية، من دون أن تجشم نفسها عناء ترجمتها، فاسحة المجال بذلك للقارئ
الأوروبي للولوج إلى النص بما يحمله من دلالات عميقة الأثر، وهو شكل في
الأسلوب طبع كتاباتها وميزها عن غيرها من المؤلفين'. ملاحظة يمكن ملامستها
في مختلف قصص المجموعة، على غرار قصتي 'الرائد' و'نوار اللوز' التي تدور
وقائعها بواحة بوسعادة (جنوب الجزائر)، هناك حيث نجد سعدية وحبيبة. امرأتان
طاعنتان في السن، حيث نقرأ 'كانتا كما الأصنام القديمة المنسية، تشاهدان
من خلف الدخان الأزرق المتصاعد من سيجارتهما، مرور الرجال الذين لم يعد
يولونهما أي اهتمام، الفرسان، مواكب الأعراس، قوافل الجمال أو البغال،
الشيوخ الذين انتهت صلاحيتهم، والذين كانوا في يوم ما عشاقهما'. يستعيدان
ذكريات ماضيهما الوردية وينديان حظهما في خريف عمرهما.
تمتاز نصوص
إيزابيل ايبرهاردت القصصية بالوصف الدقيق وميل إلى الكتابة الصحافية.
ملتزمة بالدفاع عن خيارات الأهالي ومواجهة الإدارة الاستعمارية. كانت حسب
الكاتبة والصحافية كاترين ستول سيمون 'تعرف كيف تفضح حماقة الاستعمار'
مضيفة 'فلا غي دو موباسان المنبهر هو أيضا ببلاد المغرب الذي سبقها بسنين
قليلة فقط، ولا أندريه جيد (صاحب جائزة نوبل 1947) الذي كان ممكنا أن
تلتقيه، كانا لديهما تلك النظرة السياسية الثاقبة التي تجاوزت بشكل واسع
النوايا الأدبية'.