حياة أيميلي ديكينسون .. السرية
ترجمة / عادل العامل
نميل في العادة لأن نحتفظ بأدوارٍ خاصة لكتّابنا المفضَّلين ــ
إدغار ألان بو القبوري، مارك توين التهكّمي، ولت ويتمان الجنسي العارف
بأمور الدنيا ــ و نقاوم أي دليل يناقض الصور العزيزة التي لدينا عنهم، كما
يقول كريستوفر بينفَي في مقاله هذا.
أما الدور الذي نحتفظ به لأيميلي
ديكينسون في هذه الكوكبة من الأدباء، فهو العانس المحرومة من الحبيب،
المنعزلة في منزل أبيها في مَين ستريت ( الشارع الرئيس ) في بلدة أمهرست،
بماسوشوستس. و نحن نفترض أن الهوى العظيم الذي وراء قصائدها العاطفية كان
له و لا بد إلهام مكافيء له في عظمته، سواء كان تخيلياً، أو فوق بشري، أو
إلهياً. و الشاهد المتعارف عليه على أن سيرة حب ديكينسون كانت عادية، ذات
إغراءات و خيبات أمل عادية، لا يتفق و الفاتورة تماماً. و قد بدا منفاها في
مين ستريت جزءاً ضرورياً من أسطورة ديكينسون، ضرورياً جداً في الواقع بحيث
أن المعلومات المعاكسة ــ التي نجدها تتراكم مؤخراً ــ قد جرى في الغالب
التقليل من أهميتها أو تجاهلها. فعلى سبيل المثال، حين دُعيَت مابيل لوميس
تود، زوجة عالم الفلك بكلية أهرست ديفيد تود، الموهوبة المتدفقة بالحيوية
، لتعزف على البيانو من أجل ديكينسون و أختها، الأصغر، لافينيا، في شهر
أيلول 1882، تلقَّت تحذيراً مُجفِلاً من زوجة أخيهما، سوزان ديكينسون،
المجاورة لهما. فقد أبلغتها سوزان بأن الأختين العانسين ” لا تعرفان شيئاً
عن الأخلاق “، و أضافت عابسةً ” لقد ذهبتُ مرةً إلى هناك، و في غرفة
الاستقبال وجدتُ أيميلي مستلقيةً بين ذراعي رجل “.
و يُفترض الآن على
نطاق واسع أن ذلك الرجل كان القاضي أوتيس لورد، و هو أرمل من جيل أبيها،
الذي اقترح على ديكينسون الزواج متأخراً في حياته و حياتها ( فقد ماتت هي
في عام 1886 و عمرها 56 عاماً ) فرفضت طلبه بشكلٍ مؤثر. و على كل حال، فإن
الفكرة المتعلقة بوضع إيميلي ديكينسون في غرفة الاستقبال غريبة جداً على
تصورنا عنها بحيث أن موعدها الخريفي ذاك مع القاضي لم يُصبح أبداً جزءاً من
الموروث المتداوَل عنها.
و اكتشاف أن ديكينسون لم يكن عليها أن تنتظر
حتى تبلغ الخَرَف لتجرِّب بعض مُتَع الصحبة الرومانسية الاعتيادية قد غاص
بعيداً كحجر، أيضاً. و لم ينجم أي تموّج في هذا الإطار عن مقالةٍ دراسية
نوقشت على نحوٍ حريص عنوانها ” التفكير موسيقياً، الكتابة بشكلٍ توقّعي :
معلومات جديدة من سيرة حياة إيميلي ديكينسون “، و نشرتها مجلة New English
Quarterly مؤخراً. و قد ذكرت المؤلفة، كارول دَيمون أندروز، أنها كانت
تتتبَّع تاربخ أسرةٍ ما من أسلافها من آل بينيمان حين عثرت مصادفةً على
مدخلين خادعين في يوميات أليزا هوتون بينيمان، و هي معلمة موسيقى كانت تعطي
دروساً في البيانو في أمهرست. يقول المدخل الأول في جزءٍ منه إنها بدأتُ
تعليم الموسيقى الصوتية و بالآلات حين كانتُ في سن 16. و كانت من تلميذاتها
الأوائل أيميلي ديكنسون و كانت في الثامنة من عمرها. ثم تتحدث أندروز عن
د. جورج غولد الذي كانت أيميلي على ارتباطٍ به حين كان في الكلية و رفضه
أبوها لكونه فقيراً مسكيناً، فتحطم قلب أيميلي المسكين.
و اسم جورج غولد
ليس جديداً على دارسي ديكينسون. فهو، باعتباره متخرجاً من كلية أمهرست في
عام 1850 و صديقاُ حميماً لأخي ديكينسون، أوستن، فقد جرى تعريفه طويلاً
كجزءٍ من دائرة أيميلي ديكينسون الاجتماعية الشبابية. و في كتاب بريندا
وينابل الجديد، ( الحرارة البيضاء : صداقة أيميلي ديكينسون و توماس
وينتوَرث هيغينسون )، يقوم بدور صغير كواحد من الأصدقاء الشباب ” الذين
شوَّفتهم كما يبدو بعض نتاجها المبكر ” قبل أن تجد في شخص هيغينسون
مستشاراً أكثر ثقافةً. و في الحقيقة، فإن إمكانية أن يكون غولد أكثر من
صدبق ليس بالأمر الجديد، أيضاً ــ لكن ذلك، كما تبيّن أندروز، لقيَ
استقبالاً بارداً بشكلٍ ملحوظ. و لا تدَّعي أندروز بأنها أول من يزعم أن
غولد كان عشيق ديكينسون السري. فقد نشرت الشاعرة اليسارية جينيفيف تاغارد،
المشهورة بأشعارها الشعبية أيام الكساد العظيم، سيرة حياة مكتوبة بطريقة
حيوية لأيميلي ديكينسون في عام 1930 بعد تعليمها لمدة سنة في مونت هوليوك،
الكلية الأم لديكينسون. و قد اكتشفت تاغارد ما دعته بـ ” رسالة غرامية
مختَلَسة “، ( من النوع الخالي من الأسماء عادةً )، بعثتها ديكينسون في عام
1850، تدعو فيها شخصاً ما ” لملاقاتي عند شروق الشمس، أو الغروب، أو اليوم
الأول من الشهر “. و افترض دارسون لاحقون أن جورج غولد كان المتسلّم
المحتمل. و على كل حال، فإن تاغارد أنشأت حكايتها حول علاقة أيميلي و غولد
الغرامية الفتية، ملقيةً باللوم في فسخ الارتباط الذي بينهما على أبيها
لكنها تعزو ذلك إلى دافع مختلف، دافع أكثر انسجاماً مع طريقتها الخاصة
بالأولوية الأنثوية proto- feminist .
فلم يكن الدافع أن غولد كان
فقيراً، كما تؤكد تاغارد. و إنما أراد إدوارد ديكينسون إيميلي لنفسه. و كان
طلبه من أيميلي أن تعزف على البيانو ” وسيلة من إدوارد لإرجاع أيميلي
عندما هربت “. و عنما اتضح، في حفلة تخرج في عام 1850، أن أيميلي و غولد
كانا على علاقة حب، أعلن ” أن العلاقة يجب أن تنتهي “. و قد رأت تاغارد أن
أيميلي و جورج استمرا يتقابلان رغم ذلك الحظر، يلتقيان سراً في فيلادلفيا و
نيو يورك بالإضافة إلى أمهرست حتى الانفكاك النهائي في عام 1862، حين كان
جورج قد تدرَّب للوزارة، و تزوج و استقر في ورسيستَر.
إن من المُجفل
حقاً أن يعود الواحد إلى كتاب تاغارد المنسي تقريباً و يجد شواهد كثيرة في
حكايتها عن العاشقين المنحوسين. و هي تقتبس من مصادر عديدة، بضمنها صديق
لأخت إيميلي، لافينيا، أكدت التفاصيل الأساسية لتلك العلاقة. و هكذا،
فلماذا لم تُصدَّق قصتها، إذن؟ إنها، مرةً أخرى، الصورة الشائعة عن حياة
العزلة في بيت أبيها، و المساعي التي بذلها العديد من الأشخاص لاحقاً
لإخفاء ذلك.
و هناك المزيد بالنسبة لهذه الحكاية، بما في ذلك بعض
الشواهد المقنعة على أن ثلاث رسائل حب غامضة كتبتها ديكينسون كمسودات في
أواخر خمسينات القرن التاسع عشر ــ و هي نصوص انفعالية، و متّسمة بإيذاء
الذات، و غنائية الطابع أُشيرَ إليها بـ ” رسائل السيد ” و المقصود بذلك
متسلّمها المجهول ــ و قد عُنوِنت فعلياً إلى غولد. و بعد موت ديكينسون،
بدأت مابل تود بجمع رسائلها لغرض النشر و كتبت إلى غولد، الذي رد بأنه كانت
لديه ” حزمة عزيزة من رسائل أيميلي محفوظة بقدسيةٍ في صندوق صغير … و
اختفت قبل 15 عاماً بطريقة غامضة “. و إذا كانت هناك مفاجأة في هذا كله،
فهي مفاجأة اعتيادية. إذ يتضح أن أيميلي ديكينسون كان لديها نوع من ذلك
التورط الرومانسي و خيبة الأمل الذي لدى الكثير من الشباب. فهم يجدون شخصاً
ما أنيساً لطيفاً؛ و يتبادلون الهدايا و الوعود؛ فيتدخل آباؤهم أو أمهاتهم
لأسباب متنوعة مقبولة و غير مقبولة. فإذا ما لاحت مثل هذه العادية بطريقة
أو بأخرى من تحت جلال واحد من الشعراء العظام فذلك ربما هو السبب في أن هذا
التحدي الأخير أيضاً لصورة أيميلي المعزولة قد نال القليل جداً من
الانتباه. فواأسفاه، ليس هناك من شيءٍ غامض أو روحاني هنا عدا ما كوَّنته
أيميلي ديكينسون، في رسائلها الرائعة، عن خيبة أملها الإنسانية الكاملة.