للألم شراسته وواقعه,حتى لو قررنا تجاهله.ومن الممكن أن نحيا طويلا بألم نعيش معه وبمعزل عنه.
أشياء كثيرة تثير ألمى إلى درجة النهش وأجرب الصمت والتجاهل فيزداد ذلك
النهش.وحتى الكتابة تغدو أحيانا مجرد ألم من نوع آخر حين تغيب وحين تلح فى
التحبير على الورق.
لا بد أننى كنت أعانى من الآم حضارية عديدة وأنا أحزم حقيبتى وأتوجه
للخليج منذ أسابيع.كنت أطمع فى التخفف لكنها زادت معى خلالا رحلتى والتى لا
أعرف ما أسميها فى أغلب الأحيان:عودة,سياحة,التعرف على المستجدات.لا أعرف
حقا فأنا غالبا ما أعود وكأننى كنت فى قصر السراب.
بدأ الأمر هذه المرة بإستجابتى لدعوة لحضور ملتقى الكاتبات العربيات فى
الدوحة,مدينة أبى رحمه الله وطفولتى.وهذه دعوة لا أردها أنا المتخيرة
وقليلة الإستجابة للدعوات بمزاجية غير محتملة أحيانا تسبب إلتباسات إستياء
عند البعض.الدوحة ببحرها المفتوح الأزرق بجمال أراه وديعا تركض بلهاث شديد
نحو التجديد والعصرنة بغربية فى المحتوى وتقليدية بدوية فى المظهر.لقاء
الكاتبات لم يكن واضح المعالم:بعضهن كاتبات حقا ومعروفات عربيا وبعضهن
ألتقيهن للمرة الأولى.فى منتجع فندق شرق إلتقينا رخام أنيق ومجاورة للبحر
وجلسات فطور وغداء وعشاء ولهاث يتم إستحثاثنا فيه لنذهب هتا وهناك فى باصات
تحملنا لكتل ضخمة من المشاريع والمنجزات فهذه المدينة التعليمية بجامعاتها
الأمريكية والبريطانية تتعهد بأخذ الطفل من الحضانة للدكتوراة والتعليم
باللغات الأجنبية طبعا فى مخابر صممت خصيصا لخلق عقول جديدة تتوافق مع
الثقافة الأمريكية والغربية الحالية وهناك قناة الجزيرة للأطفال ومشروع
عمرانى جديد نتعشى فى نادى الشركة على البحر بعد أن يشرحوا لنا محتواه
وأمور من هذ القبيل لعدة أيام تنتهى بجلسة مكثفة لنقاش بسيط بين عدد من
الكاتبات وطالبات جامعة قطر حيث الأسئلة بعربية مكسرة تتخللها الكثير من
الجمل الإنجليزية لفتيات بكامل حجابهن عن الكتابة والأدب.وحضر وزير الثقافة
الإفتتاح وعشاء ووجه كلمته حول الدوحة كعاصمة للكاتبات العربيات لكن لم
يحدث نقاش مباشر معه حول الثقافة عموما والكاتبات خصوصا.وغاب عن اللقاء
تنظيم لقاء يجمع الكاتبات العربيات المدعوات وكاتبات قطر اللذين دعى بعضهن
لحضور كلمات الإفتتاح فقط ولم يدعين لنشاطات أخرى مما دفع بالشاعرة زكية
مال الله إلى كتابة مقال حول ذلك تطالب فيه الوزسير بإشراكهن فى مثل تلك
اللقاءات وتنظيم لقاء قلى الد\وحة للكاتبات القطريات للتباحث فى أمورهن.
ورغم الجهد الذى بذلته هدى النعيمى على مستوى شخصى من الدعوة وتنظيم
التحركات بشكل محموم جعلنا ننسى أنها كاتبة أصلا وكذلك زميلتها كلثم جبر
إلا أن حديث الإبداع والكتابة والمرأة غاب حتى عن أصغر الحوارات
معهما.ولولا وجود ليلى العثمان وفوزية رشيد وهدى قبلان وحمدة خميس ورزان
المغربى وحياة الريس وزهور إكرام ولقائى الخاطف بهاتون الفاسى وعائشة أبو
النور لما أدركت أننا فى لقاء له علاقة بالكاتبات العربيات.وأتساءل دوما عن
سياسة الهدر القافى المتكرر فى الخليج فكثيرا ما تكون هناك ملتقيات تزخم
ببروتوكول الدعوات والطيران والفنادق الضخمة ويأتى الضيوف ليدوروا فى فراغ
غريب ثقافيا وإنسانيا لا يلمحوا فيه الوجه الحقيقى للإنسان هناك ولا يتم
تواصلهم عضويا مع الناس والجماهير بل هى صالات فخمة من الرخام والفندقة
واللقاءات السطحية مع الرسميين دون حتى لقاء حقيقى مع كتاب ومبدعين معنيين
حول قضايا تهم الطرفين فتتحول اللقاءات إلى مجاملات وشكر وضيافة وتقديم
لإنجازات بإسم الشيخ فلان والشيخة فلانه كدعاية مدفوعة الثمن ويأتى الضيف
ويسافر صامتا أو ممتنا للضيافة تلك فى تواطىء غريب يخدش المعانى الحقيقية
لعناء السفر واللقاء بإسم الشعر أو الأدب أو الفكر الذى تحتاج تلك الأماكن
إلى نفضه حقا وتطويره والنقاش بصدق حول أوضاع حضارية وثقافية مستجدة بفضل
العولمة والهيمنة الأمريكية والمشاريع المتناقضة فى أهدافها حول هوية
المكان وعروبته ووجود أجيال فى الحضانة الغربية هناك تربى لتنبت عن أصلها
وفصلها وعروبتها مع تمسك واهن بمظاهر البداوة والسلفية والدين وولاء لا
يقبل النقاش للسلطة والمؤسسات والحالة التقليدية العامة.
وليس الحال بأفضل من ذلك فى الإمارات محطتى الثانية بعد الدوحة بلدى
الذى أحمل جواز سفره وموطن أمى والأرض التى ولدت عليها وأحببتها وعانيت
منها مرار أيضا.أذهب محملة بالأمل وأعود منها سريعا دائما وفى جيوبى أطوى
خيبات قلبى وعقلى المتكررة فيها.قضيت رمضان الفائت هناك وكذلك هذه
الأسابيع.أسعد برؤية أهلى وأقاربى وبالهدوء النسبى والنظافة والجمال.,احاول
فى كل زيارة فك شفرة الشوارع والمبانى والجسور والمؤسسات المستجدة دائما
وأحاول بشىء من العبث التواصل نوعا ما مع بعض جهاتها الثقافية وبقايا
صداقات ومعارف وبعض من الجيل الجديد الذى يكتب فيها.ويزداد الألم فى قلبى
فى كل مرة,وبصدق جارح.الإمارات صارت أرضا ومجتمعا ووطنا اليكترونيا.تحتاج
بيت أو بعثة دراسية أو عمل تقدم اليكترونيا بوعد ما أنه سيتم الرد عليك
اليكترونيا أيضا.مؤسسات رخامية هائلة لا تجد مسئووليها وجها لوجه.مشاريع
ثقافية هائلة واليكترونية أيضا.وإذا لم تكن تعرف بعض الأفراد العاملين هناك
شخصيا فغالبا لن ترى وجوههم فيها.ذهبت لزيارة جهة ثقافية فيها فوجدت أعداد
هائلة من الألمان والاستراليين والفرنسين واللبنانين بعضهم ينضم المشاريع
الثقافية وبعضهم معارض الكتاب وكان هناك سويسريون لعمل المجلة الثقافية
للبلد.وعرب بجنسيات أمريكية واوروبية وغربية عموما لإدارة مؤسسات ثقافية
وإعلامية ولإكتمال الديكور شباب صغار السن من الإمارات للعلاقات العامة
والوظائف الصغيرة بشروط الإتقان للإنجليزية مما ذكرنى بمضيفة الطيران
الآسيوية فى رحلة عودتى على طيران الإتحاد وهى تطلب من العرب الجالسيين على
المقاعد بقرب فتحات الطوارىء ترك كراسيهم والإنتقال لمقاعد فى الخلف لأن
هذه الكراسى لمن يتحدث الإنجليزية فقط والغربيين على وحه الخصوص وراقبت
المشهد بذهول فذلك يحدث على طيران اماراتى وطنى وعربى بمنتهى البساطة وحين
سألتها عن الموضوع الذى شابته عنصرية واضحة ضد العرب قالت أن هذه هو قانون
للطائرة وتسائلت هل ممكن أن يحدث ذلك على طيران تايلاند أو الهند والصين
واليابان مثلا؟! لا أظن-ولكنه يحدث على طيران اماراتى بالتأكيد بكل ما يحمل
ذلك من رمزية حضارية وسياسية.
أقرأ الصحف والإصدارات الجديدة لكتاب جدد ومخضرمين والترجمات والأغلفة
البراقة والضخمةوأتابع أخبار مهرجان الطيران للأدب العالى وجامعة السوربون
ومتحف اللوفر وفوز منتجة اسرائيلية بجائزة فى مهرجان ابوظبى السينمائى
وترجمة لألمانية لكتب تعتبر الأعمال الأولى لكاتبة أو كاتب شاب امارتى
وزيارات سياسية متتابعة لروؤساء دول للعاصمة من مصر والهند وبريطانيا
وغيرها.وأتوقف عند الزيارة الثانية للملكة البريطانية فى تاريخها للإمارات
وقد كانت الأولى فى السبعينات من القرت الماضى.جاءت مع زوجها وعدد من
الوزراء لتوقيع اتفاقيات وأهمها تجديد اتفاقية كانت قد وقعت قبيل رحيل
الإستعمار البريطانى وتأسيس دولة الإمارات فى بداية السبعينات.تجديد
الشراكة ولكن دون تفاصيل ولربما إحتاجت الشراكة للتجديد بعد تنامى الحضور
الأمريكى فى المنطقة على كل الأصعدة وتوقفت عند شراكة بين جامعة الامارات
وكيمبردج يوقعها زوج الملكة مع وزير التعليم العالى واستغربت إذ أنه وفى
الصيف حين حاولت الحصول على بعثة دراسية لبريطانيا رفض طلبى بحجة ان
الوزارة منعت كافة البعثات التعليمية الى بريطانيا دون بقية دول العالم ولم
يشرحوا سبب ذلك واليوم شراكة يتم توقيعها مع كيمبردج فياللغرابة.هذا طبعا
مع شراكة فى البرنامج النووى.
أبحث عن أصدقائى ومعارفى فأجد بعضهم بصيغة أخبار ثقافية ومراجعات كتب فى
الصحف.أتلفن فيرد البعض ويعتذرون لسفرهم الحالى أو القريب الى ثايلاند او
القاهرة او بيروت وحسب التساهيل,وبعضهم يعتذر لإنشغاله باليوغا
والريكى,وبعضهم بسبب الإكتئاب أو زحمة الطريق ويوفقنى الله أن أرى أحمد
راشد ثانى وعلى ابو الريش سريعا فى هيئة الثقافية ويحملوننى عددا كبيرا من
الكتب والترجمات وأشرب القهوة مع محمد المزروعى فى مقهى فى الخالدية ويستعد
هو الآخر للسفر لمعرض فى الكويت.وفى قاعة من الرخام والكاميرات والفلاشات
ألتقى حبيب الصايغ وسعيد السريحى وشوقى بزيع فى ندوة يتبعها عشاء فى مطعم
على طاولة رسمية كبيرة بوجود الكاميرات أيضا وفى حديث عام عن قضايا هنا
وهناك.وبين موول الخالدية وموول المارينا والمقاهى والمكتبات ودائما على
رخام يلمع تمشى خطواتى بحثا عن رائحة المكان أو ما قد تبقى من أمكنة وشخوص
ذاكرتى غير المثقوبة للأسف.
أضجر سريعا وأعود إلى القاهرة.
ثمة حميمية تلاشت والكثير من المسكوت عنه ومؤساساتية تضرب فى النخاع
الثقافى وأجيال لا تعرف بعضها إلا بالأسماء وعناوين الكتب ربما.ثمة راحة
قاتلة فى النسيان وإعادة إبتكار وتسويق وإستيراد الذات.ثمة تواطؤ مخجل بين
مبدعين ومثقفين عرب ومؤسسات لا تعرف أهدافها وغياب ساطع لروح المثقف العضوى
فى الإمارات.ثمة ازدواجية هجينة ما بين مظهر تقليدى يتشبث بالثوب والعباءة
وينسى لغته وهويته ويربى أبناءه على الطاعة والولاء والمؤسسة والمادية
والرطن المتقن.ثمة من يسخرون من تذكر الماضى المشترك والقومية العربية
وقضاياها ويحتقرون وبشدة بعض أوطانهم العربية أو لا يعدونها كذلك.
ألألم ربما هذا هو ما أحاول الكتابة عنه.