فـي محنة المثقفين الليبيين
أول مثقف ليبي عرفته كان عام 1981 في بيروت، هو الجامعي اليوم الذي
تقلّب به الزمان جمال التركي، وقد اكتشف فجأة أنني قربه في مدينة قابس
المحاذية لليبيا، قبل شهر فقط ليدعوني للمحاضرة في أكاديمية معروفة في
طرابلس. دعوة لم تتحقق أبداً.
أول من عرفت من المثقفين الليبيين عن كثب،
الشاعرين فرج العشة وفاطمة محمود في قبرص عام 1992. كنتُ أهجس أنهما على
وشك التمرّد على سلطة العقيد وهي في أوج قوتها، بعد ما أحسبه شهر عسل طويل
معها. وهو ما حدث فعلاً حيث هاجرا لاحقا إلى ألمانيا لاجئين.
عرفت أيضا
الروائي إبراهيم الكوني، ربما أواخر الثمانينيات، في جنيف حيث أعيش.
التقيتُ به في المكتبة العربية (أوليفييه). كانت دهشتي عظيمة حينما أخبرني
أنه لا يعمل شيئا وأنه محسوب على السفارة الليبية التي تدفع له راتباً
مجزياً ومنزلاً فخماً دون أن يقوم بشيء البتة سوى الكتابة والسفر. ولكي
يحطم أوهامي نهائيا عن المراكب المجهولة التي يركبها بعض الكُتّاب، ذكر
أنه كان قبل ذلك محسوباً على طاقم السفارة الليبية في الاتحاد السوفياتي
السابق. بقي الكوني سنوات طوال لعلها جُلَّ حياته في حالة سيلان مع نظام
القذافي وهدنة واستسلام لصالح ما يعتبره ضرورات الكتابة. أن تصريحات الكوني
البروموثيوسية ونصائحه للقذافي بعد انهيار النظام (26/2/2011) القائلة:
"كل أعمالي ضدّ السلطة ليس فقط كمفهوم أخلاقي ولكن أيضا كمفهوم فلسفي. إذا
كان هناك محرّض على الثورة في ليبيا في يوم من الأيام فهي أعمال إبراهيم
الكوني، التي تصلح أن تتخذ إنجيلا للثورة"! لا محل لها من الإعراب، وهي
مثال على فسادٍ ودجلٍ لا مثيل لهما.
عرفت بعدئذ في جنيف الشاعر محمد
الفقيه صالح (ولد عام 1953 بطرابلس)، الصديق الحميم والمثقف البارع
والإنسان الراقي. وكانت الأحاديث معه تطول على أطراف بحيرة ليمان أو في
بيته بحضور زوجته الكريمة. وقد قضى السنوات في سجون القذافي بتهمة
الماركسية، ليطلق سراحه بعد عشر سنوات عجاف، من دون اعتذار أو ندم، لعدم
ثبوت "التهمة" عليه. لكن وكنوع من التعويض المشبوه أرسله نظام القذافي
للعمل في سفارة بلده في جنيف. مشبوه لأن استراتيجية القذافي تقع في إبعاد
من تريد التخلص منه إلى سفاراته في الخارج. محمد الفقيه لم يختر وإنما
اخْتِيْرَ له خلاف إبراهيم الكوني تماماً. الفقيه صورة للشاعر الفريد الذي
لا يفرط بالشعرية والإيطيقيا ويمسك بهما كليهما في اللحظة عينها، مثله مثل
بعض شعراء العراق في سنوات الجمر المستمرة.
عرفت النبيل الشاعر مهدي
التمامي في تونس الذي كان يصدر، على مضاضة، مع صلاح عجينة المقرّب من
الأوساط المتنفذة، مجلة "شعريات"، وكان يسعى لإشراك المزيد من الأصوات
العربية فيها، كأن المثقف الليبي عبر شخصه، يشعر بالعزلة وحده في مواجهة
السلطة ونهجها الأيديولوجي. "شعريات" التي كانت تصمّم وتُطبع في تونس
وتوزّع في ليبيا، توحي بدءاً من عنوانها بخيار مناهض طريّ، معاصر إزاء تحجر
الثقافة الرسمية وشيخوختها. يذكِّرك التمامي بالنهج الذي كان يختطه شعراء
العراق في منافيهم، وهم يسعون إلى الانعتاق من تمائم وأوثان الحاكم
وشعاراته وأكاذيبه.
عرفت على عجالة الروائي محمد الأصفر في لقاء سريع في
فندق الانتركونتينونتال في العاصمة التونسية: تمرّد واندفاع لا مثيل له
إلا بين أوساط عتاة الصعاليك العراقيين.
كان مثقفو ليبيا الشرفاء يسعون
إلى اللقاء بأقران عرب يشاطرونهم المحنة عن بُعْدٍ كذلك، عبر وسائل الاتصال
العنكبوتي والاجتماعي. هكذا تعرفتُ على الشاعر صالح قادربوه الذي دعاني
للكتابة في مجلة كان يريد إصدارها في لندن. رغبة لم تتحقق هي الأخرى. عاد
قادر بوه إلى مدينته بنغازي في وحدة سعيدة بانتظار الواقعة التي وقعت. ثم
كاتبني من طرابلس طارق عثمان الشرع الذي كان يسعى لإيجاد مموّل رسميّ
لجريدة ثقافية أسبوعية صدرت منها أعداد قليلة حتى بداية الانقضاض على سلطات
العقيد المطلقة في 17 شباط 2001، أعني مجلة "المجلس الثقافي" التي سعت
بدورها إلى استكتاب وإشراك المزيد من المثقفين الطليعيين العرب في محاولة
خفية لخلق تيار ثقافي معاصر وجرئ في داخل البلد نفسه. ومن هذا المنطلق
استكتب الشرع المصريين إبراهيم أصلان ورفعت سلام والسوري رائد وحش
والفلسطينية أمل جمعة والمغربي عبد الرحيم الخصار والعراقي شاكر لعيبي،
وكتبت فيها العشرات من الأسماء العربية المرموقة جوار الأصوات الليبية.
الأمر الذي أثار حفيظة وعاظ السلاطين، مثل محمد مهيوس، القائل تحت عنوان
"المثقفون يتاجرون بأموال الليبيين" أن العدد الأول الذي طالعه كان يعج
بأسماء وأخبار وصور" الأجانب"، وأن المجلة تسيء "لكرم الليبيين وسخائهم في
تبديد الأموال العامة للترويج لسواهم ومن أجل منافع شخصية واضحة"!. أثارت
الرجل في الحقيقة جرأة المجلة وانفتاحها، وهو ما كان يخشاه نظام العقيد وما
أودى به إلى الهاوية.
لنحيّي هنا المثقفين الليبيين الكثر الآخرين على شاكلة الفقيه وقادر بوه والشرع والأصفر.