د. كريم شغيدل
في العام 2002 شاهدت مصادفة حواراً ثقافياً مع الشاعر أدونيس من على
شاشة إحدى القنوات الفضائية، أيام كنت أعمل في ليبيا محاطاً بمدرسين
تقليديين لا يزالون يتغنون بأمجاد المعلقات، ويترنمون بشعر العصرين الأموي
والعباسي مروراً بجماعة الديوان والرصافي والزهاوي ولما يزل الجواهري في
نظرهم هاوياً يتلمس طريقه بين ظلال البحتري وأطياف المتنبي.
بل إن بعضهم
يتغنى بشعر الأخوانيات والمناسبات وحساب الجمل والمخمسات والمشطرات مما
يسمى بشعر الفترة المظلمة، شعر البديع والصنعة المتقنة، يومها لم يكن أحد
منهم قد قرأ شيئاً لأدونيس، ومن يكون أدونيس أمام الفحول الذين ينامون ملء
جفونهم عن شواردها؟!
بعض أولئك المدرسين نظامون يعيدنا شعرهم تماماً
إلى حقبة البديع بجناساته وطباقاته ولزومياته، وقد أجمعوا على أن رواد
الشعر الحر عجزوا عن مجاراة العمود وتأثروا بالغرب لتدمير التراث العربي.
أما
قصيدة النثر فهي الجهل المطبق باللغة والعروض والتاريخ والموروث إن لم تكن
مؤامرة غربية لتخريب التراث العربي الأصيل، كنت اكتفيت بدخول تجربة عرضية
معهم لنظم قصيدتين عموديتين امتدت كل واحدة منهما إلى أكثر من سبعين بيتاً،
لأثبت لهم أن قصيدة النثر الحقيقية التي هي نتاج تجربة حقيقية أكثر صعوبة
من النظم الذي يرونه إبداعاً ما بعده إبداع.
أما أدونيس فقد حسم الجدال
بيني وبين أصدقائي الذين كنت أردد على مسامعهم أن الشاعر ليس معنياً بعروض
الشعر وأبحره وزحافاته وضروبه ودوائره، لآنها قوانين جاءت لاحقة، وثمة
أوزان كثيرة اختفت واندثرت بسبب الخضوع لمعايير الخليل ومن تبعه، ومن يضع
بحراً في باله لينشئ قصيدة ما هو إلا نظام ينسج على منوال سواه، وما أكثر
النظامين، يومها كنت أجلس مع أحدهم وكان يقلب بمؤشر القنوات، فصرخت به: هذا
هو أدونيس... دعنا نستمع إليه، وقد وجهت إليه مقدمة البرنامج سؤالاً عن
أوزان الشعر، فأجابها بأنه لا يميز بحور الشعر أو يستدل عليها، لكنه يكتب
على السليقة ولا يخطئ، معتمداً على أذنه الموسيقية، وأنه حر في اختيار
الإيقاع الذي تفرضه القصيدة في ضوء موضوعها ومناخها النفسي وإيقاعها الذي
تختاره اللحظة... أو بهذا المعنى، فالتفت إليّ صاحبي قائلاً: ألم أقل لك أن
شعراء الحداثة يجهلون بحور الخليل؟!.
تذكرت تلك المطارحات والوقائع
وأنا أتابع على صفحاتنا الثقافية تداعيات دعوة الصديق الشاعر حسين القاصد
(محو أمية الشعراء) وهي دعوة على ما فيها من طرافة ودعابة ومشاكسة تحمل
الكثير من التساؤلات: فهل هي عـودة للنظم؟!
وبناءً على ذلك هل أن فحول
الشعراء كانوا يعرفون ماهية البحور الخليلية قبل تقنينها؟ ولنفترض أن بعض
الشعراء يجهلون تفاصيل العروض لكنهم يكتبون قصيدة عمودية أو حرة أو نثراً
برؤية واضحة وببناء فني متماسك ولغة مضيئة، ويمتلكون خيالاً نابضاً وموهبة
في التقاط الصور أو صياغتها، فهل يعني اختبارهم شيئاً مهماً؟
هل يحتاج
أدونيس بحسب دعوة القاصد إلى اختبار نقرر من خلاله شاعريته؟ هل يحتاج نصيف
الناصري اختباراً من هذا النوع وهو الأمي الذي درس في مراكز تعليم الكبار
أبجدية القراءة والكتابة وراح يكتب نثراً مقسماً على طريقة الشطرين، وهو
اليوم يكتب نصاً له قدرة الإمساك بالشعري أكثر من أية قصيدة مصنوعة بحذق
العارف بأسرار اللغة والعروض والبلاغة؟
أرى أن الشاعر شاعر سواء تعلم
العروض وفنون البلاغة أم لم يتعلمهما، وأرى أننا بحاجة إلى معايير أخرى،
الوعي، الثقافة، الرؤية، الموقف، الإشراق، الشاعرية، وليس القوانين التي
أصبحت وصفات جاهزة، أما الأمية الشعرية السائدة اليوم فهي أقل خطراً من
تفشي ظاهرة النظم المدرسي التي تضمنتها دعوة القاصد بين طياتها.
ينقل
الدكتور علي عباس علوان في أطروحته للدكتوراه حكاية طريفة على لسان الرصافي
عن صديقه اللدود الزهاوي، مفادها أنه كلما دخل على الزهاوي وجده ممدداً
على حصيرة، وقد فتح عددا من دواوين الشعر العربي على قصائد بعينها، متماثلة
وزناً وقافية، وهو بصدد نظم قصيدة من الوزن ذاته وبالقافية نفسها، وبإمكان
أي شخص التدرب بهذه الطريقة لاتقان نظام التفعيلات الخليلية، ولكن طال
تمرينه أم قصر، لن يصبح شاعراً، ما لم يكن ملتاثاً بالموهبة، وأمامنا
الكثير من أساتذة العروض الذين يقومون بتدريسه لطلبة الجامعات، أفهل كلهم
يصبحون شعراء لمجرد اتقانهم للصنعة العروضية؟!
فثمة خبراء ولهم أذان
موسيقية وقد اكتنزوا بثراء لغوي لكثرة قراءاتهم في شعر العرب وكتب التراث
والمعاجم، لكنهم في الواقع ليسوا شعراء، ولن يكونوا كذلك مهما أوتوا من
علوم العروض والبلاغة والصرف والنحو ومهارة المحاكاة والتقليد.
نعترف أن
وسطنا الشعري يعج بالطارئين والطارئات، لكن الشعراء الذي يدعون بأنهم
حقيقيون ومبتكرون ومبدعون وعرابون، أحياناً، هم من يوفر لهم سبل اعتلاء
المنصات واحتلال مساحات على الصفحات الثقافية وربما تمثيل العراق في
المحافل الأدبية، هناك مجاملات وأخوانيات ومصالح، وهناك نظامون يريدون
إرجاع حركة الشعر إلى الحقبة المظلمة، وهناك أدعياء ومقلدون وسراق، لكن
المشكلة ليست بمدى اتقانهم لبحور الشعر أو أسرار البلاغة، بل ثمة وعي متدنِ
وذائقة هشة يسهل اختراقها بفقاعات يطلقها البعض على أنها قصائد نثر أو
حداثوية خارجة عن المألوف والسائد، وهناك سطحية وسذاجة في فهم الشعر ومعرفة
وظيفته الجمالية والمعرفية، وهناك صرعات تحلو في نظر البعض وسرعان ما
ينطفئ بريقها، وهناك ظاهرة الحشود في شتى ميا دين العمل الإبداعي ومجالاته،
يتسيدون الندوات والنقابات والاتحادات والأنشطة الثقافية والإبداعية
بالمقابل هناك شعر خالد، عمودياً كان أم شعر تفعيلة أو نثراً، فحين نقرأ
لكبار الشعراء ليس ثمة ما يستوقفنا لنتساءل: أيتقن هذا الشاعر علم العروض
أم لا؟!
بل تستوقفنا عناصر الدهشة والإبهار، وتهزنا التركيبة الصورية
والمفارقة والإيحاء والترميز، ويستوقفنا البناء الفني ومناخ القصيدة وما
إلى ذلك من فنية النص وأدبيته وعناصره الدلالية والمعرفية.