سنحاول الرجوع من غياهب الغيب إلى مواقع الواقع "المادي"، كما أوصانا
الأستاذ أمير الغندور. وهو عند الكثيرين من أفضل من آوت الأوان من محاورين.
وحسبنا الآن أن نرى كيف يمكننا أن نعود من أهوال الغيب إلى أحوال الناس.
فقط هناك مشكلة :
هل ثمّة فعلا أحوال للناس خارج تصوّرات الناس لأحوالهم؟ وهل ثمّة تصوّرات
للناس لا تمثّل فيها العوالم المفارقة للواقع نصيبا وافراً بل هو الأوفر
حظّا ونصيبا؟
سنرى.. وقبل ذلك، إليكم رصداً أوّليا وجرداً انتقائيا لبعض الوقائع من الواقع "المادي" والموصوف أحياناً بالواقع الملموس.
في جامعة أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية يوجد مختبر للبحث "العلمي"
يهتمّ فيه العلماء والباحثون الجامعيون بالبحث عن أدلّة حول وجود حياة بعد
الموت، ملتفين حول شعار يبدو متواضعاً جدّا حين يقول : إذا كان ذلك حقّا
كشفناه، وإن لم يكن عرفنا سبب الخطأ.
في وسط العاصمة النرويجية أنشأت الأميرة مارثا لويز عام 2007 مدرسة تحمل
اسم عشتار، تضمن لتلاميذها أيضا القدرة على التحدّث والتواصل مع الملائكة.
ورغم غرابة الموقف فمقاعد المدرسة ممتلئة عن آخرها.
في ساحة الباستيل، والتي شهدت الشرارة الأولى لانطلاق الثورة الفرنسية،
بدأت العديد من المنظمات والجمعيات الدينية، ومنذ عام 2003، تنظم مهرجانا
سنويا يصطلح عليه باسم ماراتون الكتاب المقدّس، حيث يتنافس عشرات الأشخاص
لقراءة الكتاب المقدس بنحو متواصل وأمام العموم بدءا من "في البدء" إلى
غاية "آمين".
في الولايات المتحدة الأمريكية تشهد الكثير من المؤسسات التعليمية إقحاما
للمفاهيم الدينية داخل برامج المواد العلمية بقرار من الآباء والذين
يشاركون في المصادقة على المقررات الدراسية ضمن مجالس المؤسّسات باسم
ديمقراطية هي الأكثر ديمقراطية في العالم.
في مدينة لاكويلا الإيطالية قضت إحدى المحاكم عام 2005 بالحكم بالسجن
لسبعة أشهر على القاضي الإيطالي لويجي توستي بسبب رفضه العمل داخل قاعة حيث
يُعلق صليب على الجدار، بناء على مفعول اتفاقية لاتران، والتي سبق أن
عقدها البابا بيوس الحادي عشر مع الزعيم الفاشي موسوليني عام 1929.
ترانا إذن لم نعد من الغيب إلى أحوال الناس إلا لنصادف الغيب في أوضح تجلياته. وسنرى المزيد.
والآن، ما المشكلة؟
من خلال الحوارات السابقة أدركت وجود سوء تفاهم ناجم عن أنّي تأخّرت
قليلا في بسط قناعاتي المرجعية. على أنّ الذي أرغب في تأكيده مجدّدا، أن لا
شيء كان عندي جاهزا قبلا وقبل خوض غمار المحاورات الأوانية، شاكرا فيها
كافة المحاورين والذين كانوا رحماء في حدّتهم أشدّاء في حكمتهم.
على أني الآن فقط ربما أجد نفسي جاهزا لعرض رؤيتي المرجعية كما حبكتها في منسج الأوان بجهد موصول وحوار مسؤول.
وبدءاً أودّ أن أبسط تذكيراً بسيطاً :
ليس لي أن أتّفق مع من يختزلون العلمانية في مجرّد تدبير تنظيميّ وإجراء
قانوني للفصل بين الدين والسياسة، أو بين الدين والدولة، أو بين الدين
والمدرسة، أو بين الدين والمدينة برمّتها.
بل أعتبر أنّ أزمة العلمانية في الغرب ناجمة عن اختزال العلمانية في
مجرّد جدار افتراضيّ يفصل بين الدين والسياسة. بحيث كان الأمر بمثابة تسوية
قائمة على الفصل الميداني وعلى تحديد خطوط تماسّ تختلف أشكالها من بلد
غربي لآخر.
أحيانا يحتفظ الدين بمساحات واسعة داخل الدولة، كما هو حال الدانمارك حيث
يشترط الدستور انتماء الملك إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية(1)، أو كما هو
حال النرويج حيث يشترط الدستور، فضلا عن الملك، انتماء أزيد من نصف
الوزراء إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية(2). وقد يحتفظ الدين بمواقع محدّدة
داخل المدرسة، كما هي برامج تدريس الموادّ الدينية، والتي قد تكون إما
إجبارية كما هو الحال في إيطاليا أو اختيارية مثلما هو الحال في بلجيكا
وألمانيا. وقد تظلّ خطوط التماسّ بين الدين والسياسة متحركة تبعا للمزاج
العام للناخبين كما هو الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية.
لا أعتقد بأنّ أزمة العلمانية في الغرب مجرّد عوارض هامشية على طريق ذي
اتجاه واحد نحو "المساء الكبير" وفق التعبير الأوروبي، أو "الفجر الجديد"
و"الصباح القريب" وفق التعبير العربي، وإنما أزمة العلمانية تعبير عن تعثر
الإصلاح الديني الأوروبي وإجهاضه في المنتصف.
فلقد استمرّ الله في نفس وظائفه كراع لحركة التاريخ حسب التصوّر المسيحي،
بدءا من الخطيئة في سفر التكوين إلى غاية الخلاص في سفر الرؤيا. وتم
الاكتفاء بوضع جدران افتراضية تحاول الحدّ من تدخّله في مجال اختصاص الدولة
الوطنية. وغالبا ما تمّ الاكتفاء بهدنة ترضي الدولة ولا تغضب الربّ، من
غير أن يوازي ذلك تعديل ثيولوجي في وظائف الله، ونقصد بذلك تصوّر الناس
لوظائف الله.
كثير من الثيولوجيين الغربيين اليوم يحاولون استئناف معركة الإصلاح
الديني على المستوى الأنطولوجي، من بينهم الألماني هانز كينغ والمعروف
بشعاره : لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان. وهو يخوض اليوم نضالا
مضنيا من أجل رفع العصمة عن البابا وعن عموم رجال الدين، أملا في الحدّ من
تدخّل الله في مجريات الأحداث.
ولعل قدرة الإصلاح الديني على سحب العصمة من رجال الدين ومن النصوص
المقدسة أيضا، يعدّ المدخل الحاسم نحو عودة الإنسان إلى موقعه كصانع
للتاريخ وحامل وحيد لقدره ومصيره.
لقد شهد عصر التنوير محاولات جادّة لرفع سقف الإصلاح الديني من المستوى
السياسي إلى الأفق الأنطولوجي. حيث ارتأى جان جاك روسو إمكانية اختزال كل
تعقيدات المسيحية في بضعة مبادئ ضمن ما اصطلح عليه باسم "الدين المدني"(3)،
وهي مبادئ يدعو روسو إلى "إعلانها بدقة، من غير شروحات ولا تعليقات"(4).
ويحددها في ما يلي :
"وجود قوة إلهية جبارة واعية خيرة عالمة ومتحكّمة، الحياة الأخرى، سعادة
الأبرار وشقاء الأشرار، قدسية العقد الاجتماعي والقوانين"(5).
على أن أبرز الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة الأمريكية مثل جفرسون
وفرانكلين وأشهر قادة الثورة الفرنسية مثل روبسبيير وسان جيست، ذهبوا إلى
مدى أبعد حين راحوا يتصوّرون وجود خالق (مهندس أو مشرع) للكون، لم يأمر
الإنسان بأيّ شيء، إذ أنّه مجرد عقل صامت، في حين أنّ الإنسان متروك لضميره
الأخلاقي الخالص. هؤلاء وأولئك كانوا ربوبيين (deistes).
وربما استطاع ألان (إميل شارتييه) الذهاب إلى مدى أبعد من الآخرين في
أطروحته الشهيرة : عبادة العقل كأساس للجمهورية، فقد كتب يقول :
"يشعر الناس بنحو غامض بأنّ هناك شيء أسمى منهم، شيء أبدي يتعلقون به
وعلى أساسه ينظمون حياتهم. غير أنّ الذين يحاولون قيادة الناس عبر إثارة
الأمل والخوف لديهم، إنما يمثلون لهم الله في هيئة إنسان يطالبهم بالأضاحي
ويغتبط لآلامهم ولدموعهم، ويمنح في الأخير الحقّ لبعض المحظوظين للحديث
باسمه، إله كهذا إله باطل.
الله هو العقل وهو المحرر… هذا الله يستجيب فعلا للصلاة، لكن الصلاة التي يطلبها تسمى التفكير"(6).
وليس محض مصادفة أن الكثير من أدبيات الثورة الفرنسية دأبت على مصطلح الكائن الأسمى للإشارة إلى الله(7).
المشكلة أن هذا التصور والذي نعتبره بمثابة محاولة للتأسيس الأنطولوجي
للعلمانية، قد تعرّض في الغرب لعملية ضخمة وغير مسبوقة من التجريم
والتأثيم. فسرعان ما وجّهت أصابع الاتهام إلى ما اصطلح عليه سلبا بـ"عبادة
العقل"، بدعوى أنها قادت إلى ظهور مآسي القرن العشرين والمتمثلة في صعود
الإيديولوجيات الشمولية والأنظمة الكليانية، والحربين العالميتين،
والمحرقة، والاستعمار، فضلا عن تخريب البيئة وتهديد السلام العالمي.
وأخيرا انتصر الشعار الذي يقول : إذا كان العنف الذي أنتجته العقلانية
يفوق العنف الذي أنتجته الأديان، وإذا كان لا بدّ للإنسان من عبادة ما،
فلتكن عبادة الله المسيحي.
عندما نتصور أن العنف الذي أنتجته العقلانية أو نتج باسمها يفوق العنف
الذي أنتجته المسيحية الغربية أو نتج باسمها، فإننا نقترف خطيئة في حقّ
المعرفة والتاريخ والذات. إذ نتصوّر الحداثة وكأنها ليست فرصة يجب علينا أن
لا نضيعها وإنما هي آفة يتوجب علينا تفاديها.
والحال أنها تعدّ بالمئات وربما بالآلاف، تلك الكتب والمقالات والدراسات،
التي صدرت في الغرب وتنتهي إلى اتهام الحداثة السياسية أو العقلانية
الغربية باقتراف جرائم وارتكاب كبائر يعجز التاريخ عن غفرانها : حروب
عالمية أودت بالملايين، قنابل أحرقت الملايين واحتباس حراري يهدد ملايين
الملايين.
لكن من حقنا أن نعيد السؤال : هل الحروب والإبادة والاستعمار نتاج خالص للحداثة والعقلانية؟
لنستعد الأرقام الدالة والتواريخ الكاشفة :
في القرن الرابع عشر، وفي سياق حرب المائة عام (1373- 1453) وما تخللها
من أوبئة، خسرت أوروبا ثلث ساكنتها، وكانت فرنسا لوحدها قد فقدت نصف
سكانها.
في القرن السابع عشر، كانت حرب الثلاثين عاما (1618- 1648)، قد قضت على
حوالي نصف سكان أوروبا الوسطى وحوالي ربع سكان القارة الأوروبية.
وأما عن ظاهرة الاستعمار العالمي والتي يلصقها الكثيرون بالحداثة، فإنما
هي في واقع الحال ثمرة تاريخ طويل تعود بدايته على أقل تقدير إلى أواخر
القرن الرابع عشر، حين انطلقت "الكشوفات الجغرافية" من أجل هداية البشرية
وبحثا عن الفردوس الأرضي.
إن العنف الغربي والذي شهده القرن العشرون، من خلال الحربين العالميتين
والاستعمار والمحرقة، لا ينحدر من قيم العقلانية والعلمانية الحديثة كما
يروّج المحافظون والمحافظون الجدد والأصوليون من كل ألوان الطيف، ومن هم
بلا طيف، وإنّما هو عنف ينحدر من تقاليد عريقة في حرب المسيحية الغربية على
الشرّ والمواجهة الخلاصية مع الشيطان. ولعلّ حتمية المواجهة مع الشرّ تظلّ
مركز الثقل في الخطاب الأمريكي منذ سنوات الثمانين إلى اليوم. ولربما
الأمر كذلك بالنسبة لعموم المحافظين الغربيين.
نقرأ في الإصحاح العشرين من سفر الرؤيا :
"رأيت ملاكا نازلا من السماء ومعه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده.
فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان وقيده ألف سنة وطرحه
في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكي لا يضل الأمم في ما بعد حتى تتم
الألف سنة وبعد ذلك لابد أن يحل زمانا يسيراً.
…
ثم تمّت الألف سنة بحلّ الشيطان من سجنه.
ويخرج ليضلّ الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج وماجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر.
فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم.
وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب وسيعذبون نهارا وليلا إلى أبد الآبدين".
على أنقاض وأشلاء هذه الحرب الأخروية والأخيرة، سيقوم الفردوس الأبدي
يقيم فيه من قاتلوا الشيطان حتى الرمق الأخير. فالمواجهة مع الشيطان ليست
مجرد تعويذات كتابية أو شفوية كما تقترح بعض الثقافات، وإنما هي حرب بالنار
والحديد وبالسلاسل والدماء، تمتد فعليا ألف سنة وقد تبتدئ الآخرة فيها منذ
اليوم الأوّل. بهذا المعنى الحرفي والمسمّى بالفهم الألفي، تتكلّم معظم
طوائف المسيحية الغربية، في حين أن الكنيسة الأوثودوكسية تفضّل مخرج
التأويل الرمزي للحروب الألفية، ما يجعل حروبها ضدّ الشرّ أقلّ ضراوة من
عنف المسيحية الغربية ضدّ (قوى أو محور أو إمبراطورية) الشرّ.
نعم علينا أن نقاسم الغرب انزعاجه من السؤال : ماذا لو امتلك أسامة بن
لادن قنبلة ذرية؟ ماذا لو أنه امتلكها صبيحة يوم الحادي عشر من شتنبر؟ هل
كان سيتورّع عن استعمالها بدل الطائرات المدنية؟
لكن من واجبنا أن نعمّم السؤال ليغدو أكثر إثارة للانزعاج قبل فوات
الأوان : ماذا لو أنّ طائفة من الطوائف التي نفّذت انتحارات جماعية، طيلة
سنوات الثمانين والتسعين استعجالا للخلاص القيامي (هيكل الشعب، الطائفة
الداوودية، نظام هيكل الشمس…)، قد امتلكت القنبلة الذرية لحظة الحماسة
القصوى لقرار الانتحار؟
نعم يتوجب علينا أن نتقاسم مع الغرب تخوّفه من امتلاك إيران لسلاح نووي
قد يدفع بأية قيادة أصولية متحمّسة إلى المواجهة الأخروية مع الشيطان
واستعجال عودة المهدي، لكن لا شيء يؤكّد بأنّ قيامة المسيح ستكون أكثر
هدوءا وإمتاعاً من قيامة المهدي.
هذا الغيب الذي نستصغره بدعوى العلم والمادة قد يثأر منا حين نغفله،
فربما لا يكتفي بأن يصبح بدوره قوّة مادية وحسب، وإنما قد ينتهي في أية
لحظة إلى تدمير العالم "المادي" بأكمله، هذا إذا لم ننزع فتيله منذ الآن
وقبل فوات الأوان، ما يبرر حاجة العلمانية إلى إصلاح أنطولوجي يسندها.
لا يكفي أن نبعد الدين أو نستبعده جزئيا أو كليا من الدولة والمدرسة حتى
نضمن عدم عودته إلى السياسة. لا بدّ من مجهود يرمي إلى إعادة بناء صورة
الدين، بل كافة الأديان، بحيث يصبح الله أكثر سموّا من أن يحشر نفسه في
الحروب والمعاهدات، وحظّ الأنثى وعدد الركعات، وحمل مريم وستر العورات.
وهل يكون هناك معنى لكلمة "الله أكبر" غير هذا المعنى؟
الهوامش: