ناقش البرلمان البريطاني قبل أسابيع تقريراً علمياً أعدّه باحثون في جامعة
تكساس الأمريكية، ومضمونه أنّ العلاجات المثليّة تقتل الخلايا السرطانية
وتترك الخلايا الطبيعية سليمة معافاة. والمعالجة المثلية homeopathy هي أحد
فروع الطبّ البديل وهي تعتمد على إعطاء المصاب بمرض ما، جرعات صغيرة من
دواء لو أعطي لشخص سليم لأحدث عنده نفس أعراض المرض المستهدف بالعلاج.
كانت غاية النائب البريطاني ديفيد تريدينيك David Tredinnick من طرح
التقرير المذكور للنقاش البرلماني، هي المطالبة بالمزيد من الإنفاق الحكومي
على الأدوية التكميلية والبديلة، وهو الأمر الذي يلقى صدى جماهيرياً
واسعاً، فالغاية على ما يبدو للوهلة الأولى سياسية انتخابية بالدرجة
الأولى. وإذا كان من حقّ النائب كنائب أن يطالب بما يريد وبما يزعم أنّ فيه
مصلحة عامّة، وبما يعتقد أنّه يرضي الجماهير ويمكن أن يربحه انتخابياً،
فهل من حقّ العلماء والمجلات العلمية أن تنشر تقارير مشكوكا في صحّتها وفي
دقّتها العلمية؟ وسواء نجح النائب المذكور في استحصال موافقة البرلمان على
ما يطالب به أم فشل في ذلك، فإنّه على الأقلّ سوف يكسب المزيد من الأصوات
وهذا يعتبر نجاحاً سياسياً. ولكنّه في الوقت نفسه يعبّر عن فشل علمي ذريع
ليس لمن طرحه بالطبع، بل لمن وفّر له فرصة طرحه، وهذا الفشل له أكثر من
سبب، وأكثر من وجه، أهمّها أنه يسمح بأخذ العلم مطيّة أو رهينة للبعض من
أصحاب المصالح الخاصة لتحقيق مصالحهم ومراكمة أرباحهم المادية والمعنوية.
ولا يكون سهلاً آنذاك نفي تهمة التواطؤ أو التحالف بين جهات علمية وجهات
تجارية أو صناعية أو سياسية … وهو ما ينبغي رفع الصوت ضدّه عالياً إلى أقصى
الحدود، إن كان رفع الصوت يجدي في مثل هذه الحالات.
لقد نقل تريدينيك عن علماء في جامعة مرموقة قولهم إنّ المعالجة المثلية
تشفي السرطان، وهو لم يكن كاذباً قطعاً. فهناك بالفعل دراسة بهذا المضمون
نشرت في المجلة الدولية لعلم الأورام International Journal of Oncology في
شباط الماضي. والدراسة هي جزء من الأدب العلمي المحكّم الذي يقوم بمراجعته
وإجازة نشره نفر من أهل الاختصاص والخبرة، والذي يعتقد على نطاق واسع أنه
أصل العلم وجذره باعتباره الطريقة الأكثر مصداقية وموثوقية لتقييم الحقائق.
لكنّ تلك الدراسة تدّعي أمراً يتبيّن عند التدقيق فيه أنّه غير صحيح،
ويمكن فضحه وتفنيده بسهولة من قبل المختصين بالموضوع، فثمّة وجوه كثيرة
للقصور في تلك الدراسة أدّت بالباحثين الذين قاموا بها إلى استنتاجهم
الخاطئ. ورغم وضوح ذلك وفضحه لم تُسحب المقالة وما تزال تشكّل جزءاً من
السجلّ المعتمد في التقييم العلمي للحقائق المتعلّقة بالمعالجة المثلية.
هذه الحكاية، ومثلها كثير، دفعت بعض العلماء والكتاب العلميين إلى اعتبار
نظام التحكيم المعتمد لإجازة النشر في المجلات العلمية، نظاماً فاشلاً
ومعيباً للغاية. وفي هذا الإطار، يروي مايكل بروكس Michael Brooks، وهو
كاتب واستشاري في موقع عالِم جديد New Scientist، كيف أنه أخذ على عاتقه أن
يكتب قصة عن عالم الفيزياء الروسي الذي قام بإعادة تحليل نتائج تجربة من
القرن التاسع عشر أظهرت حينها أن الأثير ليس له وجود. وقد كان من المعتقد
قبل ذلك ولفترة طويلة أن مادة الأثير هي الوسيلة التي ينتشر عبرها الضوء،
وأنها تملأ كل الفضاء، وأن حركة الأرض بالنسبة إلى الأثير تنتج سرعات
مختلفة للضوء حسب اتجاه حركة الأرض عبر الفضاء في أوقات مختلفة من السنة.
وعندما قام ميكلسون Michelson ومورلي Morleyعام 1887 بالتجربة المعنية التي
لم تساند تلك الفكرة السائدة، أصيب الجميع بالدهشة آنذاك.
لكنّ العالم الروسي المعاصر في المقالة الجديدة، المحكّمة والمنشورة
فيPhysics Letters A ، توصّل إلى استنتاج مفاده أن الأثير موجود في الواقع.
وهذا يعني تشكيكاً في جميع قوانين الفيزياء في القرن العشرين، كما يعني
أنّ اينشتين Einstein كان مخطئاً في نظرته للكون وفي نظريته حول النسبية.
الأمر الذي لم يعجب بروكس واعتبره "قصة كبيرة"، ولذلك قرّر من باب
المسؤولية العلمية أن يحاول تصحيح الأمور. فأرسل رسائل ودية إلى خمسة من
علماء الفيزياء الذين يفترض أن يكونوا على دراية بمادة الأثير. وقد أجابوه
جميعاً ـ مشترطين عدم ذكر أسمائهم ـ أن هذا خطأ فادح وأنّ تلك المقالة ما
كان ينبغي أن تنشر أبداً.
قام بروكس على الإثر بإرسال مضمون الانتقادات إلى محرّر المجلة، وكذلك إلى
كاتب المقالة الذي حاول في البداية أن يصرّ على موقفه ويدافع عن مقالته.
لكنّ بروكس اقترح على المحرّر أنها يجب أن تُسحب، من أجل الابتعاد عن
المشاكل. وفي النهاية سحبت المقالة وحقّق بروكس انتصاراً صغيراً، لكنه رغم
ذلك عبّر عن القلق من إمكانية أن تتكرر هذه القصة، وهو ما يحدث في الواقع.
ولا بدّ أنّ هذا هو ما دفعه إلى إثارة موضوع المعالجة المثلية والنائب
تريدينيك في مقالة له في الموقع الذي يكتب فيه، بعنوان "يجب إصلاح التحكيم
فوراً"، ختمها قائلاً :"أنا أعلم أن العلماء يكونون تحت ضغط هائل، وأن
المراجعة التحكيمية عملية شاقة وتتطلب وقتاً. ولكن إلى أن يمكننا أن نفعل
شيئاً حيال هذا الأمر، هل يحقّ لنا أن نشتكي من تريدينيك وأمثاله المنتشرين
حول العالم، الذين يقولون للناس إنّ المعالجة المثلية تشفي السرطان؟".
إذا كان كلام بروكس ينطبق على الأخطاء غير المقصودة، والناتجة باعتقاده عن
ضيق الوقت وضغط العمل، فإنّ ثمّة وجهاً أخطر للمسألة يتعلق بما يسمى تنازع
المصالح والانحياز الناجم عن ذلك. وهذا ما يتجلّى في حكاية الأتارازين
atrazine وهو مبيد عشبي واسع الاستعمال في شتى أنحاء العالم.
وتبدأ حكايته في مقالة طويلة نشرت عام 2008 فيCritical Reviews in
Toxicology لعالم البيئة كيث سولومون Keith Solomon من جامعة غولف في
أونتاريو في كندا ومجموعة من زملائه. وكانت مقالتهم خلاصة مراجعة لجميع
الدراسات المتاحة حول الأتارازين، وقد استنتجوا من خلال ذلك أن الغالبية
العظمى من المشاهدات والدراسات لا تؤيّد نظرية أن تراكيز الأتارازين يمكن
أن تؤثّر على التناسل و/ أو التطور التناسلي في السمك، والبرمائيات،
والزواحف. وبالتالي لا يمكن تبنّي رأي حاسم حول سمّية الأتارازين، وذلك رغم
وجود العديد من الدراسات التي تتحدث عن مخاطره الكثيرة والمؤكدة على
الحيوانات البرية بشكل خاص، وعلى البيئة بشكل عام.
استفزت تلك المقالة / المراجعة الكثيرين، وخاصة العلماء والكتاب الذين
رأوا أعمالهم ونتائجهم تتعرض للتحريف والتشويه، فقام عالما البيئة جايسون
رور Jason Rohr وخريستا مكوي Krista McCoy من جامعة فلوريدا الجنوبية في
تامبا، بإجراء بحث نقدي على ما جاء فيها، وقد اكتشفا بالنتيجة أنها مثال
معاصر وفاقع على تنازع المصالح والانحياز العلمي. حيث أنها ـ حسب العالِمين
ـ تقدّم أكثر من خمسين دراسة بشكل مشوّه ومحرّف، وتحتوي على 122 عبارة غير
دقيقة و22 عبارة مضلّلة.
أما تنازع المصالح فينشأ من كون المقالة، كما أبحاث عدد من مؤلفيها، ممولة
بشكل مباشر أو غير مباشر من شركة سينجنتا كروب بروتكشنSyngenta Crop
Protection التي ـ بالصدفة! ـ تنتج مبيد الأعشاب المستهدف بالدراسة. وإن
كان كيث سولومون حاول أن يدفع التهمة عنه وعن فريقه ويدّعي أن تلقّي
تمويلات صناعية لا يجعل استنتاجات هذه المقالة منحازة أو زائفة، لأن قيمة
البحث برأيه يجب أن تقاس ببساطة بكيفية إدارته وعرضه وتفسيره. لكن رور
ومكوي يفنّدان دفاعه الضعيف أصلاً من خلال كشفهما أن 117 خطأ من بين الـ
122 التي اكتشفاها تقدم النفع المباشر لشركة سيجينتا وتصب في مصلحة أمان
الأتارازين، أما الأخطاء الخمسة الأخرى فأربعة منها محايدة وواحد فقط يمكن
استثماره ضدّ مصلحة سيجينتا. أما بالنسبة للعبارات المضلّلة الـ 22 فجميعها
دون استثناء تصب في مصلحة سيجينتا.
ويروي رور، صاحب الخبرة الكبيرة في البرمائيات وبيئتها، بكثير من المرارة
كيف أنه عندما قرأ مقالة سولومون وزملائه للمرة الأولى أحس بالغضب والغيظ،
وقطّب حاجبيه لدى قراءة أكثر من عبارة. فمثلاً قللت مراجعة سولومون من
أهمية ثلاث من مقالات فريق رور بحجة أنها لم تعاير التراكيز الواقعية
للأتارازين، مع أنّ تلك التراكيز مذكورة بشكل واضح وصريح في المقالات
الثلاث المنتقدة. وفي مثال آخر زعمت المراجعة عن دراسة معينة أنها ذكرت عدم
حدوث تأثيرات مؤذية عند التعرض لتراكيز الأتارازين الأقل من 100 جزء في
البليون، وبالعودة إلى تلك الدراسة وجد رور أنها ذكرت حدوث تأثيرات سمية
عند تركيز 10 جزء بالبليون. وفي مثال ثالث، زعمت المراجعة أن إحدى الدراسات
المستشهد بها ذكرت أن نسبة الضفادع الناجية في حوض ليس فيه أتارازين كانت
15 بالمائة، بينما النسبة المذكورة في تلك الدراسة كانت 85 بالمائة. وهكذا
تكرّ سبحة الأخطاء والانتقادات لتملأ خمساً وأربعين صفحة. مع العلم أن
مراجعة سولومون وزملائه جاءت في خمسين صفحة، وقد استشهدت على الأقل بـ 194
مقالة، بالإضافة إلى ملخصات خمسة مؤتمرات، وأربع وثائق صناعية، ومثلها
حكومية، وبعض أطروحات الماجستير، ومقتطفات من حوالي دزينة من الكتب.
طبعاً لا بد لهذا الكم الهائل من البيانات والمعطيات أن يكون مشوباً ببعض
الأخطاء، وهنا بالتحديد تكمن مسؤولية المحكّمين في اكتشاف تلك الأخطاء قبل
الموافقة على النشر. لكن الذي يحدث عادة هو أن أولئك المحكّمين (وهم غالباً
يعملون دون مقابل مادي) عندما يجدون أنفسهم أمام مخطوطات عملاقة ووقت ضيق،
يكتفون بالبحث عن الأخطاء الكبيرة والفاضحة، تاركين الأشياء الصغيرة
لمحرري الصحف والمجلات، مع أن معظم هؤلاء يقومون فقط بالتأكد من أن الأسلوب
يتوافق مع عرض البيانات وأن قواعد النص صحيحة. دون أن ينفي ذلك وجود كتاب
ومحررين يهتمون بما هو أكثر من ذلك، مثل جانيت رالوف Janet Raloff المحررة
العلمية في مجلة أخبار العلم Science news التي تعتقد أن تقييم الحقائق
يتطلب وقتاً ويكلف مالاً، مشددة على ألا يكون هذا المال يحمل أية شبهة
لتنازع المصالح، ومعتبرة أن هذه التكاليف ينبغي النظر إليها من قبل
الحكومات والمجتمعات كاستثمارات اجتماعية تتيح التأكد من أن العلم الذي
نعوّل عليه، يتم نقله واستخدامه بشكل صادق وموثوق ودقيق وغير منحاز. وتلتقي
رالوف مع مايكل بروكس في الدعوة إلى إصلاح نظام التحكيم المعمول به
حالياً، بما يحقق أكبر قدر من الدقة العلمية المطلوبة دائماً وغير المسموح
لها بأن تترنح أو تسقط في أي ظرف من الظروف، لئلا يفقد العلم مصداقيته
ودوره وتأثيره، كلياً أو جزئياً، ويخلي المجال للخرافات والخزعبلات وأرباع
وأنصاف الحقائق التي يسهل عليها السيطرة على عقول الناس وحياتهم، خاصة
بوجود من يتقنون استغلالها لتحقيق مصالحهم الخاصة، ولو تحت شعار تحقيق
المصلحة العامة، كحال النائب البريطاني الذي بدأنا به الحديث!.