كثير يتحدث عمّا حدث، قليل يتحدث عمّا كان يمكن أن يحدث (فيما لو)، فهذا
النوع من الكلام يشبه الرجم بالغيب. إلا أنّ عالم الإستراتيجية يبيحه، فما
حدث وانقضى ليس سوى خيار ارتأته الإرادة الفاعلة في لحظة تاريخية، وكان
بإمكانها أن تختار غيره، وبمجرّد معرفة قوانين الاحتمالات يمكن التنبّؤ
بإمكانية الحدوث، تماما كالتنبّؤ بالأحوال الجوية.. بيد أنّ الأمر أشبه
بمعادلة رياضية معقّدة، فالحدث التاريخي عموما يشقّ طريقا لصيرورة لاحقة
ليست بالحسبان.. والتاريخ حسب إنجلز يعمل هكذا :
"تنبثق خلاصة التاريخ من صراع إرادات كثيرة، تلدها ظروف الحياة. إرادات
عديدة متقاطعة ومتوازية (…) تؤدّي لتلك الخلاصة، وبالمجمل يمكن النظر إليها
كمحصّلة لسلطة فاعلة عمياء (حرفيا Bewusstlos und Willenlosبدون وعي
وإرادة) فما يريده أحدهم يعرقله آخر .. والحصيلة هي شيء ما، لم يكن كلاهما
يرغب به"(1)
من يتمعّن في كلام إنجلز، ويغضّ الطرف عن تعارضه مع الحتمية التاريخية،
يعثر على مقاربة ذكيّة تحاكي صيرورة التاريخ بمحصّلة القوى في عالم
الفيزياء. ووصفها بالعمياء يرجع إلى صعوبة التنبؤ باتجاه تلك القوى منفردة
وشدّتها، وعليه فإنّ العودة إلى نقطة التماسّ وافتراض صورة احتمالية أخرى
(افتراض المحال ليس بمحال) لا يخرج عن المنطق الرياضي. هكذا نستطيع مثلا أن
نسأل أنفسنا كيف كانت ستؤول الأمور، لو أنّ إدارة بوش الأب قد عقدت صفقة
مع النظام العراقيّ السابق، وسكتت عن ضمّه للكويت عام 1990 وبالمرّة أغمضت
عينيها عن مشروعه النووي الذي كان قد أينع وحان قطافه، أسوة بما فعلته مع
الباكستان؟ إذا طرحنا هذا التصوّر سنجد أننا أمام خيار امتلك حينها شرعية
ما، فسياق الأحداث ودور الملك الأردنيّ الراحل والظروف التي سادت فترة
الحرب مع إيران، تدفع إلى عدم استبعاد صفقة من هذا القبيل. ووفق هذا المنطق
يمكننا رسم صورة احتمالية لما كان ممكن الحدوث، صورة تدغدغ رغبات وأمنيات
البعض، وتقضّ مضاجع البعض الآخر. ولكنّ السؤال لماذا يكون الكويت جزءا من
العراق (وسوريا جزءا من لبنان)؟ لمَ لا نعود أدراجنا بالمشهد التاريخيّ إلى
لحظة حاسمة كوّنت المشرق العربي بقضّه وقضيضه ودوله، تلك اللحظة التي
وُلدت بعد انهيار الدولة العثمانية وهزيمة الرايخ الألماني عام 1918 وتقسيم
التركة العثمانية بين فرنسا وبريطانيا، والتي تبدو للناظر تدشينا لعصر
آخر، ألغى معه الإمبراطوريات القديمة (النمساوية ـ الألمانية ـ العثمانية)
وفتح الأفق أمام عصر الدولة الديمقراطية الحديثة (بيان ويلسون) ؟
بلا شك سنكون أمام لحظة محكومة بالتعسف والعشوائية.. لأن انهيار
الإمبراطوريات القديمة لم يكن سوى مخاض لولادة إمبراطوريات أنكى وألعن.
وانتصار ألمانيا (فيلهم الثاني) لم يكن أمرا مستحيلا بل خاضعا للعبة القدر،
وكان ممكنا لهذه الدولة المعجزة (أقصد المعجزة الاقتصادية الألمانية بين
توحّدها على يد بسمارك حوالي عام 1870 واندلاع الحرب عام 1914) أن تلحق
الهزيمة بخصومها.. وهنا يلحّ علينا السؤال : ماذا لو أن ألمانيا انتصرت
آنذاك، أو ماذا لو أنّ الدولة العثمانية التزمت جانب الحلفاء ولم تغرق في
وهم المعجزة الألمانية؟
نظرة مشاكسة:
لعلّ كتابات الملل والنحل التي زخرت بها بلاد الشام إبان الحقبة العثمانية
وقبلها، وما حملته من عناوين مستفزّة لعقائد الآخر، تشهد ضمنا على بحبوحة
الحرية التي عاشتها الفرق الدينية، رغم ما أشيع عن الدولة السنيّة وولاتها
وتزمّتهم، وتشهد أيضا بأن المشرق لم يعرف انقراض ملّة أو لسان، ولا ننسى
أنّ نصف سكان إستانبول عاصمة الخلافة ولغاية ثلاثينات القرن العشرين، كانوا
من الأقليات (الأرمنية، واليونان الأرثودوكس واليهود).
فالدولة العثمانية ـ وباستثناء صدامها المذهبي مع الصفويين، وهو في
الحقيقة ليس أكثر وحشية من الصدام الكاثوليكي البروتستانتي المتزامن معه ـ
كانت إمبراطورية متعدّدة الشعوب والديانات والألسن، ومحكومة بشرعية حكم
السلالات التي عرفها العالم منذ روما وفارس القديمة، وتقوم في جوهرها على
وجود عاصمة، تحتضن السلالة والأرثوذكسية ومراكز التدوين الكتابي، وجيشا ـ
غالبا من الموالي والغرباء ـ وإدارة للجباية، وعلى محيط مترامي الأطراف
يعيش حياته وأديانه وتقاليده كما يشتهي، فارثودوكسية الدولة لم تكن عائقا
أمام حياة التعدد الإثني والديني في دولة ما قبل القومية،، وبالنظر للإطناب
الإعلامي بموضوع الذمّة والجزية أجد من الضرورة المرور على هذا المفهوم
الذي شاع حوله كثير من اللغط، وأقصد تطبيقات الجزيّة المذلّة بحق المسيحيين
واليهود، والتي تعود مرجعيتها إلى آية قرآنية، وإلى ما سُمي بالعهدة
العمرية.
في البداية أزعم بأن أية قراءة نزيهة للتراث الديني المبكّر، ستكشف أننا
أمام فنتازيا وأدب ديني، يدور حول نص مؤسِّس غامض، ومضطرب أحيانا ويكاد
يخلو من التاريخ والكرونولوجيا، هذا النص ولّد تراثا قصصيا متدحرجا ككرة
الثلج (أسباب نزول، ناسخ ومنسوخ أحاديث..إلخ وفقه ولاهوت تبريري، يلعب على
تلك التناقضات) ولعلّ قصة العهدة العمرية نموذج تاريخيّ لذلك، فقد وقف
الفقهاء أمام صورتين متنافرتين الأولى تقول : "ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين
آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى" (مائدة 85) والثانية تقول: "قاتلوا الذين لا
يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا
يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهُم
صاغرون" (التوبة: 29)
والمتابع لصيرورة العهدة العمرية بشروطها المذلّة والتحقيرية، سيجد أنّ
حضورها اقتصر على الأدب الدينيّ المتأخّر بُعيد حروب الفرنجة أو زحف المغول
في القرن 13م ( وردت في فتاوى الحنبلي إبن تيمية، وكتب تلميذه إبن القيم،
وتفسير إبن كثير لسورة التوبة والمقريزي وغيرهم ، وجميع هؤلاء هم فقهاء
ومؤرّخون متأخّرون) في حين لا ذكر لشروطها التحقيرية عند أكابر وأوائل
المدوّنين القدماء (2)
وما لا تخطؤه العين أن تلك العهدة، هي عهد أمان (أسطوري) أبرم بإسم
الخليفة عمر لسكّان القدس، ثمّ استثمرته لاحقا الكنائس والأديرة لتحصيل
امتيازات من الحكام المسلمين. وما يؤكد ذلك وجود صيغ عديدة لهذه العهدة
خالية من شروط الإذلال أهمّها خمسٌ في دير كاترين (أحدها عهد أمان، منحه
محمّد شخصياً لرهبان الدير، عندما مرّ بهم أثناء رحلة الإسراء والمعراج؟
طبعاً لم ينس الرهبان ترك أثر لحافر البراق على أحد الصخور، تأكيدا لهذا
العهد؟!) وآخر في البطريركية الأرثودوكسية في القدس، أرسله عمر بن الخطاب
لبطريرك القدس صفرونيوس عام 637م. (وطبعا لم ينس عمر تعظيم البطريرك وإطلاق
يده في أموال الجباية الخاصة بكنيسة القيامة) والشيّق هو تمسّك الدير
الأرمني في القدس بعهدة عمرية أصلية، ممنوحة لمطران الأرمن!!
أمّا العهدة الأكثر غرابة فقد ذكرها كاتب الحوليات النسطوري، وفيها يقول
إنّ البطريرك النسطوري يسوهياب الثاني رأى النبيّ محمّدا في منامه وأنعم
عليه بعهدة مذيّلة بتوقيع عمر بن الخطاب شخصيا (3) ومع أنّ هذه القصة تعود
لعالم الخيال؟ لكن علينا بدلالتها، فالزمن المقدّس لا صلة له بمنطق أيامنا.
والحقيقة على الأرض كانت تختلف جذريا، فسلطة السلالات والشرعية
الدولية آنذاك لم تقم شأنا للفقهاء ولم تصغ لأقاويلهم، إلا بما يوافق
هواها، والأرجح أنها كانت تكتريهم لحمل أسفار الأمبراطورية وخدمة سياستها،
هذا ما نلحظه جديا منذ إصدار الفرمان العالي بالخط الهاميوني عام 1856،
الذي يقرّ المساواة لجميع رعايا السلطنة، ويصرّح بإنشاء المجالس المليّة
للطوائف كمرجعية لقوانين الأحوال الشخصية..إلخ وخير شاهد على أفول دور
الفقهاء، هم اليهود أنفسهم، فرغم أن التراث الإسلامي يمطرهم بوابل الذمّ
والتسفيه، إلا أنّهم نالوا دائما الحظوة عند السلالات الحاكمة؟ وليس آخرهم
يهود الدولما في سالونيكي، الذين تربّعوا على قرار الدولة العثمانية أيام
حكومة "الاتحاد والترقي" (وعلى تلّة خرابها)
وبشيءٍ من الكاريكاتورية، يمكن تلخيص الدولة العثمانية، بقصّة أحد ولاتها
الذي سعى كما في مألوف عصره لبناء المساجد والتكايا، ممّا أغاظ والدته
المسيحية، التي لم يرق لها مرأى المآذن؟ ودفعا لتأنيب الضمير وهواجس عقوق
الوالدين، راح هذا الوالي يرسل لوالدته الأموال كي تبني كنائس في البلقان،
مقابل ما يُشيده من مساجد في بلاد العربان (وإنشالله ماحد حوّش) هذه الصورة
كانت حقيقة وتعبّر عن ذلك الزمن. وما أردته في هذه العجالة هو الزعم بأنّ
الدولة العثمانية لم تكن تختلف عن مثيلاتها كإمبراطورية النمسا وروسيا، في
قوانين الجباية والتجنيد وحقوق الأقليات..إلخ وما لحق بشعوبها وإثنياتها لم
يختلف عما لحق بالشعوب الأخرى
وربما كان عام 1820 وبداية ازدهار الإرساليات التبشيرية في المشرق، هو
بداية للتوتر الديني، وتدخّل الغرب بشؤون الطوائف المسيحية المشرقية، هذا
ما تكشفه بعض الوثائق التي تتحدث عن تعايش سلمي بين الأكراد والآشوريين
(النساطرة) في جبال الأناضول ـ بين بحيرة اورمية وفان والموصل ـ حيث تؤكد
البعثات الغربية : "كان النساطرة يعيشون في هدوء ووئام مع جيرانهم الأكراد
البسطاء" وكان من الصعوبة التمييز بينهم، ويضيف المصدر "عندما قام الأمير
الكردي نور الله بزيارة إستانبول سنة 1840، فوّض البطريرك مار شمعون السابع
عشر بالصلاحيات المدنية أثناء غيابه وأيضا برعاية أهل بيته"(4)
ولو تجاوزنا حياة الملل والنحل وتوقفنا عند الحقبة الأخيرة للدولة
العثمانية فلا بدّ أن يسترعينا الإصلاح الكبير الذي بدأت معالمه بإنشاء سكك
حديد عملاقة تربط مركز السلطنة بأطرافها، كالخطّ الحجازي وخطّ الشرق
(باتجاه طهران) وتحديث التعليم، وإنعاش الحياة المدنية والدستورية. ولكم
يُصاب المرء بالذهول وهو يرى بقايا سكك الترام التي تزامن إنشاؤها مع خطوط
الترام في فيينا وميونخ.
وباختصار شديد يمكن القول إنّ دولة بني عثمان كانت صنيعة المدفع الذي
أنتجته واستخدمته بكفاءة وحنكة منقطعة النظير، والمدفع عموما هو رمز
لأوروبا ونهاية عصر الفروسية والقرون الوسطى وانتهاء صلاحية أسوار المدن،
ومؤشّر على أن الدولة العثمانية استثمرت عصرها بكلّ عبقرية، ولم تعتش على
الفتاوى (وجناح الذبابة) بل كانت دولة متحضّرة ومدنيّة بمقاييس زمنها، لا
بل أكثر مدنية من بعض دولنا العربية المعاصرة. ولولا مراهنتها على الحصان
الخاسر (ألمانيا) لاستمرّت تحكم شرقنا العربيّ (حتى يومنا) ولو كُتب لبحرية
فيلهم الثاني أن تحسم معاركها مع الأسطول الإنكليزي، لكنّا ما نزال (على
الأرجح) من رعايا الباب العالي. ولرأينا خليفة المسلمين وهو يرتدي بذلة
"السموكن" في افتتاح حفلات الأوبرا، أو ملابس التزلّج في جبال الألب. وهذا
خبر غير سارّ للكثيرين لكنه كان سيريحنا ممّا نراه من قرف (ومن مؤتمرات
قمّة عربية). فما جرى منذ قدوم جيوش آلنبي واحتلالها للقدس، وإلى حدّ
اليوم، كان عملية احتقار متواصل للعرب.
خاتمة:
أثناء مراجعة ما دُوّن أعلاه، تساءلت عن السبب اللاوعي لكتابة هذا النص..
وكيف لمن تربّى على هتافات القومية العربية، أن ينسى فجأة لواء إسكندرون
وذكرى يوم الشهداء الذي نحتفل به سنويا في 6 مايو تخليدا لمن علّقهم جمال
باشا السفّاح على أعواد المشانق في ميادين دمشق وحلب وبيروت عام 1916
وتساءلت ما هي الكتابة الموضوعية؟ ولم أجد إلا إجابة واحدة : الموضوعية هي
خيانة الذات (بموضوعية) لعلّي كنت معجبا ب"أردوغان" وجسارته في مؤتمر دافوس
الأخير، لكنّ هذا ليس مبررا كافيا. وبعد تأمّل تذكرت قصتين من دفاتر
الماضي القابع في النسيان، الأولى تتعلّق بمدرسة ابتدائية جلست على
مقاعدها، وهي من أقدم مدارس سوريا، ويقترن تأسيسها كما يُروى بمطران شامي،
تجشّم العناء وسافر إلى إسطنبول وقابل السلطان للحصول على إذن رسمي
بافتتاحها (أظنّ نهاية القرن19) والطريف أنّ الناس يصفون مقابلة المطران
للسلطان بحذافيرها كما لو أنهم كانوا معه، وكيف دخل عليه وهو يرتدي ملابس
الكهنوت الخاص بالقداس وخاطبه قائلا: جئت إلى مقامكم بملابسي التي أقابل
بها الربّ؟! وأغلب الظنّ أنّ هذا المطران لم يسافر قطّ إلى إسطنبول ولم يحظ
إلا بمقابلة الوالي في دمشق (وربما أحد سقاته) والناس كالعادة يتخيّلون
ويُبدعون القصص. أما الذكرى الثانية فترتبط بمقابلة عابرة مع عجوز تركيّ
رمقني بامتعاض وقال: عرب خاين