كنت أتأمل النخلة الباسقة المغروسة وسط بيتنا وكأنها ولدت هناك منذ بدء
الدهور. وكانت الشمس تتأهّب للعودة إلى مغربها.. النخلة صامدة صامتة كأنه
لا حياة تسكنها، والتراب البنيّ الكئيب يحيط بها ويسوّر حجرات بيتنا
المبعثرة المظلمة إلا من نور ضئيل مازالت الشمس تضعه في قلبها متردّدة
متمنّعة فيتسرّب إليها خجولا من النوافذ الضيقة…كنت جالسة على الأرض تعبث
يداي بترابها، وكانت النخلة أمامي ممسكة عن الحركة والشمس تتحرّك بطيئة
لكنّها تودّعني في موكب حزين عليه آثار من دمها المسكوب في مغربها الأخير.
هل تزورني غدا عندما تدور دورتها لينفلق صبح جديد لا جديد فيه؟ كنت أجلس مع
نفسي ولا أحدّثها. خرج والداي..ذهبا إلى حفل زفاف آخر في قرية تدفن موتاها
نهارا وتضجّ وهي تستقبل بالزغاريد ليلا أثار المنديل الذي يهبه الذكر
لمنتظريه في الثلث الأخير من ليل قريتنا النائمة نومة أهل الكهوف…كنت
وحيدة. لم يكن معي غيره، شيء بين الوجود والعدم. يجري من الوجود إلى ما
يشبه الوجود أو من العدم إلى اللاوجود أو من العدم إلى العدم. سمعت وأنا
أتأمّل البئر العميقة الواقعة في صحن البيت العتيق صوتا يشبه الحفيف يوحي
بحركة ثقيلة فوق التراب..كان يجرّ ذاته جرّا فوق الأرض الهادئة قرب
النخلة..
رأيت كتلة من اللحم تشبه البشر تتخبّط لتصل إلى غاية لا غاية لها..تلتوي
وتئنّ وتنكمش وتمتدّ، وعندما ألمسها وأحسّ نبض شرايينها أتذكّر أنه هو..
اختلط في مسمعي حفيف ركام اللحم على الأرض وصوت المؤذّن يخبرني بأنّ الشمس
قد غربت وأنّه قد حانت ساعة التوبة من سوءات يوم آخر..نظرت إلى ذاك الذي
ينام في ظلام الدياجير، لم يسئ إلى أحد شطر نهاره.. ولم ير الغروب بعد
ليتوب مما لم يفعل. هل له أن يرى النخلة الصامدة في علوّها ليتأمّلها مثلي؟
وهو الذي لم يتعلّم غير الدبيب كنملة عمياء ضئيلة على سطح الأشياء
يتلمسّها ولا يدرك منها غير ما تصل إليه يداه.. سألت المؤذّن عن معنى
الفلاح الذي يدعونا إليه.. فأجابني صوت لا أدري من أين خرج "هو أن نسير
كالشمس علوّا إن سرنا وأن نقف عمودا إن وقفنا، ذاك شرف إنسانيتنا الذي
فارقنا به البهائم".. نظرت إلى الجسد المهشّم المريض الممزّق وقد سكنت
حركته علّة لا رجاء بعدها ولا أمل… ضاعت الروح في متاهة المادّة
العمياء دون ذنب..ضاعت المادّة في المادّة فلم يبق غيرها.
هل تدرك معنى الحزن؟ كيف تتألّم؟ هل تبحث عن عزاء ممّا هي فيه ولا تصير
إلى غيره..؟ مازالت تلك الكتلة في العام الرابع من عمرها.. يراها الناس
فيتوسّلون من ربّهم اللطف والعافية.. ويدعون لنا بالصبر والجزاء الحسن في
معادنا.. يحمدون الله سرّا وعلانية لأنّ تلك الكتلة المنكمشة في دبيبها على
التراب لم تكن لهم وإنّما كانت لغيرهم.. هل أنّ الحكيم القدير يبتليهم
لذنب اقترفوه؟ ألا يقال" نواص وأعتاب وبعض من الذرية"؟.. قريبا ستكبر
الكتلة ويعظم اللحم وتتضاعف الآلام. يولد الناس أحرارا لكنها ولدت في
القيود.. كانت طفلا لا تساوره الأحلام ولا يعرف للأمنيات سبيلا..يلعب
أترابه في مرح وصخب ويستكين هو في عجز وضعف.. يذهبون إلى المدرسة كلّ صباح
يشيدون دروبا جديدة، أمّا هو فلن يعرف إلى المدرسة سبيلا..وكيف يعرف سبل
الإرادة وقد خلق مهدّما؟ يعيش كائنا زاحفا إن أراد الحركة دفينا في ذاك
البيت الموصدة أبوابه على غضب مكتوم..
يبتسم الأطفال فترتسم تلك الابتسامة العذبة على ملامح آبائهم، أمّا هو
فيرسم على خدود أهله دمعة حزينة صامتة كلما ابتسم..وقريبا ستهجره تلك
الابتسامة عندما تثور الكتلة على القضاء.. هل ستلعن خطأ الطبيعة الجائرة أم
خطيئة قدر أعمى يخبط خبط عشواء؟.. هل ستسأل أسئلة غامضة موجّهة إلى سماء
صامتة، عن معناها، عن علّة وجودها، عن كنه عدمها المعدوم في وجود ليست منه
وليس لها. يبكي الشيء الثقيل المريض.. وهو يئنّ ويتلوّى حين تنتابه حالات
صرع داويناها بمفاتيح الرحمة فاستعصى الدواء، ثم حملناها إلى الحكماء
فردّوها إلينا عاجزين.. سنبكي نحن بكاء مرّا ونتعذّب عذابنا الرهيب..كفّت
الكتلة عن الحركة وخرس صوت المؤذّن. كانت الظهور الحيّة في تلك اللحظة
المقيتة راكعة تصلّي.. وكنت ساجدة أبكي ولا أستطيع الصلاة. الأهل بعيدا
هناك يدقّون الطبول احتفالا بالزفاف وينتظرون الثلث الأخير الحاسم من ليلهم
المشبع بصيحات الألم المكبوت.. رأيت الظلام يحبو مقبلا نحو الكتلة الخامدة
في حركتها. ارتفع صوت الطبول وتعالت أنغام الأغنيات القديمة مسترسلة
متوهّجة متفائلة حتى وهي تشدو بآلام الهجر ووجع فراق من نحب "نخاف نموت
ويسلّو المخدة" وبلغتني رائحة البخور تعبق جاءت بها نسائم لطيفة أنعشت
روحي. استسلمت هادئة إلى عزيمتي التي خانتني مرّات وأنا أرهف سمعي إلى
زغاريد مخيفة طرقت مسمعي نديبا أو شيئا كالنديب.. الكتلة المعذّبة صامتة
تنظر إليّ لكأنّها تريد أن تبوح لي بشيء ولا تستطيع.. احتضنت القدر الأعمى
احتضانا كأمّ رؤوم. تجوّلت به مثلما أفعل دائما في صحن البيت الواسع
المظلم.. طفت بالنخلة أحمل الجسد المهشّم بين ذراعين متعبتين.. اقتربت من
البئر وصوت الأغنيات يرتفع ويتعالى. أسمع صدى الزغاريد تتردّد بين جدران
الغرف الخاوية..
اقتربت من البئر الواقعة وسط صحن المنزل العتيق. نظرت إلى القاع فلم أر في
الظلمة غير الظلام. فتحت ذراعي فسمعت ارتطام الكتلة ببركة الماء الآسنة..
أحسست براحة تملأ صدري. لم أفكر في شيء محدّد. ذهبت إلى غرفتي ورميت بجثّتي
على فراشي…لم أشعر بحاجة إلى البكاء عندما عاد المؤذن ينادي إلى الفلاح
عند العشاء..رفعت رأسي وابتسمت "أخيرا قد عرف أخي المريض المتألّم من وجود
كالعدم معنى الفلاح..".. رأيت النخلة تبتسم لي فابتسمت أنا أيضا. ونمت نوما
عميقا لم أعرفه منذ أربع سنوات خلت.