في معلولا القرية النائمة في حضن الجبال القريبة من مدينة دمشق والناطقة
بالآرامية، ثمّة أديرة محفورة في الصخور أو متربّعة على القمم. كانت تشكّل
لي الملاذ الذي ألجأ إليه في ساعات الضجر والوحشة وما تجرّه عليّ من مشاعر
الاغتراب والإحساس باللاجدوى. كانت زيارتي لهذه الأديرة متكرّرة وعلى الأخص
أواخر الصيف وتستمرّ طوال فصل الشتاء، فلِدَمِ كرومها طعم لا يُنسى،
ولخلواتها سحرٌ يبدّد ماعلق بالروح من هموم الحياة وقلقها، فكانت تلك
الزيارات بمثابة حمّام موسيقيّ يغمرني بسيل من النغمات القادمة من مكان
سرّي للصفاء يزيح عنّي الكدر، ويسعفني بالآمال والرغبة العارمة بالتجديد،
فأردّد بيت شعر لا أذكر صاحبه يقول: صفوٌ أتيح فَخُذْ لنفسك قسطها….
فالصفوُ ليس على المدى بمتاحِ.
تعتبر بلدة معلولا الواقعة شمال شرق العاصمة السورية دمشق، من أقدم
البلدات التي ما تزال مأهولة بالسكان منذ تشييدها في الألف الأولى قبل
الميلاد على أيدي الآراميين، وحتى اليوم ما برح أهلها يتحدّثون اللغة
الآرامية إلى جانب اللغة العربية. ترتفع معلولا 1500م عن سطح البحر، وتقبع
وسط جبال القلمون الصخرية الجرداء، ومناخها معتدل الحرارة صيفا وشديد
البرودة شتاء، وتحصر الجبال بينها واديا تنتشر فيه الأشجار المثمرة وتنساب
فيه الينابيع الباردة، وتشكّل بيوت معلولا المشيّدة على السفوح لوحة جبلية
رائعة الجمال وهي تأخذ شكلا متدرّجا جعل بيوتها متراكبة بعضها على بعض،
وبسبب ضيق الوادي حوَّل أهالي معلولا بعض المغاور القديمة المحفورة في
الصخور إلى بيوت حديثة صالحة للسكن. ومعلولا كلمة آرامية تعني المدخل،
وجاءت هذه التسمية لوجودها ضمن شِعب جبليّ جميل يقطع سلسلة جبال القلمون.
في إحدى زياراتي لـ"دير مار سركيس وباخوس" الذي يعلو القرية، التقيت بالأب
المشرف عليه، وكان هو المبادر بتعريف نفسه وسألني عن نفسي ومن أيّ بلد
أنحدر وهل هي زيارتي الأولى لمعلولا، وبعد أن جرى التعارف بيننا طلبت منه
مقابلة للحديث والحوار بعد أن أكمل تجوالي في الدير. فرحّب بالأمر وأبدى
استعداده لذلك.
وبعد أن أكملت ما عزمت القيام به وتجوّلت بين الإيقونات والشموع ورائحة
البخور وجموع الزائرين من مختلف الجنسيات والأديان والوجوه، قفلت راجعا
إليه فاستقبلني بترحاب وأدخلني إحدى الغرف التي كانت معدّة للضيوف. بدأت
حديثي معه بالقول: "أرجو أن يتّسع صدرك لما أحمله إليك من أسئلة"، فأجاب
مبتسما سل ما بدا لك ولا تشعر بالحرج من أيّ موضوع تودّ الخوض فيه.
بدأت حواري معه بإحدى آيات الكتاب المقدّس، العهد الجديد " لوقا 11: 2-4
"التي تقول ما نصّه (وإذا صلّيتم، فلا تكونوا مثل المُرائين، يُحبّون
الصلاةَ قائمين في المجامع، ومفارقِِ الطرق ليشاهدهم الناس. الحقّ أقولُ
لكم: هؤلاء أخذوا أجرهم. أمّا أنتَ فادخل غرفتك وأغلق بابها وصَلّ لأبيك
الذي في السماء لا تراه عين، وأبوك الذي يرى في الخفية هو يكافئك. ولا
تردّدوا الكلام ترداداً في صلواتكم مثل الوثنيين، يظنّون أنّ الله يستجيب
لهم لكثرة كلامهم. لا تكونوا مثلهم. لأنّ الله أباكم يعرف ما تحتاجون إليه
قبل أن تسألوه).
تساءلت عن الغرض من الكنيسة وسائر المؤسسات الشبيهة إذا كان يحقّ للمرء أن
يمارس طقوسه وعبادته في خلوة لا يعلمها إلا الله بل يوصي بها الكتاب
المقدّس؟! حتى إنه يدعو لعدم تكرار الكلام والأدعية التي هي ديدن كلّ صلاة
في أماكن العبادة العامّة. فأجابني الأب بسؤال عن الدين الذي تنتمي إليه
أسرتي فأجبته: إنّي من عائلة مسلمة. عندها قال لي إنّ المسلمين يؤمنون بأنّ
القرآن منزّل من السماء أمّا نحن المسيحين فنرى أنّ الكتاب المقدّس كتب في
الأرض على أيدي بشر وأخذ فترة طويلة ليكتمل على الصورة الأخيرة التي هو
عليها الآن. هذا أوّلا، أمّا بخصوص ما طرحت من جدوى المؤسّسات الدينية
كالكنيسة والأديرة وما إلى ذلك، فردّي هو التالي: الإنسان روح وجسد والروح
توّاقة دائما للتحرّر والانعتاق من سجن الجسد، لذلك هي تميل بطبعها نحو
التحليق بعوالم لا يحدّها حدّ ولا يأسرها قيد، ولكنّ للجسد أنظمته الخاصة
وقوانينه، لذلك نحتاج إلى منْ يقوم بهذه المهمّة. فالكنيسة بالتالي هي
الراعي الذي يشرف على هذه المهمّة. كان في إجابته شيء من المنطق ولكني لم
أقتنع تماما بما قال لسببين، الأوّل كون الأب هو إبن هذه المؤسسة فهو يدافع
عنها وعن مصالحها، والسبب الثاني هو الحالة المطاطية التي أراها في النصوص
والآيات في الكتب المقدّسة. فمرّة تتحوّل إلى دعوة فيها من حرية الاختيار
الشيء الكثير، ومرّة أجدها وقد أحكمت الطوق على رقاب المريدين والتابعين
لتخلق منهم عجينة طيّعة بيد المؤسسات التي تتحدث بإسمها وتتبنّى تطبيقها.
سألت صديقي عن الأهوال والجرائم التي أقدمت على ارتكابها محاكم التفتيش
بإسم الكنيسة والمقدسات. فأجابني بأنّ تلك الأخطاء!! حدثت فعلا واعترفت
الكنيسة بها وقدّمت اعتذارها.
سألته من أين تأتي القداسة إذن إذا كانت هذه المؤسسات الدينية ترتكب مثل
غيرها من المؤسسات أخطاء فادحة التكاليف وجرائم كالتي أرتكبتها محاكم
التفتيش؟ فعاد للحديث عن دنيوية كلّ هذه المؤسسات. عند هذا الحدّ شعرت أنّ
الحديث سيدور في حلقة مفرغة، فشكرت للأب استقباله لي وخرجت من غرفة الضيوف
يجول برأسي حديث قديم، حدث ذات مرة وقبل ربع قرن أو يزيد على ذلك أن تعرّفت
على أحد المشايخ الذين يثيرون لدى الآخرين الأسئلة، بما يطرحونه من أفكار
جريئة أو بامتيازهم بسعة الصدر وقبول أراء الآخرين بأريحية. في ذلك الوقت
لم تكن مصطلحات التطرّف والتشدّد مطروحة كما هي عليه اليوم. وفي ذلك الوقت
كانت الساحة تزدحم بالأحزاب والتنظيمات السياسية بمختلف توجّهاتها وبُناها
الفكرية والأيديولوجية.
كان هناك مفهومان رائجان هما التقدمية والرجعية، ولم يكن المشايخ يتمتّعون
بالنفوذ والسلطة كما هم عليه الآن بل على العكس تماما. تقدّمت من الشيخ
لأسأله عن الجدوى من العبادات والآيات القرآنية تؤكّد على أنّ (الله غنيّ
عن العالمين) وليس بحاجة لعبادتهم وأنه (يرزق من يشاء بغير حساب) وأنّه
يقول (كلاً نمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محضورا) إلخ..
أجاب الشيخ قائلا: قد تكون منتميا لأحد الأحزاب القومية أو الماركسية،
والمعروف أنّ هذه الأحزاب لديها نظام داخليّ يحدّد ما على الفرد المنتمي
لها من واجبات ومنها على سبيل المثال الحضور للمشاركة في اجتماعات ولقاءات
الحزب أليس كذلك؟ أجبته بنعم. فبادرني بالسؤال التالي: ماذا يحصل للفرد
المنتمي لحزب معيّن إذا تغيّب عن الاجتماعات لثلاث مرات؟ قلت: يتمّ فصله من
الحزب. قال لماذا يُفصل؟ هل بسبب قناعاته وفكره الذي لم يتغيّر، أم فقط
بسبب عدم التزامه بالحضور إلى الإجتماع؟ قلت فقط لأنّه لم يواظب في الحضور.
عندها قال الشيخ كذلك العبادات، فهي بمثابة الاجتماعات الناظمة لمسبحة
الإيمان. قلت له إذن قضيّة الإيمان خاضعة لتقييم المؤسسة وليس العكس. يومها
تركت الشيخ ورائي وكانت تدور في رأسي أبيات للمعرّي يقول فيها:
عجبتُ لكسرى وأشياعه وغسل الوجوه ببول البــقرْ
وقول اليهود إله يحب سفك الدماء وريح القـتــرْ
وقول النصارى إلـه يضام ويظلم جهرا ولا ينتصرْ
وقوم أتوا من أقاصي البلاد لرمي الجمار ولثم الحـجرْ