ماذا يقصد بالإصلاح الديني الذي يطرح كطريق للخلاص؟ هل المقصود هو فتح الأفق لتحقيق العلمنة وهيمنة فكر الحداثة؟
إذا كان المثال الأوروبيّ هو الذي يسكن الوعي، وهو مقياس الدعوة إلى
الإصلاح الديني، فيجب أن نتلمّس بنية الأيديولوجية الدينية، وهل تحتمل
تحقيق هذه النقلة؟ ويمكن لها بالتالي أن تحتمل تحقيق الإصلاح الذاتي؟
إنّ الهاجس الذي يحكم كلّ العلمانيين الذين يطرحون مسألة الإصلاح الديني
طريقا لتجاوز هيمنة الأصولية القائم منذ ثلاثة عقود، هو فتح الطريق لهيمنة
الليبرالية بمعناها "الأصليّ"، أي تلك المتعلّقة بالعقلنة والعلمنة
والدمقرطة، لهذا يصبح السؤال هو حول إمكانية أن يتحقق هذا النوع من الإصلاح
الديني. إذن، هل الإصلاح الديني ممكن؟
إنّ ما يواجه المدقّق في بنية الأيديولوجية الإسلامية هو أنّه يلمس مدى
التماسك والدمج، وحتى التشابك، بين الدين والدنيا (كما يرد فيها، وهو ما
أشار إليه محمد عبده كذلك)، وبالتالي سنلمس بأنّ "الأحكام الشرعية" مغلّفة
في إطار مقدّس، وهي جزء من الدين ذاته. وسنجد أنّ السياسة هي جزء من الفقه،
وتخضع لأحكامه. وربما لا يكون ذلك مستغرباً لأنّ التأسيس إنبنى على تدامج
الدين كمعتقدات بالأحكام، حيث جاء متضمّناً كلّ ما يتعلّق بالمجتمع، من
الأحكام الشخصية إلى الدولة. وبالتالي فإنّ التزام النص الديني (أي القرآن)
يعني التزام الأحكام في كلّ ما يتعلّق بالمجتمع كما وردت فيه. وهذا الأمر
هو الذي يجعل "العودة إلى السلف الصالح" تعني العودة إلى أيديولوجية
متكاملة، وبالتالي تجاوز أشكال محدّدة من تفسيرها فقط. هذا ما فعله محمد
عبده ورشيد رضا، وهو الأمر الذي يعني بأنّ المسألة لا تحتمل أن يتحقّق
الفصم بين ما هو أحكام وما هو عقائد.
لهذا نجد أنّ كلّ الحركات التي عملت، وكلّ المفكرين الذين عملوا على
إعادة تأسيس الأيديولوجية الدينية، كرّروا البنية ذاتها، ربّما في أشكال
أقلّ أو أكثر تماسكاً، وعقلية. وبهذا فإنّ كلّ تأسيس فكريّ أو سياسيّ للدين
سوف يعيد إنتاج هذه البنية المتكاملة دون مقدرة على الفصم، ومن ثمّ فتح
الأفق لتقبّل فكر الحداثة كفكر يعالج مشكلات الواقع، بما هو واقع اقتصاديّ
ومجتمعيّ وسياسيّ، ويطرح حلولاً له. حيث هنا سوف يكون النص حاضراً، وتكون
الفتوى هي المدخل لرسم السياسة. والفارق ربّما يكون في التزام فتوى سابقة
أو "الاجتهاد" من أجل استصدار فتوى جديدة. وبالتالي تبقى "الأحكام الشرعية"
متكئة على النص، ولكن ربما متكيّفة مع أوضاع جديدة. وهنا لا يتحقق الفصل
بين النص وأمور الدنيا بل يتكرّس.
في هذا الوضع ماذا يعني الإصلاح الديني غير تكريس الفصل بين الدين
والسياسة، وبالتالي القفز عما هو مجتمعي في النص؟ هذه الخطوة لا تبدو أنها
سهلة، لكنها تتطلب ألا يتحوّل الدين إلى أيديولوجية، بل أن يدخل إلى الذات
لكي يصبح شأناً شخصياً، وهو خيار فرديّ يقوم على تجاوز الدين كأيديولوجية.
لكنّ الدين كأيديولوجية سوف يكرّر إنتاج ذاته كلّما وجدت الظروف لذلك، لأنّ
في النص الديني ما يساعد على (أو ما يفرض) هذه الإعادة. وكلّ ميل إلى
تطويع النص الديني لـ"الحداثة" عبر النص ذاته لن يلقى سوى التهميش، لأنّ في
النص ما ينقضه. وربّما كان هذا هو سبب ما آلت إليه كلّ محاولات الإصلاح،
حتى تلك التي قام بها محمد عبده.
بمعنى أن الطابع الأيديولوجي هو الذي يطغى على الدين، وبالتالي فليس من
الممكن إصلاح الأيديولوجية هذه من داخلها، لأنها تعبّر عن مصالح وسياسات لا
تتكيّف مع التحولات الحاضرة، أي مع الحداثة بالتحديد. فهي لا تنظر إلى
الآخر إلا من منظور ديني، ولا تنظر إلى الفرد إلا كجزء من ملّة، ولا ترى في
الصراعات إلا كونها صراعات دينية. إنّها في تفارق معرفيّ مع فكر الحداثة،
الذي تأسّس على القطيعة مع الأيديولوجية الدينية التي كانت تهيمن في
أوروبا. ولهذا كان في صراع عنيف مع شكلها الأكثر أصولية، أي الكاثوليكية،
التي خضعت للتكيّف مع الحداثة بعد انتصار هذه الأخيرة. ربما كان هذا هو
الطابع العام للتطوّر، حيث أنّ الأيديولوجية التي هيمنت في مرحلة من
التاريخ لا "تتنازل" عن هذا الموقع بإرادتها، ولا تتراجع من وعي البشر هكذا
دون جهد "كفاحي" تقوم به قوى حديثة. وكلّ الإصلاح الديني يتمّ بعد أن
تحقّق قوى الحداثة هيمنتها ويشرع في إعادة بناء الوعي المجتمعي.
لهذا يؤدي التطور إلى أن يتحقق الانفصال بين الدين والدنيا، ويخضع المنطق
الدنيويّ لفكر جديد قام على القطيعة المعرفية مع فكر القرون الوسطى (أو
فكر العصر الزراعي)، بينما يعود الدين إلى وضع يكون فيه شأناً خاصاً. أي أن
الأيديولوجية التي تقوم على الدين تتلاشى ليتوضّح الطابع الشخصي للدين
(وهو هنا يحمل معنى قيمياً معيناً بالتأكيد).
إنّ الربط بين الدين والدنيا يجعل كلّ محاولة لإعادة إنتاج الأيديولوجية
التقليدية لا تخرج عن إنتاجها كأيديولوجية دينية مرجعيتها الشريعة، مهما
كانت محاولة تلطيف المرجعية، أو تخفيف بعض الأحكام. وهي في الأخير تؤسّس
دولة دينية، وتميّز بين المواطنين على أساس الدين. وتعتبر أنّ التشريع
مطلق، يمكن تفسيره بشكل مخفف لكنها لا يمكن أن تتجاوزه.
إن ما فعله رفاعة الطهطاوي، ثم عبد الرحمن الكواكبي هو، ليس إعادة إنتاج
الأيديولوجية كما فعل الأفغاني ومحمد عبده، بل تحقيق الفصل بين الدين
والدنيا عبر الدعوة إلى تأسيس أيديولوجية حداثية مستمدّة من التطوّر الذي
تحقّق في أوروبا منذ عصر الأنوار، تنطلق من الفصل بين الدين والدولة،
وتحوّل الدين إلى شأن شخصي، و"حالة روحية". أمّا الإصلاح فقد كان هدف محمد
عبده ورشيد رضا اللذين عملا على إعادة إنتاج الأيديولوجية الدينية
"عقلانياً"، وبما يتكيّف مع التطوّر الواقعيّ الذي كان قد تحقّق عبر تسلّل
بعض مظاهر الرأسمالية (الشركات والبنوك)، من خلال تضمنها في البنية
الأيديولوجية ذاتها. وهذه هي قيمة فتاوى محمد عبده حول التجارة والشركات
التي جرى تفسيرها على أنها تمثل ميله لتحقيق الإصلاح الديني. لكن التطور
الواقعي ذاته جعلها-وهي تؤسّس انطلاقاً من منطق الأيديولوجية ذاته- تميل
للتكيف مع استمرار البنى التقليدية، وتدافع عن هذا الاستمرار في مواجهة
الميل الحداثي الذي كان يخترق المجتمع.
بمعنى أنّ الإصلاح الديني هو من جهة لاحق لانتصار الحداثة وليس مدخلا
لها، وبالتالي فإنّ الحداثة - من جهة أخرى- تتحقّق عبر القطيعة المعرفية مع
فكر القرون الوسطى والانتقال إلى منظومة الفكر الذي بدأ يتبلور مع عصر
النهضة الأوروبية، والذي انتصر مع سيادة الصناعة وانتصار الرأسمالية. وهذا
الفكر هو الذي يجب أن يكون أساس كلّ وعي حديث، وكلّ ميل للانتقال إلى تكوين
مجتمع "عصريّ". وهنا يجب الالتفات إلى المستوى المعرفي قبل أي شيء آخر،
لأنه أساس انتصار الحداثة.
إذن، هنا يمكن القول إنّ ما تحقق في عصر النهضة العربي هو الأساس الذي
فتح الأفق لهيمنة فكر الحداثة، رغم عدم تلاشي الأيديولوجية التقليدية، لأنّ
ذلك كان يحتاج إلى خطوة أخرى تتعلق بانتصار القوى الحديثة. لكنّ السؤال
يبقى حول سبب فشلها هي بالذات؟ أي لماذا فشل فكر النهضة في الوطن العربي؟