ما تزال مجتمعاتنا تعاني من
نسب متفاوتة من الأمية، إلا أننا لا بد أن نلحظ أن نسبة معتبرة أيضاً من
المتعلمين بدأت بالوجود منذ نصف قرن، والنسبة الأخيرة صارت في موقع الآباء
أو الأجداد، مما يشجّعنا على تقصّي تبعات التعليم على تربية الأبناء، وسلوك
الفئة المتعلمة من الآباء تجاه أبنائها. ورغم أننا لا نملك معطيات إحصائية
على نسبة الآباء المتعلمين، والمثقفين منهم خاصة، إلا أن المشاهدات
الحياتية قد تعطينا بعض المؤشّرات على الاختلافات بين التربية التي خضع لها
أبناء لأبوين مثقفين ونظراؤهم من الأبناء لأبوين أميين أو تقليديين.
لن أنكر هنا الفوائد التي نعرفها جميعاً عن أهمية التعليم للمجتمع، ورغم
أنني لا أحبّذ التعميم إلا أنني سأتساءل عن علاقة المستوى التعليمي للأبوين
بالتربية الديمقراطية التي يتلقاها الأبناء، ومن ثم تنعكس على سلوكهم تجاه
أقرانهم أو مجتمعهم ككل.
نظرياً ينبغي أن يحظى من يتربّى في كنف أبوين مثقفين على فرصة أفضل من
نواح متعددة، ومنها أن يحظى بمساحة من الحرية والتعبير الديمقراطي تزيد عن
مثيلتها في بيئة تقليدية غير مثقفة. ولكن مهلاً.. فقد لا يكون هذا الافتراض
صحيحاً تماماً أو دائماً، ومن أجل مناقشته سأتساءل: بما أن مجتمعاتنا
تتقدم على صعيد العلم والمعرفة والثقافة فلماذا إذاً تتراجع على صعيد
الحريات الشخصية والديمقراطية؟
أترك السؤال السابق، وآخذ مثلاً الأب المثقف الذي نراه يولي عناية كبيرة
لابنته، إلى حد نراه يميزها عن أبنائه الذكور، فتحظى ظاهرياً بالقسط الأوفر
من اهتمامه، وقد تكون موضع حسد من أخوتها. سنرى الأب في مثالنا ينسجم مع
ثقافته الحديثة، ويمارس ما يعتقد أنه تمييز إيجابي لصالح الفتاة، ولئلا
نستعجل الحكم نبقى مع مثالنا إلى حين تكبر الفتاة وتتحرك مشاعرها تجاه رجل
ما، وقتها ما الذي يحدث؟
في كثير من الأحيان يسفر الأب المثقف عن وجه آخر غير الحب والحنان اللذين
كان يبديهما حتى الآن، ولكيلا نتهم الأب بالازدواجية، وبأن شرقيته قد
استفاقت فجأة، فإن التفسير قد نجده في تلك الرغبة العارمة في السيطرة والتي
أخذت شكل الحب والحنان سابقاً، وما إن بدأ الأب يحس بأنه على وشك فقدان
سيطرته على ابنته حتى تنكشف رغبته في السيطرة كما لم تنكشف من قبل. هنا نرى
أن الكثير من الآباء المثقفين لا يريدون التمييز بين مشاعر الحب الإيجابية
والرغبة في التملك التي نصادفها عند الرجل الشرقي عموماً، وبما أن الرغبة
في تملك الآخر هي نقيض الديمقراطية فستتوقف المشاعر عند ذلك الحد، ونستطيع
أن نصف سلوك الأب في الأوقات السابقة بأنه شكل من الدلال المشروط بعدم خروج
الفتاة عن الخطوط الحمراء المرسومة لها بنعومة وخبرة المثقف!.
ولكيلا نضع اللوم على الأب فقط فإن بعض الأمهات المتعلمات يسلكن نفس
السلوك مع أبنائهن الذكور أو الإناث، وكم من مرة كانت الأم المتعلمة أشدّ
وطأة على ابنتها من الأم التقليدية لأن الإفلات من سيطرة الأم التقليدية،
بسبب بساطتها، قد يكون أسهل من مراوغة الأم المتعلمة التي لا تنطلي عليها
محاولات التحرر من قبضتها.
تبدأ محاولات السيطرة على أبناء هذه الشريحة منذ طفولتهم الأولى، فالآباء
المثقفون باعتداد شديد بالنفس يعتقدون أن أبناءهم أفضل الأبناء، ويجب أن
يكون لأطفالهم مواهب تفوق أقرانهم، وتراهم لا ينتظرون حتى يكشف الأبناء عن
ميولهم فيحاولون قسرهم على ميول تتوافق مع طموحاتهم لا مع رغبات الأبناء،
كأن يصرّ الأبوان على تعلم الطفل الموسيقى بغض النظر عما إذا كان يهوى
الموسيقى أم لا. وقد نرى ذلك أكثر في إلحاح الأبوين على متابعة دروس
الأطفال فتصبح الدراسة، نتيجة مبالغاتهم، واجباً سمجاً وثقيلاً على
الأبناء، وبدلاً من التشجيع المدروس تؤدي المبالغة إلى نفور الطفل وإلى
توقه إلى التحرر من وصاية الأبوين.
وفي خلاصة ذلك نرى الآباء يشعرون بالخيبة عندما لا يلبّي الأبناء طموحاتهم
دون أن يسألوا أنفسهم عما إذا كانت طموحاتهم تستند إلى إمكانيات الأبناء،
والأهم من ذلك أنهم لا يسألون أنفسهم عما إذا كانوا قد سلكوا السبيل الصحيح
من أجل دفع أبنائهم إلى مستقبل أفضل. لكنني أريد أن أسأل سؤالاً آخر:
لقد أتى كثير من المثقفين الرواد من أسر تقليدية أو أمية أو فقيرة، فلماذا
عندما تحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وأصبح لدينا نسبة لا بأس بها من
الآباء المثقفين، نرى البعض من أبناء هؤلاء دون الطموح؟ أليس عجيباً أن
الأب والأم الجاهلين ربيا أبناء متحررين بينما نرى الأحفاد وهم يتفوقون على
أجدادهم بالتعصب والأصولية؟