"الحق في الحب" مطلب يمنحه كل إنسان لنفسه. وإن وجِدت القدرة على صياغة
حقوق كثيرة للإنسان كحقّه في الحياة والحرية والتعبير عن الرأي وغيرها من
الحقوق، إلا أنّ (الحب) من أكثر الحقوق الإنسانية العصية على التسجيل، وغير
القابلة للحصر أو الصياغة لإدراجها في بنود المواثيق الدولية لحقوق
الإنسان. وبديهي أنّ أحداً لا ينكر هذه المشاعر غير الإرادية وغير الخاضعة
لرقابة العقل، على الأقل عند الشخص الذي يعيشها، لكن ما الذي يحدث عندما
تتجرأ هذه المشاعر وتظهر مخترقةً ومتحديةً جدران "تابو" ما في المجتمع،
كاشفةً زيف وكذب العديد من مقولاته التي تدّعي الإنسانية والحضارة، والتي
يزايد متبنّوها على من حولهم بادّعاءات تنفضح هشاشتها أمام أبسط المواقف؟
من المقولات الجذابة التي لا تنطبق في كثير من الجوانب مع ما تدّعيه:
مسألة تسامح وحوار الأديان، التي يتبجّح بها كثيرون في مجتمعاتنا ذات
التنوع الديني والطائفي. أمّا الحب المتبادل بين طرفين يختلفان في الدين أو
الطائفة فهو المجهر الذي يكشف لنا عن تفاصيل واقعية يغفَل عن ذكرها من
يروّج لدينه وفضائله التي لا تعد ولا تحصى، أياً كان هذا الدين. لا أريد
طرح الفكرة بفلسفتها الدينية ولا أن أعالجها من منطلق أفكار نظرية تتربّع
فوق أبراج عاجية، لكنّي أودّ البحث في مدى صدقها وحقيقة تطبيقها على أرض
الواقع، فمسألة الحب، والرغبة في الارتباط بطرفٍ لا ينتمي لذات دين الشخص
أو طائفته وحتى مذهبه، قضيّة موجودة في مجتمعنا على اختلاف بيئاته وتنوعها،
وخاصة في الجامعات التي تضم طلبة شباباً من مختلف الأديان والطوائف، حيث
يحدث أن يلتقي شاب وفتاة ينتميان لدينين مختلفين، وأحياناً لدين واحد لكن
من طائفتين مختلفتين. وبدون سابق إنذار، أو قرار يُتّخذ بملء الإرادة،
تشتعل نار الحب في قلبيهما غير عابئةٍ باختلاف الدين أو الطائفة، معلنةً
بدء علاقة جميلة لا تكترث بمستقبلها تريد عيش اللحظة بكل أبعادها.
والشباب في هذه المرحلة لطالما قرؤوا عن الحب وسمعوا به واشتاقوا إليه
لكنّ كثيرين منهم لم يصادفوه بعد! وعندما يمرّ بعفويّته وسحره متجسداً بطرف
آخر بغضّ النظر عن انتماءاته، بالتأكيد لن يُنصَّب العقل شرطيَّ مرور
ليقطع على الحب الطريق إلى القلب! والخوض في غمار(الحب) تجربة الحياة
المنتظرة، وها هي على أبواب القلب فلم إقفال أبوابه بمفتاح العقل الذي يلوح
من بعيد صارخاً: "وماذا بعد الحب؟!" والجواب هو أمل القلب الحالم بأنّ
الحب لابد أن ينتصر! وأن قوّته ستمدّ الحبيبين بالقدرة والطاقة على مجابهة
الدنيا كلّها في سبيل البقاء معاً.
وكما هو معروف (الزواج) هو تتويج لعلاقة الحب السعيدة، حتى وإن ارتفعت هنا
وهناك صيحات مثل "الزواج مقبرة الحب" أو غيرها من العبارات الغبية أحياناً
والحكيمة أحياناً أخرى، فالاعتقاد السائد أنّ كل إنسان طبيعي يسعى للزواج
بمن يحبّ، لا من آخر كأخيه أو أختها ليبقى قريبا منه أو منها ـ كما تقول
الطرفة الحمصية ـ وهنا تبدأ رحلة الصراعات مع المجتمع والأهل وسدَنة الدين
"المتسامح" والذي "يقبل الآخر" وينسب لنفسه تفسير أسرار الكون جميعاً!
وتتحول هذه الصراعات لعذابات جماعية، وأحياناً لحرب مجتمعية تشمل الحبيبين
وعائلتيهما، بحسب خصوصية كل حالة وتعاليم دين أو طائفة الطرفين، فإن كان
على أحدهما تغيير دينه وقبل بذلك، ستحل الطامّة الكبرى بأهله سواءً على
صعيد إيمانهم ومعتقدهم أو على صعيد مجتمعهم ومكانتهم فيه، وستكثر الضغوط
بكافة الوسائل المشروعة و"الممنوعة" للتدخّل والتأثير على الحبيبين أو على
أحدهما للرجوع عن قرار الزواج. في المقابل تدخل "وجاهات" للوساطة بين الأهل
ليقبلوا بمباركة قرار الحبيبين المناضلين في سبيل إعلاء كلمة حبّها.
وتكرّس ثقافة المجتمع الذكوري فكرة أن يعطي كثيرون الحقّ للذكر دون الأنثى
بتحقيق رغبة محرّمة كهذه، ويتبنى آخرون فكرة أن شعوراً كهذا محلّل للحب
لكنّه محرم للزواج، مبرّرين رأيهم بأنّ الحب لا يقع بقرار يتخذه المرء بملء
إرادته، بل هو شعور خاص بالفرد وحده، لكنّ الزواج بما له من تبعات قرار
مجتمعي تعود نتائجه على الجميع. وقد يطول الكرّ والفرّ لسنوات، يساهم الزمن
فيها باتخاذ القرارات وإصدار النتائج، وقلّما يحرّك الدين ساكناً لحلّ
النزاع، لا بل إنه يسهم غالباً في صبّ الزيت على النار متسبباً بكوارث
مفجعة.
النتائج على اختلافها ـ بحسب الظروف والحيثيّات الخاصة بكل حالة ـ تزوّد
جعبة الحياة بتجارب تغني جميع الآراء، المؤيّدة أو المعارضة على السواء،
ويأخذ كل إنسان العبر التي تناسبه منها وتدعم معتقداته، فإن كنّا نؤمن
بالحب وبالزواج بين الأديان والطوائف المختلفة، سنذكر التجارب الناجحة
حولنا التي عرفناها أو التي سمعنا عنها ونروّج لها. أمّا إن لم نكن كذلك
فعلنا العكس. وسنجد دائما قصصاً وتجارب تدعم الحالتين.
يبقى الحبيبان في هذه التجربة الطرف الرابح عند انتصار حبّهما وتكلّله
بالزواج. وقد يكونان الخاسر الأكبر، لا أقصد في حال عدم زواجهما فقط،
وإنّما ستكون الهزيمة المريرة إذا فشل هذا الزواج بعد كلّ المعاناة
والتضحيات في سبيله، خاصة عندما يحدث أن تسيطر المشاعر على الحبيبين
المتعطّشين للحب في مرحلة معينة، لدرجة تلتغي معها فوارق شخصيتيهما
المتبلورة في بيئتين متناقضتين أحياناً، فيتّحدان بنموذج واحد لا يلبث أن
يتبدّد بعوامل مختلفة، أقّلها زوال الضغوط والآلام المشتركة التي ساهمت في
تماثلهما العارض، هذا عدا عن المعايشة اليومية والروتين الذي لابدّ أن
تفرزه بشكل ما الحياة الزوجية، فيرجع كلّ منهما إلى طبيعته مستعيداً عاداته
التي تربّى عليها. ويصدم كلّ منهما بحقيقة الآخر، الذي توقّع منه التغيّر
مقابل التضحية والمعاناة التي قاساها هو في سبيله.
تبدأ حرب أخرى إمّا على الصعيد النفسي لأحدهما محاولاً التغيّر والتأقلم
مع الآخر حفاظاً على استمرار الزواج ـ هنا لابد من الإشارة أنّه غالباً ما
تكون المرأة هي من يقوم بذلك، لأنها قد لا تستطيع تحمّل عواقب الفشل
ونتائجه الاجتماعية المضاعفة ضدّها ـ أو على صعيد الطرفين الذين قد لا يجدا
صيغةً للتفاهم والاستمرار فيتخذان قراراً "تنبّأ" به كثيرون ممّن لن يخفوا
شماتتهم فخراً بحكمتهم الموهومة!
هل الزواج المدني حل للمسألة المطروحة آنفاً؟ وهل يستطيع مجتمعنا بوضعه الراهن قبول ثقافة تهدم مقدساته وتوقظه من نومه اللذيذ؟
أليست كارثةً أن نقبل بالأمر الواقع.. محلّلاً للحب محرماً للزواج؟!