أصدر البروفيسور جان لوي
بانديه، الأستاذ في جامعة "رين" الثانية بفرنسا مجموعة كتب عن الأدب والفكر
الألمانيين. نذكر من بينها تاريخ الأدب الألماني، ومختارات من الأدب
الألماني، الخ. وفيها يقدّم للجمهور الفرنسي المثقّف صورة بانورامية شاملة
عن تاريخ الأدب الألماني منذ العصور الوسطى. وأتوقّف عند بعض المحطّات
فحسب، فماذا يقول المؤلف مثلاً عن القرن السادس عشر؟ إنّه يعتقد أنّ مارتن
لوثر سيطر عليه، ومعه الحق بالطبع. فلا أحد يستطيع أن ينافسه في القرن
السادس عشر ولا في سواه.. فالألمان يعتبرون لوثر الشخصية الأهمّ في تاريخهم
كلّه. إنّه مؤسّس دينهم ولغتهم وقوميتهم وتراثهم ومفخرتهم. وككلّ العظماء
كان أمّةً وحده. وقد شقّ التاريخ نصفين: ما قبله وما بعده. ولد مارتن لوثر
عام 1483 ومات عام 1546 ودشّن الحركة المشهورة باسم الإصلاح الديني وانفصل
عن بابا روما والفاتيكان وأسّس المذهب البروتستانتي. كما ترجم الكتاب
المقدّس إلى اللغة الألمانية بطريقة رائعة. وأسَّس بذلك اللغة الأدبية
الألمانية لا اللغة الدينية أو اللاهوتية وحدها. وبالتالي فإنّ تأثيره كان
حاسماً على عصره والعصور اللاحقة. ولم يتح لأيّ ألمانيّ أن يؤثّر على الفكر
الأوروبيّ أو الكوني مثلما أثَّر هو. بهذا المعنى فإنّ جميع عباقرة
ألمانيا هم أحفاده بشكل ما: من كانط، إلى غوته، وهيغل، ونيتشه، الخ… وكان
الشاعر الرومانطيقي هانرييش هاينيه قد ألّف كتاباً عن الدين والفلسفة في
ألمانيا قال فيه إنّ مؤسّس البروتستانتية هو الذي بشَّر بالتنوير أو أرهص
به قبل مجيئه بحوالي قرنين. ولكنّ نيتشه اتّخذ منه موقفاً متناقضاً.
فأحياناً يتّهمه بأنه وقف حجر عثرة في وجه النهضة الأوروبية، وأحياناً أخرى
يُثني عليه ليرى فيه المؤسّس الأوّل للفلسفة الألمانية… وفي بداية القرن
التاسع عشر، راح فيخته يرفع رايته بصفته المؤسّس الأكبر للقومية الألمانية
في اتجاهها التحرّريّ والليبراليّ. ثمّ تجمّع حول اسمه كلّ أولئك الذين
أرادوا توعية ألمانيا أو إيقاظها على أسس ألمانية صرفة. وبالتالي فهو الأب
الشرعيّ للقومية الألمانية دون منازع. نقول ذلك رغم أنّه رجل دين توجّه في
كتاباته إلى جميع المسيحيين لتخليص دينهم من الشوائب وتنقيته، وليس فقط إلى
الألمان. بهذا المعنى يمكن القول أيضاً إنّه الأب الشرعيّ للإصلاح الدينيّ
المسيحيّ. من أهمّ كتبه: مقالة حول فساد الكنيسة الكاثوليكية، ثم: نداء
إلى طبقة النبلاء الألمان والأمّة الألمانية، ثمّ: مقالة حول حرية الإنسان
المسيحيّ… وهي تعتبر جزءاً لا يتجزّأ من كتاباته الإصلاحية الكبرى التي
هزّت أوروبا هزّاً في القرن السادس عشر وقسمتها إلى قسمين متناحرين: قسم
كاثوليكيّ، وقسم بروتستانتيّ. واستمرّ الصراع بينهما قرونا قبل أن ينحلّ
مؤخّرا بانتصار التنوير والحداثة في شتّى أنحاء أوروبا.
يقول المؤلف عن القرن الثامن عشر: إنّ هذا القرن هو في ألمانيا كما في
جميع أنحاء أوروبا، قرن التنوير. وفيلسوف التنوير الأكبر هو كانط دون شكّ.
ولعلّه المؤثّر الثاني الأكبر على الفكر الألمانيّ، بل والكوني، بعد لوثر.
والتنوير كان يعني أساساً دعوة إلى الحرية، ولكن ليس الحرية السياسية
بالضرورة، ففي ذلك الوقت كانت المسألة سابقة لأوانها، وإنما حرية التفكير
والتعبير. كان فلاسفة القرن الثامن عشر يحلمون بتحرير الإنسان من هيبة
العقائد التقليدية التي تضغط عليه أو تشلُّ عقله شللا فلا تدعه يفكّر بحرية
واستقلالية. وقد نشروا القيم الإنسانية للتنوير: كالثقة بالعقل، والفضيلة،
والنزاهة، والتفاؤل الحقيقيّ بالطيبة الإلهية، وبالتالي طيبة الطبيعة
البشرية لأنّ الإنسان مخلوق على صورة الله أو لأنّه خليفة الله في الأرض.
وهذه القيم كانت مستمدّة في الواقع من فيلسوف كبير سبق كانط هو لايبنتز.
وكان يقول إنّ عالمنا (أو كوننا) هو، على علاّته، أفضل العوالم الممكنة.
وقد خلقه الله على أفضل وجه، وزوَّده بقوانين عقلانية ومنطقية دقيقة.
وبالتالي ينبغي أن يحصل تناغم أو انسجام بين المطامح الإنسانية، وبين نظام
العالم. ينبغي أن نخضع لهذا النظام الذي خلقه الله على أحسن وجه بعد أن
نفهم قوانينه. وينبغي أن نعيش على هذا الأساس، ففي ذلك السعادة كلّ
السعادة. أعترف شخصيا بأنّي ميّال إلى تبنّي فلسفة لايبنتز المتفائلة
الراضية بقضاء الله وقدره رغم كلّ الكوارث التي قد تحصل لنا وترعبنا ولا
نجد لها حلا ولا تفسيرا. فلماذا يموت طفل غضّ في عمر الزهور؟ ولماذا يصاب
شخص طيّب بالسرطان ويظلّ الشرير في أحسن صحة وحال؟ ولماذا مات عشرات الآلاف
في زلزال هاييتي؟ ولماذا احترقت أمّي في يوم مشرق جميل وبشكل عبثيّ محض؟
الخ..الخ..إذا أردتم أجوبة معقولة عن هذه الأسئلة اللامعقولة فاقرؤوا فلسفة
لايبنتز الذي قد يقنعكم ويعزيكم مثلما أقنعني وعزّاني..ولكن هل أقنعني
فعلا؟ هناك سرّ يتجاوزني، يتخطّاني..
ومن أهمّ الأدباء الذين استوحوا هذه الفلسفة التنويرية في أدبهم :
ليسينغ، وشيلر، وأيضاً غوته في بعض مراحله على الأقلّ. فالتنوير كان يهدف
في الواقع إلى عَلْمنَة القيم الدينية وخلع القدسية على القيم العقلانية
الإنسانية، لا على الأشياء الإلهية. بمعنى أنّ المقدّس انتقل من السماء إلى
الأرض. الحياة الدنيا نفسها أصبحت مقدّسة في حين كانت الآخرة وحدها مهمّة
طيلة العصور الوسطى. الإنسان نفسه أصبح مقدّسا. انظر تركيز الفلاسفة على
حقوق الإنسان وسعادته وعظمته وتفاؤلهم بمستقبله. وبالتالي ففلسفة لايبنتز
أو كانط ليست بشكل من الأشكال إلا علمنة للإصلاح اللوثري. لوثر شكل خطوة
إلى الأمام في وقته، وهما شكّلا خطوة إضافية. وهكذا يكون التقدّم. ولكن في
موازاة ذلك راحت تظهر حركة أخرى معاكسة إلى حدّ ما: هي الحركة الطُّهرية أو
التقويّة. وكانت تدعو إلى التديُّن الشخصيّ الداخليّ، أو الذاتي الخالي من
الشوائب، والصافي صفاء مطلقاً. وهو ما ندعوه عندنا في الإسلام بالتصوّف
الروحاني. انظر حركة التنسّك والزهد مثلا. وقد أثَّرت هذه الحركة الطُهرية
على أدباء ومفكّرين كبار ليس أقلّهم ليسنغ، أو هيدغر، أو غوته، أو شيلر، أو
نوفاليس، أو حتى كانط نفسه الذي ولد في عائلة تقويّة ورعة. فأمّه كانت من
هذا النوع وقد ربّته على تلك المبادئ المثالية. وقد تأثّر بذلك في سلوكه
الشخصيّ، والدليل على ذلك استقامته الأخلاقية المشهورة. وقد ذكرها في نصّ
مؤثّر لاحقا، وأثنى عليها وعلى تربيتها ثناء جمّا. والواقع أنّ العقلانية
التنويريّة لا تنفي الإيمان الروحاني المنزَّه والورع. والتنوير لا يعني
الكفر والإلحاد إلا عند الجهلة، وإنما يعني فهماً آخر – أو تأويلاً آخر-
للدين. فهو يأخذ منه رسالته الجوهرية، أي الروحية والأخلاقية، ويترك ما
تبقّى: أي القوالب والقشور والطقوس الخارجية. وأكبر دليل على ذلك كتاب كانط
الذي يحمل العنوان التالي شديد الدلالة: "الدين ضمن حدود العقل فقط".
لننتقل الآن إلى القرن التاسع عشر لنصطدم فورا بالفلسفة الهيغيلية التي
هيمنت على النصف الأوّل من القرن على الأقلّ. فهيغل 1770-1831 كان يعتقد
أنّ التاريخ هو المحلّ الذي تتحقّق فيه الفكرة المثلى، أو الحقيقة المطلقة،
أو العقلانية الكلية. هيغل بلور أكبر فلسفة للتاريخ في العصور الحديثة.
إنّه فيلسوف العقلانية والتقدّم بامتياز. وكان يرى في الدولة البروسية
الشكل الأكثر اكتمالاً للتطوّر التاريخيّ. ومن المعلوم أنّ عقيدته أصبحت
فيما بعد العقيدة الرسمية للجامعة البروسية (أو الألمانية). أمّا اليسار
الهيغلي المتمثّل بفويرباخ، ودافيد فريدريش ستراوس، وكارل ماركس فقد اعتمد
دروس الأستاذ من أجل بلورة الرؤيا الإلحادية، ونظرية الاشتراكية المادية.
ولكنّ شوبنهاور 1788-1860 مشى في اتجاه معاكس تماماً لهيغل، عدوّه اللدود
فكريا بل وحتى شخصيا. فهو كان يعتقد أنّ الكون محكوم بإرادة جامحة،
لاعقلانية وعمياء. إنها إرادة الحياة أو الرغبة فيها وفي امتلاكها. وهي
إرادة لا تتوانى عن استخدام كلّ الوسائل من أجل إشباع رغباتها وشهواتها
(انظر كيف يتكالب الناس على المال، والرزق، والمناصب، والوجاهات، الخ…).
ولكن هذه الإرادة العمياء الراغبة في نهب الحياة نهباً لا تؤدّي في نهاية
المطاف إلا إلى العبث، والآلام، والموت. هذه هي نظرية شوبنهاور، اختصرناها
بسرعة هائلة. وقد نشرها في كتابه المشهور: "العالم كإرادة وكتصوّر". ولكن
عندما طبع الكتاب أوّل مرّة عام 1818 لم يحظ بأيّ اهتمام، ولم يشتره أحد.
وكان ينبغي عليه أن ينتظر مدّة أربعين سنة تقريباً (أي حتى عام 1854) كي
تظهر الطبعة الثانية من الكتاب، ويحظى مؤلفه بالشهرة العريضة. وعندئذ
اعترفت الطبقة الألمانية المثقّفة بالكتاب بصفته حدثاً في تاريخ الفكر
الفلسفي. هكذا حصل تعارض حادّ بين الرؤيا الإنسانية المتفائلة والإيجابية
لهيغل، وبين الرؤيا التشاؤمية والعدمية بل وحتى التدميرية لشوبنهاور.
والواقع أنه يمكننا أن ننظر إلى العالم أو التاريخ من زاويتين: إمّا من
زاوية الثقة بالإنسان والحضارة والعقل، أو من زاوية عدم الثقة على الإطلاق
بسبب كوارث العالم والتاريخ أو حتى كوارثنا الشخصية. ولكنّ نجاح البناء
الحضاري في أوروبا يغلِّب وجهة نظر هيغل المتفائلة على وجهة نظر شوبنهاور
المتشائمة. نقول ذلك رغم كلّ نواقص هذه الحضارة، بل ومن ميلها إلى التدمير
الذاتي للذات كما حصل أثناء الحرب العالمية الثانية مثلاً. وبالتالي فهناك
عناصر في التاريخ، أو أحداث، تؤيد وجهة نظر شوبنهاور. فالتاريخ ليس كله
عقلاً على عكس ما يدعي هيغل، وإنما قد يجنّ في بعض الأحيان ويدمّر كل ما
بناه في لحظة واحدة…ولكن هيغل بجدله المطّاط استطاع أن يستوعب كلّ شيء بما
في ذلك الجنون والدمار، حيث يقول لك بأنّ ذلك ضروريّ كي نصل إلى العقل..فلا
يمكن أن نعقل إلا بعد أن نجنّ! والبراكين لا يمكن أن تهدأ إلا بعد أن
تنفجر، وكذلك المكبوت التاريخي. ما الذي يحدث الآن في العراق أو في اليمن
أو في أيّ مكان من العالم الإسلامي والعربي؟. البشر لا "يتعلّمون إلا من
كيسهم" كما يقال بالعامية: أي بعد أن يدفعوا الثمن باهظا. لماذا تبدو
الشعوب الأوروبية الآن هادئة وحضارية؟ لماذا لا توجد فيها حروب أهلية أو
طائفية أو مذهبية؟ لأنّها شبعت من كلّ ذلك على مدار القرون الماضية وأخذت
درسا لا ينسى..
أنتقل الآن إلى شخصية أساسية في تاريخ الفكر والأدب الألماني هي: نيتشه.
فماذا يقول عنها المؤلف؟ إنه يرى أنّ نيتشه (1844-1900) عاش في وقت كانت
فيه الفلسفة الهيغيلية تسيطر على الجامعات الألمانية. وفي ذلك الوقت أيضاً
راحت تظهر النظريات الاشتراكية، وينتصر العلم الوضعي، وكذلك التكنولوجيا
والصناعة. ومع ذلك فإنّ نيتشه اتّخذ موقفاً مضادّاً للحداثة. ولا ريب في
أنّ تأثير شوبنهاور عليه كان كبيراً، وشوبنهاور كما هو معروف كان ضدّ
الحداثة والعقلانية وضدّ بناء أيّ شيء في هذا العالم الذي لا يستحق إلا
القرف منه والاشمئزاز وإدارة الظهر له.. فتشاؤمه الأسود كان يقوده نحو
العدمية واليأس من الوجود. ولكن في حين أن شوبنهاور وجد الحل في الألم
والاستسلام، فإنّ نيتشه بنى فلسفته على الفرح والشجاعة والانخراط والحرية.
فإذا كانت الحياة عبثية كما يقول أستاذه شوبنهاور، إلا أنها تظلُّ ذات
غزارة فيَّاضة، وحيوية مفرطة. إنها مليئة بالأشياء والعناصر المستجدة التي
لا تنفد. وبالتالي ينبغي أن نحبّ الحياة ونقبل عليها رغم أنّنا نعرف أنّ
الموت هو الذي سينتصر في النهاية.
ننتقل الآن إلى المنعطف الكائن بين القرنين التاسع عشر والعشرين، عندما
كانت ألمانيا في طريقها إلى أن تصبح أكبر وأقوى دولة في أوروبا. كانت في
طور الصعود إلى القمّة من الناحية الحضارية. فبعد أن وحّدها بسمارك عام
1871 أصبحت الإمبراطورية الألمانية الدولة الأكثر سكّانا. كما أصبحت الأقوى
اقتصادياً، وعسكرياً، وسياسياً في كلّ أنحاء أوروبا. وفي ذات الوقت راحت
الدول التي كانت تهيمن على أوروبا، كفرنسا والنمسا، تنحدر وتنحطّ من حيث
القوّة والأهمية. وكان الألمان في بداية القرن العشرين يشعرون بأنهم سائرون
نحو المزيد من القوة والرهافية والسعادة. وكانت عبارة الإمبراطور غيوم
الثاني الشهيرة التي تقول: "سوف أقودكم نحو أزمنة رائعة" قد أصبحت شعاراً
يجيِّش كلّ الألمان. وكانوا يلحظون أنّ دولتهم قد أصبحت متفوّقة تكنولوجيّا
على معظم دول أوروبا إن لم يكن كلها (ربما ما عدا انجلترا). وفي تلك
المرحلة راح يتشكّل العالم الحديث الذي نعرفه، والذي عاشت داخله أوروبا
طيلة القسم الأكبر من القرن العشرين. فالصناعة أصبحت القطاع الاقتصادي
الأمّ، في حين أنّ الزراعة كانت هي الأهمّ طيلة القرون السابقة. وفي تلك
الفترة تشكّلت مراكز الإنتاج الصناعي الكبرى وتحوّلت إلى مدن ضخمة تجذب
آلاف الناس من الأرياف إلى المدن الكبرى. وفي ذات الوقت راحت تحصل ثورة في
مجال الثقافة الأوروبية. فسيغموند فرويد راح يؤسّس التحليل النفسيّ عن طريق
نشر كتابه "تفسير الأحلام" عام 1900. وفي عام 1905 نشر البرت أينشتاين
نظرية علمية شديدة الأهمية: هي النظرية النسبية. وفي تلك الفترة ظهر عمل
روائيّ يعتبر الآن أحد روائع الأدب الكونيّ ونقصد به روايات فرانز كافكا
(1883-1924)