تبدو المجتمعات الإسلامية
وكأنها لم تعد تتحمّل فكرة الإلحاد، وكأنها صارت أقلّ المجتمعات تسامحاً مع
تجربة الخروج عن الدين : فأحكام الردّة مشهورة وحرية الوجدان مقبورة
ومصابيح العقل مغمورة. وكلّ هذا صحيح، لكنّ الأصحّ أنّ هذا المظهر المتشدّد
ليس أكثر من تعويض عن هشاشة أصلية تجعل الإسلام أيضاً أكثر الأديان
انفتاحاً على أفق الإلحاد. وستختبر هذه الفرضية.
في المقابل، تبدو المجتمعات الغربية وكأنها صارت اليوم من أكثر
المجتمعات تسامحاً مع حرية الاعتقاد وحقّ الأفراد في الإلحاد، وهذا أيضاً
صحيح. لكنّ الأصحّ أنّ وراء هذا التسامح الاجتماعيّ والحقوقيّ ثمّة عوائق
وجودية ووجدانية تجعل الإلحاد تجربة لا تخلو من شعور دراماتيكيّ بالفقد، إذ
ما يزال الملحد الغربيّ يتحدّث عن إلحاده كنوع من الفقد حين يقول : لقد
فقدت إيماني…
كثير من رجال الدولة والفلاسفة والمحللين النفسانيين الغربيين لم
يعودوا متفائلين بمستقبل الإلحاد. بعضهم صار مكتفياً بأفق إصلاح دينيّ
جديد، وآخرون يتطلّعون إلى مغامرات روحية مغايرة. وكثير من المناضلين من
أجل الإلحاد، من أمثال دوكنز وأونفراي، ما عادوا يعتقدون بأنّ الأديان آفلة
بلا جهد نضاليّ طويل.
السؤال : كيف أمسى الإلحاد في الغرب رهاناً صعباً رغم انتشار قيم الحداثة
والديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وما الذي يجعل تجربة الإلحاد في الغرب ترتبط
إلى الآن بنوع من الإحساس بالفقد؟
نقترح الجواب التالي : لقد نجحت المسيحية في الغرب في أن تجعل الطريق إلى الإلحاد طريقاً
شاقّاً ملتوياً معقّداً ويستدعي الاستعداد لتحمّل ثلاث خسائر وجودية
ووجدانية كبرى:
1. حيث أنّ الله المسيحيّ هو الأب، فإنّ الإلحاد يعني خسارة الإنسان
للأب، ما قد يقود إلى نوع من الشعور باليتم.
2. حيث أنّ الأناجيل جعلت التاريخ سيرورة متّجهة بثبات ويقين من الخطيئة
الأصلية إلى الخلاص، فإنّ الإلحاد يعني أنّ الإنسان سيخسر معنى التاريخ
والحياة، ما قد يقوده إلى نوع من الشعور بالعدمية.
3. وحيث أنّ المسيح لا يتردّد في العناية بالمرضى، وأنّ بعض آلام المسيح
تتجسّد في كلّ إنسان يتألّم، فإن الإلحاد يعني أن الإنسان قد صار فجأة بلا
عناية إلهية، كما كان يردّد سارتر.
لكن ماذا عن تجربة الإلحاد في الإسلام؟ المسلم لا يرى في إلهه الأب. وإذا ما تألّم فإنّه لا يشعر بأنّ ثمّة
في السماء من يتألّم معه، إذا مرض فلا يعيله غير جاره. أمّا التاريخ
البشريّ فقد لا يكون له أصلاً أيّ معنى طالما أنه لا يخدم أيّ هدف خلاصي.
وبالجملة فالمسلم لا يشعر بأيّ فقْد حين يفقد عقيدته عدا الخوف من أحكام
الردّة.
الإلحاد في الإسلام تجربة من دون خسائر وجودية ووجدانية كبرى، ما لم يكن ثمة سجن ينتظر المرء أو سيف يترصّده.
انفتاح الإسلام على أفق الإلحاد هو ما جعل العصر الوسيط الإسلامي
يبدو حافلاً بالكثير من النصوص الإلحادية في زمن لم تكن فيه تجربة الإلحاد
ضمن المتاح الكونيّ.
وإن كان الإلحاد في الإسلام محتملاً فما الذي يجعله ممكناً؟ إذا كان صحيحاً ما يراه البعض من أنّ معركة المستقبل ستكون حول
السيطرة على مجال الخيال، فإنّنا نفهم لماذا يرتبط ردّ الاعتبار للخيال
بظاهرة اكتشاف المجتمعات الغربية لنفسها بأنها مجتمعات مسيحية.
فمن خلال الصور والإيقونات والسامفونيات والكاتدرائيات، فضلاً عن
المسرح والسينما، استطاعت المسيحية أن تحقّق اختراقاً واسعاً لمجال الخيال.
الأمر الذي يجعل من علمنة الخيال وفصله عن المجال الدينيّ مسألة في غاية
الصعوبة والالتواء. تلك إذن نقطة قوّة المسيحية الغربية، لكنها أيضاً نقطة
ضعف تجربة الإلحاد لدى الغرب. في حين أنّ الخيال الإسلاميّ لا يمثّل أيّ
عائق أمام تجربة الخروج عن الدين، طالما أنّ الإسلام لم يخض أصلاً معركة
السيطرة على الخيال، مكتفياً بتحريم بعض الجماليات وتهميش الكثير منها.
إنّ قراءة أخرى ممكنة للغرب تجعله يبدو وكأنه سيرورة ظلّت متّجهة على
خطّ غروب الشمس، من الفردوس التوراتيّ شرقاً إلى غاية الخلاص الإنجيليّ
غرباً. فجنّة عدن في سفر التكوين كان موقعها فوق هذه الأرض، في مكان من جهة
الشرق. والخلاص الإنجيليّ ستجري معظم أطواره، إن لم تكن كلّها، فوق هذه
الأرض بالذات، في مكان ظنّ المستوطنون الأمريكيون الأوائل أنّه يقع في أقصى
الغرب، حيث الفردوس الأمريكي الأخير : أورشليم الجديدة وفق أدبيات تلك
المرحلة.
هل كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتويجاً لتاريخ خلاصيّ ينطلق من
الفردوس التوراتيّ قبل الخطيئة بالشرق الأوسط وينتهي بالخلاص الأمريكي؟
بدءاً من رونالد ريغن أصبح عديد من الرؤساء الأمريكيين يعتقدون بأن العالم دخل مرحلة الألفية الإنجيلية.
وحتى بعيداً عن الأديان فإنّ فوكوياما يؤكّد بأنّ أمريكا هي نهاية التاريخ.
إن قراءة أخرى ممكنة للفلسفة السياسية في الغرب، منذ ميكيافيلي إلى
فلاسفة التنوير ثم هيجل وماركس، تجعلها تبدو وكأنها محاولات دؤوبة لعلمنة
التاريخ الممتدّ من الخطيئة إلى الخلاص.
وفي المقابل : لقد جعل الإسلام الله منفصلاً عن التاريخ والجغرافيا والخيال
والجمال. وهو ما فتح الباب أمام ابن رشد، والذي يقال عنه إنّه أكثر
المسلمين تشرّباً لروح الإسلام، أن يأتي ليوسع حجم الهوّة الإسلامية بين
الله والعالم. وإذا كانت التقاليد الرّشدية قد تعرّضت لانتقادات حادّة من
طرف ليو شتراوس، فذلك بسبب أنها أذنت بانبثاق العلمانية الغربية.
محصّلة القول : إنّ الإسلام هو من أكثر الأديان انفتاحاً على أفق الإلحاد. هنا
جاذبيته حين ينجذب إليه كثير من الغربيين الذين يشعرون بأنّ الإسلام يمنحهم
إلحاداً أكثر يسراً وسهولة ودون خسائر وجودية ووجدانية كبرى. وهنا أيضا
أحد أسرار الخوف منه. أمّا سيوف أحكام الردّة، والتي طالها الصدأ، فلعلها
تؤكّد فقط ما تريد أن تخفيه