11 فبراير 2015 بقلم
عبد المنعم المحجوب قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:الفقه في دلالته العامة هو نمذجة اجتماعية للشَّرْع وتقنين واقعي للأوامر الإلهية تحت مظلّة الإيمان. وفي دلالته الخاصة هو انتقال من الدين كمعرفة كونيّة تتيح للفرد استلهام أسلوبه في الخلاص الذاتي باتباع حدّ أدنى من «الالتزام»، إلى الدين كجريدة رسميّة تشترط الالتزام الجماعي باللاهوت الإسلامي، وتصنّف محاولات الخلاص الفردي تحت بند الهرطقة.
في أوج اللحظة العربية – كما رأينا في بغداد – تحوّل الإسلام من كونه دلالة كونية تشير إلى تجارب أممية سابقة، عبّرت عنها – بشكل رئيس – الديانتان اليهودية والنصرانية، إلى دلالة شوفينية تجعل أتباع تلكما الديانتين ذميين لا يجوز القبول بهم إلا بوصفهم من دافعي الضرائب؛ فالوسطاء المسلمون يشترون دينهم من الله، وعلى اليهود والنصارى أن يشتروا دينهم من المسلمين، لأن هؤلاء أصبحوا الوكيل الحصري والوحيد لهذه التجارة. أما الوثنيون أو المجوس أو الأرواحيون أو اللادينيون، فإما أن يصيروا مسلمين؛ أي أن يحوّلوا أنفسهم إلى جنود، وإما أن يصيروا ذميين؛ أي أن يقبلوا دفع الضرائب، لأن وجودهم على دياناتهم تلك يسبّب إحراجاً لعمل هذه المنظومة لا يرتضيه الفقهاء.
فقه العقيدة، وتحويل الإيمان الديني من معرفة بسيطة إلى «جريدة عُرفيّة»، أنتج فقهاً للدولة أو «جريدة قانونية» هي أول أشكال الدساتير التي عرفتها الدولة العربية.
ربما لم تُكتب «مُدوّنة» هذا الدستور إلا في العصر الحديث، تأثّراً بالتجارب الأوروبية، لكن موادها مبثوثة وموزّعة في نصوص الإخباريين ورواة الأثر، وبعض الشعراء.
الإلحاد والزندقة
الإلحاد في معناه العام رفض معرفي للدوغما، لتأويل الإيمان، لا للإيمان في حدّ ذاته؛ فالإلحاد في أحد معانيه إيمان مضاد.
أما الزندقة، فهي ظاهرة تاريخية، ترتبط نشأتها بظهور الاصطلاح نفسه، وبتمظهرها في عدد من التجارب، وعلى الأخص في العهدين الأموي والعباسي الأول. قبل ذلك كان الاختلاف في الدين يُوصف بالكفر أو الشرك أو النفاق.
في التراث العربي يقع عادةً دمج الإلحاد والزندقة في تجربة واحدة، ولكن مبعث هذا الدمج سياسيّ أو مذهبي، والسياسة والتمذهب متداخلان أشدّ التداخل، حيث لا يمكننا التوقف عند آراء المؤرخين العرب التي تصف الإلحاد والزندقة، دون إعادة التفكير في البواعث التي تنظّم تلك الآراء، إذ أننا – بغير ذلك – لا نعثر سوى على مواقف المؤرخين أنفسهم؛ أي على وصف لتجارب حياتهم، لا على حقيقة التجارب نفسها.
إن الدلالات التي نتوخاها من قراءة متون التاريخ العربي خلال القرون الأربعة الهجرية الأولى، سرعان ما تغيب وراء اكتظاظ مواقف المصنّفين من الرموز المذهبية والسياسية، التي عاصروها، أو رووا سيرتها عياناً أو تخييلاً. لكننا من جهة ثانية، لا يجب أن نلجأ إلى تعميم القراءة على هذا النحو؛ فالكثير من النصوص حتى وإن لم تصرّح بالوقائع المجرّدة، فإنها تشي بحدّ أدنى من هذه الوقائع، وعلى القراءة آنذاك أن تكون مركّبةً، توظّف الدلالات المباشرة التي تحيل إليها النصوص دون توسّط، وتوظف الدلالات غير المباشرة (الممكنة) التي نمرّ إليها عبر عدد من الرموز والعلامات التي تضمرها النصوص، خاصةً عند تجريد لفظي الإلحاد والزندقة من دلالتهما الاصطلاحية المرتبطة بنشأة كل منهما.
بشأن الزندقة، يفترض هادي العلوي «أن الكلمة من أصل سرياني أو آرامي؛ فلقد كانوا يطلقون على الشاب الصديق أو الوسيم البريء اسم Nazug Zadag وكان على الأغلب يرافق الرجل الصديق ويخدمه، وصار الفرس لسهولة اللفظ يدعونه «زنديك» وعنهم عرّبه العرب إلى زنديق».[1]
لفظ «زنديق»[2] لفظ غامض مشترك أطلق بمعان عدة، مختلفة في ما بينها، على الرغم مما قد يجمع بينها من تشابه»[3]، إننا نعثر تحت غلالته على هؤلاء:
- المانوي.
- كلّ صاحب بدعة.
- كل من لا يتبع مذهب السنّة.
- الشعراء.
وسوقاً على ذلك كل فيلسوف ومفكّر؛ فالفلاسفة ليسوا بتعبير الخوارزمي إلا «ملاحدة العصر وزنادقة الدهر».
وأول ما ظهرت الزندقة – يقول ماسينيون – «في العراق سنة 125/ 742 عند قتل الجعد بن درهم، ثم نجد الخلفاء العباسيين سنة 167/ 783 يسندون التحقيق الرسمي مع الزنادقة إلى قاض مختص بهم (هو العريف)؛ وفي تلك الأيام قتل بشار بن برد وصالح عبدالقدوس، ثم صار اسم «الزنديق» اسماً له دلالته الثابتة».[4]
وكان يُنسب طابع الظرف إلى الزنديق، (تيهُ مغنّ وظُرفُ زنديق) كما قيل، كأنّ انسلاخهم من التديّن لا يتأتى – في نظر المسلم – إلا بالسخرية والتهكّم. نجد في رسالة ابن القارح: «الزنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدين، ويرومون إدخال الشبه والشكوك على المسلمين، ويستعذبون القدح في نبوة النبيين».[5]
وكان الوليد بن يزيد ممن رموا بذلك، وقد «أقام في الملك سنة وشهرين وأياماً، وهو القائل:
إذا متُّ يا أمّ الحنيكل فانكحي | |
| ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا |
فإن الذي حدثته من لقائنا | |
| أحاديث طسم تترك العقل واهيا |
ورمى المصحف بالنشّاب وخرقه، وقال:
إذا ماجئت ربك يوم حشر | |
| فقلْ يا ربّ خرّقني الوليدُ».[6] |
وقد جعل اللاهوت السياسي الزندقةَ أشدّ من الكفر، إذ في رأي «بعض الفقهاء أن الرجل إذا ظهرت زندقته ثم تاب فزعاً من القتل، لم تقبل توبته، وليس كذلك غيرهم من الكفار، لأن المرتد إذا رجع قبل منه الرجوع».[7] ولكن الفقهاء يطمئنون المسلمين، إذ «لا ملة إلا ولها قوم ملحدون».[8]
في عصر المهدي (158 - 169) والهادي (169 - 170) انتهى ذلك الاكتظاظ، أو «الغليان العظيم»، بملاحقة دؤوبة شرسة للزنادقة ومحاربتهم ومحاولة إبادتهم، وأوصى المهدي ولده الهادي بملاحقة الزنادقة في نص شهير:
«تجرّدْ لهذه العصابة، فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن، كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم وعدم مسّ الماء الطهور، وترك قتل الهوامّ تورّعاً وخشية، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين أحدهما النور والآخر الظلمة».[9]
وأصبحت المانوية Manichaean عَلَماً دالاً على هذه الطائفة، إلا أنها كانت مانوية عربية إسلامية، ولم تكن مانوية فارسيّة، كما يدل اسمها. فقد اتّجهت المانوية «في عصر المهدي اتجاهاً خاصاً، ولها تعاليم وطقوس خاصة، ولعل بعض هذه التعاليم ليس له أصل في عصر ماني [القرن الثالث الميلادي] نفسه».[10]
لقد حارب المهدي هذه النزعة محاربة شديدة، ونظم ملاحقة الزنادقة تنظيماً دقيقاً، فعهد إلى أحد أصحابه بتتبعهم وسماه صاحب الزنادقة، وهو عمر الكلواذي، وبلغ الاتهام بالزندقة أن نُسبت إليه جميع أشكال الرفض والتذمّر والعصيان.
الهادي خالف سياسة والده في تألّف قلوب آل علي، فتتبعهم وقسا عليهم، وقطع عنهم الصلات والعطاء وجفاهم، وجفاهم عماله أيضاً، فكان أن خرج عليه الحسين بن علي (من سلالة الحسن بن علي) في المدينة واستولى على بيت مالها وتبعه خلق كثير، فأرسل إليه من حاربه بفخ، فقتل فيها.
تخييل الإلحاد
في تخييل الإلحاد في الثقافة العربية لا تُقرأ النصوص الإلحادية بوصفها نصوصاً عقلانية، بل بوصفها بيانات لاهوتية مضادة، تُنزَع عنها صفة الفكر، وتُوَاجه بصفة الكفر، أو يُنظر إليها – إذا ما نشأ جدل بين الطرفين – بوصفها مقدمات دين جديد، يختبئ أنبياؤه بين المؤمنين.
ولم تكن منظومة اللاهوت الإسلامي لتكتمل إلا باكتمال منظومة الاستبداد السياسي والاستئثار بالحكم؛ فالفكر العربي نشأ عن جدل سياسي يتّصل بنظرية الحكم المكمّل لنظرية النبوّة، وهي العلاقة التي تلخّصها كلمة «خلافة»؛ فالخليفة بدأ أولاً بصفة نهوضه بأمر العقيدة، وانسلخ تدريجياً لتطغى عليه صفة النهوض بأمر الناس، لقد وُلد نظام الحكم الإسلامي في منطقة وسطى غامضة تقع بين الدين والدنيا، وهو ما جعل أكثر الخلفاء استقراراً هو أنجحهم في الجمع حدّ التطابق بين التوحيديْن: وحدانية الله، وواحديّة وليّ الأمر.
هذه الاستراتيجية الانعكاسيّة أدّت كذلك إلى تخييل الإلحاد، واللقاء بين التفكير والتكفير. فكلّ مخالف للوحدانية كافرٌ شرعاً، وكلّ معارض للواحدية والاستئثار زنديقٌ ملحدٌ يتوجّب على الفقهاء تلبيسه حدَّ الكافر؛ أي القتل.
ومن اللاهوت إلى السياسة إلى الفكر، نجد أن الإقصاء أصبح سمة أساسية من سمات المدْوَنات التأريخية الإسلامية؛ فالمؤرخون – بحكم انتماءاتهم السياسية أو المذهبية أو الشخصية – يعمدون إلى إعلان الحرب على بعضهم البعض، إنهم يقذفون بعضهم البعض بسهام التكفير ما استطاعوا؛ صفحات التاريخ العربي التي نقرؤها تبدو ميادين حرب أبديّة. التاريخ ملاحقةٌ لا هوادة فيها، عناوين الكتب هي نفير متّصل. بين الفرقاء تنزل الجيوش والكتائب كلّ يوم، يبحرون بين السطور، يسيلون مع الحبر، يبحثون عن أعدائهم، فإذا «ثقفوهم» قتلوهم، عملاً بالآية 91 من النساء. «الثقافة» الإسلامية هي نتاج هذه «المثاقفة»، هي نتاج القتل والاقتتال بين الفرقاء الذين – مع غروب كل معركة – يعودون منهكين إلى أسوارهم، إلى أغلفة الدهر، في انتظار جيل قادم.