ما من شكّ في أنّ القارئ يعرف
حال المجتمعات العربيّة الّتي تفضّل الذكر على الأنثى في الإنجاب. وقد ينسب
علماء الاجتماع والأناسة وغيرهم من المهتمّين هذه الظاهرة إلى طبيعة
الخلفيّات الإثنيّة والمعيشيّة للمجتمعات، ويعزون هذا الميل إلى تفضيل
الذكور إلى البحث عن وسائل إنتاج، أو ابتغاء إنتاج محاربين في صراع بقاء
المجتمع في أطواره الأولى وما إلى ذلك من هذا الكلام المعهود. وكلّ هذه
الإجابات وما شابهها، وإن كانت تشتمل في بعض الأحايين على بعض الحقيقة، فهي
لا تفي الموضوع حقّه.
يمكن القول إنّ الرّغبة في إنجاب نسل ذكريّ هي رغبة الذّكر في الأساس،
والقضيّة لها علاقة بصراع بقاء الذّكر. تنبع هذه الرّغبة من طموح الذكر إلى
استنساخ الذّات الذكوريّة في الطّبيعة الّتي تتّسم فيها حاله بالهشاشة،
وقد يكون مردّ ذلك إلى حقيقة طبيعيّة وهي كون الأمّ معروفة دائمًا، فالجنين
محمول في رحمها. فالأمّ الحاملة للجنين في رحمها، معروفة قطعًا، بينما
الأب، الذَّكَر الذي يُشارك ماؤه في تشكّل الجنين، يقع دائمًا في خانة
الشكّ. فكلّ المواليد لهم أمّهات معروفات، بينما الآباء تحوم الشّكوك أبدًا
الشّكوك. ومردّ هذا الشكّ إلى حقيقة كون الإخصاب قد يحصل، بطريق الصدفة أو
لأسباب أخرى كثيرة، من منيٍّ لا يُعرَف مصدره. من هنا فإنّ الرغبة في
إنجاب عدد أكبر من الذكور تنبع من الرغبة الغريزيّة للذّكر في رفع نسبة
احتمالات الاستنساخ الذاتي في الطبيعة.
ولمّا كانت هذه هي حال الذكر في الطّبيعة، فقد قامت الحضارة البشريّة،
وبصورة عامّة، وعلى مرّ العصور بإلحاق النَّسَب إلى الذّكر. وقد يكون هذا
النّسق النَّسَبِيّ الذّكري قد تطوّر على مرّ التاريخ البشري بوصفه شكلاً
من أشكال التّعويض للذّكر على هشاشة وضعه في الطّبيعة.
وهكذا نرى أنّ العرب القدماء، بوصفهم جزءًا من هذه الحضارة البشريّة، قد
انتسبوا إلى الآباء، ولم ينتسبوا إلى الأمّهات إلاّ فيما ندر: "قد ذكر
الجوهري أن القبائل هي بنو أب واحد. وقال ابن حزم: جميع قبائل العرب راجعة
إلى أب واحد سوى ثلاث قبائل وهي تنوخ والعتق وغسان فإن كلّ قبيلة منها
مجتمعة من عدّة بطون… نعم الأب الواحد قد يكون أبا لعدة بطون ثم أبو
القبيلة قد يكون له عدة أولاد فيحدث عن بعضهم قبيلة أو قبائل فينسب إليه من
هو منهم ويبقى بعضهم بلا ولد، أو يولد له ولم يشتهر ولده فينسب إلى
القبيلة الأولى." (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي: ج 1، 8؛
أنظر أيضًا: الصحاح للجوهري: ج 2، 60؛ المخصص لابن سيدة: ج 1، 265؛ مقاييس
اللغة لابن فارس: ج 5، 44؛ لسان العرب لابن منظور: ج 11، 534؛ تهذيب اللغة
للأزهري: ج 3، 230؛ خزانة الأدب للبغدادي: ج 4، 210).
وبكلمات أخرى، فإنّ النّسب القبليّ إلى الأب الواحد هو الأصل في هذه
الحضارة العربيّة، وحينما تتباعد الأنساب تتحوّل القبائل إلى شعوب وتأخذ في
التشعّبات: "قال الماوردي: إذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوبًا،
والعمائرُ قبائلَ. يعني: وتصير البطونُ عمائرَ، والأفخاذُ بطونًا،
والفصائلُ أفخاذًا، والحادث من النّسَب بعد ذلك فصائل." (نهاية الأرب في
معرفة أنساب العرب للقلقشندي: ج 1، 8). ونظرًا لطبيعة الحياة الاجتماعيّة
العربيّة فقد أضحى النّسب، الذّكوري بصورة عامّة، جزءًا هامًّا من علوم
العرب منذ قديم الزّمان لما له من أبعاد اجتماعيّة وسياسيّة تتعلّق
بالأحلاف القبليّة، ولاحقًا لما لهذا النّسب من تأثير اجتماعيّ كبير في
إضفاء شرعيّة سلطويّة في الذهنيّة العربيّة والإسلاميّة.
وقد يقول قائل، ها هم الفاطميّون قد انتسبوا إلى أنثى، فنقول إنّه حتّى
هذا الانتساب إلى فاطمة، بغية البحث عن شرعيّة في حكم المسلمين، فلم يكن
انتسابًا إلى الأنثى بقدر ما هو انتساب إلى الذكر، والد فاطمة، وذلك
لانقطاع النّسب الذّكَري من الوالد. أي أنّ الانتساب الفاطمي هو انتساب
ظاهريّ للأنثى، بينما هو في قرارته انتساب ذكريّ إلى والدها، بغية إضفاء
شرعيّة سياسيّة تتعلّق بخلافة المسلمين. وحتّى هذا الانتساب الظاهريّ لم
يصمد في التاريخ العربي الذكري في الأساس. فعلى سبيل المثال، بوسعنا أن
نلاحظ هذا البحث المستمرّ عن الانتساب، الذكري بالذّات، لإضفاء شرعيّة
سلطويّة من خلال النّظر إلى كلمات السّلام الملكي الأردني: "يا مليكَ العرب
/ لك من خير نبي / شرفٌ في النّسب / حدّثتْ عنه بُطون الكُتب". بينما نرى
كيف يتمّ الانتساب إلى الذكورة في المغرب العربي بحثا عن الشرعيّة من خلال
انتساب الملكيّة إلى "العرش العلوي".
إنّ تفضيل الذكر على الأنثى متجذّر في الحضارة العربيّة ومنذ القدم.
ويكفي النّظر إلى دلالات الأصل "ذكر" في اللّغة العربيّة لنرى مدى هذا
التجذُّر، فالذّكر في العربيّة يشمل معاني الشدّة، فيقال يومٌ مُذكَّر
"إِذا وُصِفَ بالشِّدّةِ والصعوبة وكثرة القتل." (لسان العرب: مادة "ذكر")،
ويحمل معاني القوّة والشجاعة والأنفة والشّهامة والإباء، والمطر الشّديد
الوابل، كما إنّ: "الذَّكَرُ والذَّكِيرُ من الحديد: أَيْبَسُه وأَشَدُّه
وأَجْوَدُه، وهو خلافُ الأَنِيثِ، وبذلك يُسمّى السيف مُذَكَّرًا." (أنظر
مادّة "ذكر" في: الصّحاح للجوهري؛ لسان العرب؛ القاموس المحيط؛ مقاييس
اللّغة).
ليس فقط أنّ الإسلام قد أبقى على هذه النّظرة الدونية تجاه الأنثى، بل
قد ذهب أبعد من ذلك ووصل إلى شيطنتها، كما روي في الحديث: "إن المرأة تقبل
في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان." (صحيح مسلم: ج 2، 1021؛ أنظر أيضًا:
صحيح أبي داود: ج 2، 404؛ سنن البيهقي: ج 7، 80؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج
1، 9079؛ العجم الكبير للطبراني: ج 24، 50). ولهذا أيضًا، فقد ذهب أبعد من
ذلك، فها هي جهنّم أكثر أهلها من النّساء، كما روي في حديث آخر: "ورأيتُ
النّار فلم أر كاليوم منظرًا قط، ورأيتُ أكثرَ أهلها النساء" (صحيح
البخاري: ج 17، 307؛ أنظر أيضًا: سنن النسائي: ج 5، 398؛ صحيح ابن حبان: ج
16، 460؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 10، 307؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج
1، 407).
لقد بلغ تفضيل الذكر على الأنثى في الإسلام درجة أضحى ينعكس حتّى في
اختلاف القراءات القرآنية، فقد ذكر القدماء بهذا الشأن تفضيل القراء بالياء
(= مذكّر) على القراءة بالتاء (= مؤنّث): "عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله
قال: إذا شككتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً، فإنّ القرآنَ ذكرٌ
فَذَكِّروه." (مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، 202). فالذّكرُ في العربيّة هو
الجليل الخطير، أو هو "النّصل المطبوع من خلاصة الحديد، فالمعنى: أن القرآن
نبيهٌ خطيرٌ فاعرفُوا له ذلك وصفوا به." (الفائق للزمخشري: ج 2، 13؛ أنظر
أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 1، 450).
ولا تقتصر الذكورة على وصف القرآن، بل تتعدّاه أيضًا إلى الحديث، فقد
ذكر الزّهري: "الحديثُ ذكرٌ يحبّه ذكورُ الرّجال ويكرَهُه مُؤنّثوهم. وأراد
الزهري أنّ الحديثَ أرفعُ العلم وأجَلُّه خطرًا، كما أنّ الذكور أفضل من
الإناث، فأَلِبّاءُ الرّجال وأهلُ التمييز منهم يحبّونه، وليس كالرّأي
السخيف الذي يحبه سُخفاء الرجال، فضربَ التذكير والتأنيث لذلك مثلاً…"
(غريب الحديث لابن قتيبة: ج 2، 229؛ أنظر أيضًا: المجالسة وجواهر العلم
لأبي بكر الدينوري: 228؛ النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي : ج 1، 16).
وحتّى العطور والطّيوب الّتي كان يتطيّب بها العرب قد تمّ تقسيمها إلى
مذكّر ومؤنّث، ووصلت الكراهية العربيّة الإسلاميّة إلى العطور والطّيوب
المؤنّثة، حيث فضّلوا عليها المذكّرة: "كانوا يكرهون المُؤَنّثَ من الطّيب
ولا يَرَوْنَ بِذُكْورَتِه بأْسًا". (الفائق للزمخشري: ج 1، 64؛ لسان
العرب: مادة "أنث"؛ تهذيب اللغة للأزهري: ج 5، 112؛ غريب الحديث لابن
الجوزي: ج 1، 362).
وهكذا نرى بوضوح تلك النّظرة السّلبيّة العربيّة للأنثى ومنذ القدم، حيث
يظهر تفضيل الذكر على الأنثى في كافّة مجالات الحياة في الحضارة العربيّة،
قديمها وحديثها. وربّما كان من أبرز مظاهر تفضيل الذكر على الأنثى في هذه
الحضارة المشرقيّة على العموم، ما نراه في الأصل اللّغوي، حيث تمّ ربط
البقاء الحضاري بصورة عامّة بالذّكر دون الأنثى. يظهر ذلك جليًّا من خلال
هذا الرّبط البنيوي في اللّغة بين "الذّكَر" من جهة، وبين "الذّاكرة" من
جهة أخرى، فكلاهما يعود إلى ذات الأصل اللّغوي.
والعقل ولي التوفيق!