[1]
للِنَّصِّ أسْرَارُه. لَهُ نَسِيجُهُ الذي به يحكم بِنَاءَه، ويَسُدُّ كل ما قد يَتَبَدَّى فيه من شُقُوقٍ.
[2]
قراءةُ النَّصِّ، مُرَاوَدَةٌ، سَعْيٌ دَءُوبٌ لاسْتِدْرَاجِهِ، ولِكَشْفِ ما قّدْ يَشِي ببعض أسراره.
[3]
طَرَفانِ؛ كُلُّ واحدٍ يُحَاوِلُ خِذْلانَ الآخَر، أو وَضْعَهُ أمام
حَقيقَتِه. حَرْبٌ ضَرُوسٌ، يَظَلُّ النَّصُّ، في نهاية المطاف، هو
الطَّرَف الأكثر جَسَارَةً، في كَبْحِ جِمَاحِ غَريمِهِ، ورِبْح بعض
أشْوِاطها، طالَما أنَّ قُرَّاء آخرين سَيَسْعَوْنَ لِخَوْضِ غِمَار
حُرُوب، أو معارك أخرى، مع ذات النص.
النصُّ أرضٌ، كُلَّما اقْتُطِعَت منه مساحة، تَكَشَّفَ عن أُفُقٍ أوْسَع مِمَّا كانَ مُتَوَقَّعاً.
تُخُومٌ يَصْعُبُ حَصْرُ امْتِدَادَاتِها. هكذا هي أرضُ النص.
[4]
لا أعني هنا، تلك النصوص التي هي بِرَكٌ آسِنَةٌ، رَاكِدٌ ماؤُها. بل
أذْهَبُ إلى النص المُتَصَيِّر الذي هو أُفُقٌ، وليس نَمَطاً. النَّصُّ
الذي يَبْتَنِي شعريتَه، أو " نَصِّيَتَهُ "، كما في مُقْتَرَح إدوار سعيد،
بما فيه من انشراحٍ، وانْكِتاباتٍ لا تنقطع.
هذا النص، هو تلك الأرض التي بلا تُخُومٍ. مَدًى. وليست حَدّاً، كما
يحلو للبعض أنْ يُسَمِّي ما يكتبه من نُصُوص لا تَطْمَئِنُّ لِمَعنى
الحَدِّ.
[5]
تَحْضُرُني الكتابةُ هنا، حداثة الكتابة تحديداً.
في الكتابة، باعتبارها نَصّاً، أو خِطاباً، تَسْتَعْصِي آلياتُ القراءة،
وتعجز عن مُقاربة النص، لأنَّ الكتابةَ، في ما تقتَرحُه من مُضَاعِفاتٍ،
تتجاوزُ أُفَقُ النَّظَر بما هو حَدٌّ، وتَفْتَحُ ذُرَاها على
اللَّانِهَائِيِّ.
[6]
القاريءُ المُطْمَئِنُّ لِعَاداتِ قِراءاتٍ أَلِفَها، أو لِنُظُمِ
نُصُوصٍ اسْتَبَدّّت بمعرفته. أعني القاريءَ المُسْتَلَبَ، سَيَجِدُ نفسَه
في مُوَاجَهَة هذا النَّوع من النصوص المُتَصَيِّرَة، عاجزاً عن فَهْمِ ما
يَحْدُثُ.
الخََطِّيُّ المُتَوَاصِلُ، هو ما تصبو إليه هذه القراءة. طريقٌ واحدَةٌ
تُفْضِي إلى آخرها. انْطِلاقٌ وَوُصُولٌ. هذا هو مآلُ المعنى.
ما يَعْنِيه النَّصُّ، وليس ما يخفيه.
[7]
هذا ما تَعَلَّمْناهُ في المدرسة، كما في الجامعة. ما يقُولُه الشَّاعر،
أو ما يَعْنِيه. الذَّهابُ إلى المعنـى هو نهاية الطَّريق. نَفْتَحُ
النصَّ لِنُغْلِقَهُ. أوَّلٌ وآخِـرٌ. ها نحن نُشْرِفُ على تُخُوم
المُتَعَالي.
[8]
بين درس الأدب ودرس الفلسفة، كُنَّا نُدْرِكُ الفرقَ بين نَصٍّ يُلْقِي
بنا إلى المجهول والمُتَأَبِّي، وما لا يَنْصَاعُ لِحَدٍّ، وبين ما
يَسْتَسْلِمُ للفهم منذ أوَّل وهلة، أو يكون مَعْلُوماً، رغم ما قد
يَتَبَدَّى فيه من مجهولاتٍ.
مسافة في رَحَابَتِها تَعَلَّمْنا كيف نُقِيمُ الفرقَ بين هَوائين، ولا
نَكْتُمُ أنْفَاسَنا داخل فضاء بلا نوافذ، أو فُرُوجٍ بالأحرى.
[9]
المُتَقَطِّعُ. البِلَّوْرِيُّ المُتَعَدِّدُ الأضلاعِ. النَّاتِئُ، وما
لا تَسِيرُ العَيْنُ فيه باطْمِئْنَانٍ، كما هو فرق الهواء بين
دَرْسَيْنِ، وطريقتين في النظر إلى الأشياء.
رُبَّما في ضوء هذا الفرق، كان انْصِرَافِي إلى طه حسين، نوعاً من
الإحساس المُبَكِّر بلا جدوى الأدب، حين يكون بحثاً عن المعنى، وجدوى أدبٍ،
قد يصير أُفُقَ معرفةٍ، حين يَضَعُ المعنى فـي مَهَبِّ الرُّجْحَانِ.
يَفْتَحُه، ويجعلُه شَكّاً لا يَقِيناً.
كان ديكارت هو أداة طه حسين في فَضْحِ خَطِّيَةِ الأدب. أي في وَضْع
النص أمام أشكال تَبَدِّيه. نَفْس ما حَدَا بجبران لِيَسْتَعِينَ بنيتشه في
الكشف عن نَزَوَاتِ كتابةٍ ضَاعَفَتْ شُقُوقَها، وقَدَّمَتِ النَّصَّ
عارياً.
[10]
قارئٌ لا يَسْتَسْلِمُ للِطُّرُقِ المُعَبَّدَةِ. يختارُ الخَطَرَ،
ويَذْهَبُ إلى النص مُحَمَّلاً بِحُدُوسِهِ، إحدى الضَّرُورَات القُصوى
لاختراق نَصِّ يَشِي بِتَقَطُّعَاتِهِ.
المُسَلَّماتُ تَكْشِفُ عن هشاشتِها، والنصُّ، يُصْبِحُ وحدَهُ لحظةَ الاختبار لِما نَغْزُو به النص من معارف.
ها نحن نعود إلى ما سَمَّيْناهُ، من قبل، بـ"النص القَلِقِ".
[11]
لعلَّ في التَّصَيُّر ما يشي بفرق المسافة بين قارئ يُوَاصِلُ النص،
ويسير فـي مواجهة تُخُومه، بلا انقطـاع، وقارئ يَصْبُو إلـى لحظة الوُصُول،
لا يَعْبَأُ بالسُّؤال، لأنه يكتفي بالإجابات، أي بما يُفضي إلى نهاية
الطَّريق. إلى المعنى.
في التَّصَيُّر يكون السؤال هو أداة التَّرَحُّل والسير الذي لا ينقطع.
[12]
بهذا المعنى كانت "الشِّعريَةُ المعاصرة"، كما هَجَسَت بها تَصَوُّرَات
ميشونيك، تَخُوضُ مغامرة القراءة، وتقترح مفهُومَها للانْكِتَاب. وليس
بالمعنـى الذي جعل من معيارية اللغة، تَدْفَع بالبعض إلـى اعتبار
التَّصَّيُّر والانكتاب غير وَارِدَيْن في العربية.
عَيْنٌ لا تُقيمُ الفرقَ بين ما لا يفتأ يَحْدُث ويكون، وبين ما هو كائِنٌ رَاسٍ، مُطْمَئِنٌ لِعَرَاقَتِه.
هو الفرقُ نفسه الذي به وَاجَهْنا مسافَة الضَّوء بين نَصِّ الأدب، ونصِّ الفكر، أو الفلسفة.
بين ما يَسِيرُ، وما تَكْبَحُهُ تَعَثُّرَاتُه.
[13]
لا أكتفي هنا بالحديث عن التَّأْويل، أو التَّأْويلات التي يَؤُولُ
إليها النص. ثمَّةَ في النصوص تُخُوم لا يمكن اختراق النص إلاَّ بوعيها.
يعنيني الشِّعر تحديداً، هذا الخطاب الذي لم يَعُد يكتفي بالقصيدة
كَمُنْجَزٍ، أو كَمُقْتَرَحٍ، بل ذهب إلى الشِّعْرِيِّ في كُلِّيَتِه، في
نَسِيجِه الذي هو بناء مفتوح على احتمالات اللِّقاء بغيره. السَّرْدِي
مثلاً، سَيَتَخِذُ في هذا الخطاب وَضْعاً، غير ما هو معروف به في غير
الشِّعر، لأنَّه في النص الشِّعريِّ يُصبح محكوماً بأوضاع هذا الخطاب ذاته،
وبنسيجه الكُلِّيِّ، ليس باعتباره جنساً أو نوعاً، بل باعتباره عَمَلاً
Œuvre حين يكون النص اختار وَضْعَ الكتابة، ولم يسقُط في فِخَاخ
التَّجْنِيس.
[14]
يُصبح النص، وفق هذا المنظور مُنَافيا لـ"الشِّعرية التاريخية التي تَتَّكِئُ على مفهوم تقليديٍّ للنَّوع"(2).
فالشِّعرِيُّ في الكتابة حِوَارٌ مفتوح مع أشكال ونُصُوص، كما هو أيضاً،
لقاء مع غيره من مُقْتَرَحاتٍ قد لا تكون ذات صِلَة بالمكتوب أو
الخَطِّيِّ فقط، لأنَّ الشِّعري هنا تجسيد للكِتابِيِّ من خلال الصَّفحَة،
أو الصفحة المزدوجة، كما يُسمِّيها مالارميه. أي أنَّ إمكانَ لقائه بغيره
تُصبح ذات وُجُود مُضَاعَف، ما يجعل من الكتابة عَمَلاً، بما يعنيه العمل
من غَزْوٍ لِمَا لم يُقَل، ولِمَا لا يَنْقَالُ (3).
[15]
الاحتكام إلى آليات القصيدة، وإلى مفهوماتها، وشكل بنائها، هو احتكام
إلى جمالية تاريخيةٍ، وإلى أُفُقٍ في الرؤية يقوم علـى التبادُلات
الشفاهية، وأشكال الحوار المباشر، الآني الذي يجعل من اللغة ذاتها تركيباً
تحكمُه صيغة هذه العلاقة ذاتها. أي أنَّ القصيدة التي تَمَّ تَدْوِينُها
بالشكل الذي وَصَلَتْنا به [مكتوبةً]، هي نَقْلٌ لخطابٍ شَفَاهِيٍّ مسموع،
وهذا أمرٌ جرى في كُلِّ الثقافات، وفي مجالات معرفية مختلفة، بما فيها
الكتابة التاريخية ذاتِها. فالمسافة بين الشفاهـي المنقول كِتَابَةً، هو
غيـر النص المكتوب أصلاً، فـ "التاريخ المكتوب قد يكون خبراً شفوياً
مَسَجَّلاً بالحرف، غير التاريخ المكتوب، أي المعتمد أساساً على الوثيقة
المكتوبة المعاصرة للحَدث"(4).
رغم اختـلاف السياق فالنتيجة واحدة، لأنَّ بنية الشَّفاهي، وآليات
اشتغاله، وصيغ خطابه، هي غير بنية المكتوب، وهذا فرقٌ لم تَعِهِ القراءة
الخَطِّيَة المتواصلة في تعامُلِها مع المكتوب، لأنها ظلَّت أسيـرةَ
لاوعيها الشفاهي، وهو ما لا يزال يَسْتَبِدُّ بفهمنا للظواهر وَوَعْيِها،
وبما يترتَّب عن هذا من نتائج تعوق تَقَدُّم المعرفة وتطوُّرها.
[16]
وفق هذا المنظور تكون القراءةُ المُتَصَيِّرَةُ، في مقابل الكتابة
المُتَصَيِّرَةِ. فهُما نوعان من الوعي الشِّعريِّ بالكتابة كشرط قراءة،
لأنَّها انتقال من النَّفَس، إلـى النص، أي إلـى المكتـوب بما يقترحـه من
صيغ وأشكال لا تحضر في الصفحة عَبَثاً. الدَّالُّ في الكتابة له مكانتُه
وإغفالُه قد يُفْضِي إلـى قراءةٍ عَمياء، أو قد يكون نوعاً من العودة إلـى
وَعْـيِ اللُّغَة بما هي "كتابة أفكار "حيث" الصورة تَـمَّ استعمالُها
كعلامة (للدلالة علـى) الأشياء"(5) فقط. أي كوسيط و حاملٍ ليس أكثر. وهذا
هو أساس عَطَب القراءة ذات الاتِّجاه الواحد، أو القراءة بالمعنى، بالواحد،
وليس بالكثرة.