قامت الحداثة السياسية "كعنصر
أساسيّ في منظومة الحداثة "، على مبدأ أنّ السلطة تستمدّ مشروعيتها من
الشعب، وهو ما يستلزم نزع القداسة عن الفعل السياسي وتأسّس الاجتماع
السياسي على أسس مدنية، لعلّ قوامها الجوهريّ هو "المواطنة" كصيغة قصوى
للاجتماع السياسي الحديث.
ولئن مثّلت المواطنة في صيغها الراهنة حلا لمعضلات تاريخية من قبيل
"تداخل الزمني والروحي، الاحتراب الديني والاستبداد السياسي في أوروبا.."،
إلا أن ظهور تحوّلات عميقة على مستوى البناء الاجتماعي والفضاء السياسي قد
أدّى إلى عودة الجدل حول مدى استيعاب مفهوم المواطنة للواقع السياسي
والاجتماعيّ باعتباره مفهوما خاضعا للشروط التاريخية وعامل الزمن. فعلى
المستوى الأوروبي، تصاعد الجدل حول أزمة الأقليات ذات الأصول المهاجرة
كما شهد المجال السياسي تحوّلات نحو اتحادات وتكتلات دولية مثل "الاتحاد
الأوروبي"و"اتحاد دول آسيان".
أما على المستوى العربي، فإننا نلاحظ أنّ الدولة الوطنية الحديثة قد
فشلت في خفض التوترات الطائفية والعرقية، وفي ترسيخ حسّ الانتماء إلى
الوطن، وما إطلاقها لشعارات من قبيل "الأردن أوّلا" أو"تونس أوّلا"، إلا
تعبيرٌ عن فشل الاجتماع السياسيّ القائم على الزبونية والإكراه في تحقيق
تعاقد اجتماعي وسياسي مواطني.
ونشير إلى أنه، رغم هذه الأزمات والتحولات، فإنّ هناك من يصرّ على طرح
الفكر الليبرالي والنظام العالمي الجديد في صيغ تبشيرية ومهدوية. وهو دور
يضطلع به على المستوى الفكري مفكرون ليبراليون من أمثال "فوكوياما"، وتتخذه
الإدارة الأمريكية أجندة لسياستها الخارجية، التي تبشّر بالنظام الليبرالي
مشروعا أبديا معولما ومعولبا للإنسانية تمثل "المواطنة"إحدى لبناته
الأساسية.
كل ذلك يجعلنا نتساءل حول ماهية أوجه القصور المفهومي للمواطنة في صيغها
الراهنة التي تحول دون استجابتها لتحولات العصر: هل المواطنة مفهوم منجز
أم مفهوم مطروح للإنجاز؟
1) سؤال في المنهج: ارتأيت قبل الولوج إلى موضوع هذا المقال وإعمال فعل التفكّر
حول المواطنة، أن نبحث المقاربة المنهجية المثلى لمعالجة المواطنة كإحدى
اللبنات الأساسية لمشروع الحداثة.
نقد الآخر مدخل للتنويراتسم الفكر العربي المعاصر في مقاربته المنهجية لقضايا الحداثة عموما
بسمة التقليد للمناهج الغربية دون التفطن إلى ما تتضمنه من تحيزات مركزية
الرؤية والنموذج المعرفي الغربيين.
في هذا السياق لا تكتسب جل المنجزات الفكرية التي ينتجها لنا
المفكّرون، التراثيون والحداثيون على حدّ سواء، قيمة منهجية كبرى، إذ أنهم
ينطلقون في مشروع التنوير من الانشغال بالذات كموضوع اشتغال (من خلال
ثنائية الجلد والتمجيد حيث تراوح الفكر العربي المعاصر بين التأييد الدفاعي
عن الذات والمتعصب لها، وبين النقد والتفكيك للذات انبهارا بالغرب) بدل
البدء بنقد فرضية مسكوت عنها، ألا وهي مركزية الفكر الغربي بأدواته
ومفاهيمه.
لذلك يمكن أن نعتبر الانشغال النقدي بالآخر منطلقا للتأسيس ومدخلا
لتنوير الذات، دون السقوط في نزعة دفاعية أو مازوشية، مما يمكننا من دخول
منطقة السؤال بدل الاكتفاء بنقل الأجوبة الجاهزة من الذات التراثية أو من
الذات المتغربة. وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن ما تقدم ليس استنقاصا من
قيمة الجهد المبذول في إصلاح العقل العربي وإصلاح الفكر الديني وأهميته،
وإنما هي في نظري أولويات يقتضيها المنهج.
الاستيعاب والتجاوزتستمد آلية "الاستيعاب والتجاوز" قيمتها المنهجية من مبدأ التراكم
المعرفي للحضارة الإنسانية. فما الحضارة الإنسانية إلا ثمرة إسهامات جميع
التشكلات الحضارية والأمم المختلفة بما يدفع الأفق المعرفي الإنساني قدما.
فحمل أمة ما لمشعل الحضارة الإنسانية لا يكون إلا بالبناء التفاعلي مع باقي
الأمم، تحقيقا لسنة التدافع واستجابة لقانون الدورة الحضارية الخلدوني، إذ
يعتبر ابن خلدون أن زمن انطفاء شعلة الحضارة "إسلاميا" هو زمن اشتعالها في
مكان ما آخر من العالم بناء على منتجات حضارية سابقة (1)، ولعل إسهام
"فلسفة بن رشد" في بناء التشكل الحضاري في صيغته الغربية تصديق لرؤية ابن
خلدون.
غير أننا نجد ضمورا لهذه الآلية المنهجية في عديد المشاريع الفكرية
للنهضويين العرب من أمثال الدكتور عبد الله العروي. فقد طرح العروي نقدا
للحركات اليسارية العربية على أساس عجزها عن استيعاب القيم الليبرالية من
ديمقراطية ومواطنة في إطار رفضها للتبعية للنظام الرأسمالي، ودعاها إلى
توطين معطيات المرحلة الليبرالية في الفكر العربي كأحد شروط التطور
التاريخي دون المرور ضرورة بمرحلة ليبرالية في الواقع. حيث يدعو العروي إلى
ماركسية تاريخانية، في أفق تجاوز جدلي للليبرالية نفسها كمرحلة تاريخية
ونظام سياسي ومنظومة فكرية(2). غير أن مقاربة العروي نفسها لا تستجيب في
نظري لآلية الاستيعاب والتجاوز (وإن طبقها على الليبرالية) باعتبار ارتهان
هذا الاستيعاب للنموذج المعرفي الغربي وتشكله الحضاري بشقيه الليبرالي
والماركسي.
الراهنية والتحيينبقي تمثل الفكر العربي للمفاهيم الحداثية رهينا لظروف نشأة هذه المفاهيم
وسياقاتها التاريخية (عصر الأنوار)، ولم يرافقه إدراك لتحولات المفهوم
وتطوره التاريخي في سياق الاستجابة للتغيرات التي فرضها الواقع ومعاول
النقد والتجربة التاريخية.
فقد بقي تصورنا للعلمانية على سبيل المثال محصوراً في فصل الدين عن
الدولة، ولم ندرك بعد سياق تحوّلها إلى علمنة شاملة تكتسح المؤسسات
والمجتمع والأفراد. (راجع تناول المسيري للعلمانية كمتتالية نماذجية آخذة
في التحقق).(3)
كما لم يواكب الفكر العربي التغيرات التي شهدها مفهوم العقلانية إلا في
مرحلة متأخرة. فقد طرأت على هذا المفهوم تحولات خاصة مع مدرسة فرانكفورت.
إذ تناولت هذه المدرسة مفهوم العقلانية التي قامت عليها الحداثة الغربية
بالنقد فاعتبرتها عقلانية أداتية. ومن ثم طرح الفيلسوف الألماني هابرماس
(أحد المنتمين المعاصرين للنسق الفلسفي لهذه المدرسة) مفهوم العقلانية
التواصلية (4) بديلا للعقلانية الأداتية أو الإجرائية، وهو ما أدى إلى تعدد
العقلانية من ناحية وتطورها مفهوميا في اتجاه يستجيب للنقد والتجربة من
ناحية أخرى.
2) المواطنة كإضافة نوعية للاجتماع السياسي ومكسب إنساني كوني:في ظل الأسس المنهجية آنفة الذكر لا يفوتنا تثمين الإضافة النوعية التي
قدمها مفهوم المواطنة في مجال الاجتماع السياسي الحديث، إذ أننا نعتبر هذه
الأسس كونية ولا نملك ترف الزهد فيها بل نعتبرها حلقة أساسية في أي مشروع
نهضوي على مستوى تنظيم المجال السياسي والاجتماعي.
مفهوم التعاقد (5)
تأسس الاجتماع السياسي الحديث على فكرة التعاقد واعتبار المواطن عضوا في
الدولة له حقوق وواجبات بدل تأسسه على مفهوم التفويض الإلهي أو مفهوم
الغلبة(6) الذي ساد لفترة طويلة خلال القرون الوسطى.
حيث يستمد الحاكم مشروعيته من قهر خصومه وبسط نفوذه وسطوته على الأغلبية
وغلبتهم. لكن رغم حضور ديباجات المواطنة في النصوص الدستورية والقانونية
للدول العربية فلازالت الحياة السياسية فيها تقوم على مفهوم الغلبة عند
السلطة والمعارضة على حد سواء، حيث تسود ثقافة الحزب الواحد والانقلابات
العسكرية والعنف السياسي والعمل السياسي السري والشمولي في الحياة السياسية
العربية .
مفهوم المشاركةونعني به حقّ المواطن في المشاركة النشيطة في تدبير الشأن العام واختيار
السلطة والتأثير في إستراتيجيتها ومحاسبتها ومساءلتها، عبر الانخراط في
مؤسسات الضغط والفعل الاجتماعي والمدني. وبذلك يكون المواطن شريكا أساسيا
في تسيير شؤون الدولة "باعتباره عضوا قانونيا فيها "وتسيير شؤون المجتمع.
التعايش والتسامح والغيرية ونعني بهذه المفاهيم الإقرار بواجب احترام الرأي المخالف وتكريس قيم
العيش المشترك بما يساعد على تخفيض حدة التوترات الطائفية والمذهبية ويرسي
مناخ السلم الأهلي والوحدة الاجتماعية.
المساواة وعلوية القانون الدولة المواطنية (القائمة على ثقافة المواطنة) "على خلاف الدولة
الدينية أو العرقية "لا تميز بين افرداها على أسس مذهبية أو عقائدية أو
عرقية، وإنما تتعامل معهم بمساواة تامة أمام القانون وبالنظر للحقوق
والواجبات لكافة المواطنين.
3) المواطنة: محدودية المفهوم وتحولات الواقع:الفضاء الخاص والفضاء العام :الذات المنفصلة والفضاءات المتداخلةتنبني المواطنة في السياق الغربي على ضرورة الفصل المعنوي بين الفضاء
الخاص الذي يتعلق بكل ماهو حميمي وشخصيّ، والفضاء العام وهو المجال المشترك
الذي يخضع لتنظيم القانون ورقابة القيم التي يفترض ارتضاؤها من قبل
المجتمع.
يحدث هذا الفصل من ناحية نظرية نوعاً من الإرباك للذات حيث تعيش حالة من
الانفصال بين حقيقة الذات وماهيتها من جهة، وبين مقتضيات الفعل في الشأن
العام خاصة على مستوى تضارب القيم. غير أن هذا الفصل لا يعدو أن يكون فصلًا
وهمياً في سياق التجربة الحداثية حيث غالباً ما نجد تداخلاً بين المجال
الخاص والعام.
ففي مرحلة أولى، سعت الدولة الوطنية الحديثة في سياق البحث عن الولاء
والشرعية واحتكار مرجعية الانتماء إلى"الدولة/الأمة" إلى إحكام الهيمنة على
المجتمع وتأطيره ضمن منظور شمولي كاسح. وقد تم في هذا السياق ابتلاع أو
غزو الفضاء العام للفضاء الخاص، فنفى عنه أي إمكانية للاستقلالية. وهو ما
يعرف بمبدأ الترشيد الحداثي للفرد أو"القفص الحديدي" كما يعبر عنه ماكس
فيبر" من خلال سطوة مؤسسة الدولة ونفوذها عبر التعليم والإعلام والمؤسسة
الأمنية والعسكرية، أو بعبارة أخرى تطبيق "الدولنة الشاملة ".
وفي مرحلة لاحقة، شهدت المجتمعات الحداثية تدفق الفضاء الخاص وفيضانه
على الفضاء العام. إذ نلاحظ عزوف الفرد عن المشاركة في الشأن العام
وانطوائه على الشأن الحميمي الخاص، وكأنه في طلاق مع الفضاء العام. ويتجلى
ذلك من خلال استصحاب الفرد لما هو حميمي داخل الفضاء العام مثل الانتشار
الواسع لظاهرة تلفزيون الواقع وبرامج الاعتراف بالمشاكل والأخطاء الشخصية
الحميمية المتعلقة بالفضاء الخاص من قبيل الخيانة الزوجية، الطلاق ومشاكل
تربية الأبناء في مجال البث التلفزيوني المتعلق أساساً بالمجال المشترك
وقضايا الشأن العام، إضافة إلى انتشار ظاهرة استعمال السماعات في الأذنين
حيث يتحرك الفرد داخل الفضاء العام مستصحباً اختياراته الفنية الخاصة، وهو
ما يحول دون إمكانية التواصل وبناء المشترك. زد إلى ذلك انتشار الروابط
الافتراضية الالكترونية بدل التواصل الإنساني المباشر، والاشتغال بالحياة
الخاصة لمشاهير الفنانين والساسة والرياضيين. من هنا يتوجب مراجعة المفهوم
بما يستجيب لهذه التناقضات.
الصعود المتوحش للفردانية وإشكالية المواطنة الليبرالية:في سياق تنامي الفردانية، لا تعدو المواطنة أن تكون دافعا لتحصيل حقوق
مادية للفرد يسعى لتوسيع دائرتها أقصى ما يمكن، استجابة لدوافع اللذة
والمتعة والمنفعة الشخصية، في ظل ضمور روح التطوع والضمير الخلقي والحس
الجماعي وانكفاء الفرد غلى ذاته حدّ الولع النرجسي. وهو ما تظافر مع انتشار
النسبية الأخلاقية والنزعة الأنانية، في تفكك الروابط الاجتماعية وانفصال
الذات الفردية عن الذات المجتمعية.
ولئن كانت الليبرالية تعتبر السياسة موضعا للتعاقد الاختياري بين
مواطنين أحرار، إلا أنها تخفي إخضاعها الأفراد لآليات التطويع و الترويض
والقهر. فالمواطن الليبرالي ليس كائنا حقوقيا مجردا بل هو قبل كل شئ كائن
حي خضع ومازال يخضع لأشكال شتى من الضبط والإكراه الناعم المنبث في مختلف
مناحي النسيج الاجتماعي والسياسي على حد تعبير ميشال فوكو. يجعل هذا القمع
الناعم سلوك المواطن في ظل "مواطنة لبرالية" قابلا للضبط والتوجيه والتحديد
ضمن وعاء سياسي محدد ومنضبط. كما تحتاج فكرة مشاركة المواطن في تحديد
سياسات الدولة في إطار مواطنة ليبرالية في حاجة إلى تنسيب ومراجعة. حيث نجد
مثلا أن تحديد السياسات الخارجية في النظم الليبرالية لا يخضع لمواقف
مجموع المواطنين، وإنما لتحالفات النخب السياسية ودوائر النفوذ المالي
والإعلاميّ، ولا أدلّ على ذلك ممّا حدث خلال العدوان على العراق سنة 2003
حيث اتخذ قرار الحرب رغما عن خروج مظاهرات مليونية تندّد بهذا القرار
الليبرالي!!
قطعا لا نشكك في مساهمة المواطنة الليبرالية في تقليص مخاطر
التوتالتارية والأنظمة الشمولية من ناحية، ومن مخاطر التوحّش الرأسمالي من
ناحية أخرى. إلا أن استفحال الفردانية والتفكك الاجتماعي وخضوع الإنسان
لترشيد المواطنة الليبرالية وإكراهاتها تجعلنا نفكّر جديا في ضرورة الفصل
بين المواطنة والليبرالية، وضرورة إيجاد صيغ أعدل و أكثر إنسانية لمفهوم
المواطنة.
المواطنة العلمانية وتحدي عودة المقدس:لا تنظم المواطنة العلاقة بين الفرد والدولة فحسب، وإنما تطرح نفسها
أيضا كرابطة اجتماعية تنظم العلاقة بين الأفراد. وإذا أخذنا بعين الاعتبار
أن العلمانية هي رؤية مادية نفعية للكون والعلاقات والروابط الإنسانية،
فإنّ المواطنة المتصلة بالعلمانية والمتأسسة عليها هي مواطنة منفصلة عن
القيمة. إذ أنها تجرد الفرد من أيّ عمق إنساني مركب وتؤسس لروابط اجتماعية
يغلب عليها الطابع الأداتي والإجرائي والحسابي والتعاقدي الجافّ، وتغيب
عنها الأبعاد الأخلاقية والمقاصدية والرمزية والدفء الإنساني، على عكس
العلاقات الإنسانية المركبة : "الصداقة" والأخوة" والعشق"، التي لا يمكن
تفسيرها واستيعابها في إطار علمانيّ جافّ. فلا يمكن لهذا النوع من العلاقات
الاجتماعية التفاعل مع ما يطرأ على الإنسان من أطوار الألم والفرح والحزن،
وهو ما عمّق حالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان المعاصر. كما تنظر
المواطنة العلمانية للحقوق والواجبات نظرة مادية وآلية، لا تستجيب لحاجيات
الإنسان غير المادية من قبيل الحنان والمودة والرحمة والأنس. ومن هنا
تتبيّن الحاجة الملحّة إلى إضفاء قيمة التراحم إلى جانب التعاقد في تنظيم
الروابط الاجتماعية. ولعل هذا ما يشير إليه الحديث النبوي "مثل المؤمنين في
توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا ما اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى."(7)
أما على المستوى السياسي فإنّ التجربة التاريخية تبيّن تهافت الترابط
بين المواطنة والعلمانية كسبيل وحيد لتحقيق قيم العدل والمساواة والحرية.
إذ لم تكن المواطنة المنبنية على أساس علماني ضمانة للاستقرار والوحدة
الاجتماعية كأحد الشروط اللازمة لقيام حياة سياسية هادئة ومستقرة. نذكر على
سبيل المثال التجربة التركية كنموذج مواطني علماني في تعاملها مع الأكراد
(أتراك الجبال)، وما رافق ذلك من حيف وتمييز واحتراب. كما نلاحظ تجارب
مواطنيه مشجعة في فضاءات غير علمانية، كالتجربة الهندية التي أسست للمواطنة
في فضاء هندوسي، والتجربة التركية المتأخرة زمنيا التي أسست للمواطنة في
فضاء إسلامي. وهو ما يدعونا إلى ضرورة تنقية المواطنة من أي صبغة اديولوجية
والعمل على ضمان تفاعلها مع الفضاءات الثقافية والحضارية بما يكسبها مرونة
أكثر في التفاعل الإبداعي مع عودة التدين في المجتمعات المعاصرة.
المواطنة ما بعد الحداثية: صعود الخصوصية والأقلوية وضمور الكونية والإنسانية المشتركة:يتأسس هذا النوع من المواطنة على مفهوم "الأقلية" وارتباط الفرد بتاريخ
وتراث مخصوصين، وما يعنيه ذلك من تركيز على الفوارق بين الذات المتمركزة
حول نفسها وبين غيرها من الجماعات داخل المجتمع الواحد. وهو ما يجعلها تحمل
نظرة إقصائية للآخر المختلف والمغاير، وتؤسس لحالة من العزلة المغرورة
والغيورة وتأسر الأفراد في عوالم من النرجسية والأنانية والشعور
بالمظلومية. ويعتبر هذا النوع من المواطنة ترجمة لتيارات فكرية ما بعد
حداثية من قبيل الجندرية، المثلية، النسوية المتطرفة والنازية الجديدة.
وبذلك يحول منطق النسبية والأقلية المجتمع إلى مجتمع لا يقوم على أغلبية
وأقلية وبالتالي على حد أدنى مشترك، وإنما يتحوّل المجتمع إلى مجموعة من
الأقليات المنغلقة فيصبح أشبه بالجزر المتباعدة. حينئذ لابد أن نساهم في
إيجاد صيغ للمواطنة أكثر انفتاحا وتعبيرا عن المشتركات الإنسانية.
العولمة وتحديات الحيز القطري:انتشرت في الفترة الأخيرة مقولة المواطنة العالمية في ظل تفاؤل بآلية
عالمية وهي"العولمة" التي ترسخ مفهوم المواطنة وقيمها في العالم. لكن هذا
التصور لا يخلو من خلل.
تنبني فكرة المواطنة على الانتماء لحيز جغرافي محدّد ترعاه الدولة، لكن
في ظل توجه مستمر للعولمة نحو تدمير المقومات الكبرى التي ارتكزت عليها
الدولة الأمة الضامنة للمواطنة، وبالتالي فلا مصداقية من وجهة نظرنا
لمواطنة تظل تحت رحمة منطق السوق والشركات المتعددة الجنسية.
كما يقوم مفهوم المواطنة على أساس من الاختلاف في المرجعية والممارسة،
بينما تقوم العولمة على توحيد النظرة ومرجعية العمل والتفكير. وبالتالي
فعولمة المواطنة هي عولمة لذات النظرة ولذات التمثل. وفي هذا السياق، يمكن
اعتبار العولمة تهديداً وتحدياً حقيقياً أمام المواطنة خصوصا في الدول
العربية التي تواجه أزمة في العمل الجمعياتي حيث تعتبر الجمعيات المحلية
فروعا للجمعيات والمنظمات الدولية تخضع لسياستها وتمويلها، وفي العمل
النقابي حيث تواجه النقابات المحلية مؤسسات اقتصادية عابرة للقارات يصعب
الضغط عليها والتفاوض معها، وفي العمل السياسي في ظل عدم استقلالية القرار
السياسي السيادي وخضوعه لمؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي. وبالتالي
علينا التفكير أكثر في صيغ للمواطنة تعبر أكثر عن الهوية الوطنية، وتشكل
مقوما سياديا للممانعة أمام مخاطر العولمة .
رهانات المواطنة واستحقاقات الوطن:يمكن اعتبار هذا الإشكال أحد الأسباب الرئيسية للتوترات السياسية
القائمة في المنطقة العربية والإسلامية، حيث يصعب حسم الخلاف حول أولويات
النضال الوطني من ناحية وما يقتضيه من بناء مؤسسات الدولة (عسكرياً وصناعيا
واقتصاديا …) وضرورات الأمن (مواجهة الإرهاب والتهريب …) والتحديات
الخارجية التي يمكن أن تفرضها استقلالية القرار السياسي لهذه الدول، وبين
استحقاقات التعاقد المواطني من احترام للحقوق الفردية وتوسيع هامش الحريات
والانفتاح أكثر على المنظومات الحقوقية لكن في ظل تدويل لحقوق الإنسان،
وجعلها اديولوجية السيطرة العالمية من قبل دول ذات مكيالين في تعاملها مع
المرجعية الحقوقية وبين استبداد الأنظمة الداخلية نشهد انقساما بين
الفاعلين السياسيين والنشطاء الحقوقيين حول أولويات النضال.
مثال : الأزمة الحاصلة بين المحافظين والإصلاحيين في إيران، مجموعات 8
آذار و-14 آذار في لبنان، التجربة العراقية بين الاستبداد الداخلي
والاستعمار الخارجي وكيف تعاملت المعارضة العراقية معها…
حينذٍ لا بدّ من التباحث حول صيغة تطرح حلا يضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية وتمثّل مخرجا لهذه الأزمة.