رغم أنّه لم يكن كاتبا مُقلّا،
فقد بقي حتى اليوم مفكّرا لم يبرح بعد دائرة القرّاء المتخصّصين، بل من
الفلاسفة المهشّمين. وربّما يعود ذلك أساسا إلى تشاؤمه الحادّ في مرحلة
كانت فيها أوروبا قاطبة تتوخّى نسيان شرور الحرب العالمية الثانية. ورغم
كلّ شيء، يبقى ألبير كاراكو من الفلاسفة الذين يصعب تجاوزهم إذ تنبثق من
كتابته الفريدة حكمة وبصيرة ووثوق بالنفس تفرض حضوره وتميّزه عن سائر
الكتاب والمفكّرين، ولو أنه يبدو لأوّل وهلة قاسيا، ودون شفقة إلى حدّ يمكن
أن يصدم القارئ وقد يثبط من عزيمته.
تعود سوداويته القصوى إلى المأساة التي عاشها طوال حياته، وشكّلت
لديه في النهاية نظرة متميّزة عن الإنسان والعالم، صاغها كتابة بعد انتهاء
الحرب الكونية الثانية واستقراره النهائيّ بفرنسا. ولد بالقسطنطينية وعاش
في براغ وبرلين وفيينا. لجأت عائلته إلى أمريكا الجنوبية في بداية الحرب
العالمية الثانية حينما بدأ النازيون في ملاحقة اليهود واضطهادهم. وقد
تلقّى هناك في الأورغواي تربية كاثوليكية وتحصّلت عائلته على جنسية البلد،
وقد احتفظ بها كاراكو إلى أن أنهى مأساته انتحارا سنة 1972، سويعات فقط بعد
موت والده، وكان قد فقد أمّه سنة 1963وألهمه موتها نصّا تأمّليا رائعا في
الموت نشر تحت عنوان "ماتت السيّدة الأمّ".
"أنتظِر الموت بفارغ الصبر، كتب كاراكو ذات عام، ويحدث لي أن أتمنّى
رحيل أبي لأنني لا أستطيع تدمير نفسي قبل ذهابه، أكيد سوف أكون في العالم
الآخر قبل أن يبرد دمه". وقد كان.
كان شديد الاحترام لوالديه ولِما عانياه أثناء الحرب، وهو ما جعله يؤجّل
رحيله الاختياريّ إلى ما بعد رحيلهما، وراح في انتظار نهايته المبرمجة
سلفا يدوّن لعناته في كراسات شرسة أهمّها في نظري "مختصر الشواش". لئن وجد
قارئ كتبه جملة أو فقرة أو حتى صفحة كاملة بغير الفرنسية أحيانا، فإنه لا
يجد سببا لاختياره الكتابة بالفرنسية رغم قسوته على فرنسا والفرنسيين! ورغم
تمكّنه من الإسبانية والألمانية والإنجليزية الأكثر انتشارا !
من "مدرسة العنيدين" و"الإيمان، القيمة والحاجة"، مرورا بـ"الفنّ
والأمم" و"تابوت التاريخ"، وصولا إلى "الأعراق والطبقات" و"الشبق والموت"
و"طاعة أم عبودية؟" و"النظام والجنس" و"اعترافاتي".. وحتى "موجز الشواش"،
ظلّ ألبير كاراكو مهووسا ومتسائلا عن المصيبة الكبرى التي ألمّت بالنوع
البشري مع الحرب العالمية الثانية، ولم يهضم الشرور التي انجرّت عنها ولا
غفر للحضارة الإنسانية زلّة ذلك الاقتتال العظيم. فإن كانت كتاباته وفيرة
في الأدب كما في الفلسفة تطرق فيها إلى قضايا متنوعة، فإنّ رابطها المشترك،
معلنا كان أو ضمنيا، هو التساؤل عن الأسباب التي دفعت الإنسان إلى ارتكاب
تلك الجريمة الشنعاء في حقّ آدميته. كيف وصل قمّة الشرّ في الحرب العالمية
الثانية؟ ربما انبثق نثره الانتقاميّ الفظيع مباشرة من ذلك الإحساس غير
المحتمل الذي رافقه طيلة حياته الواعية: غدر الحضارة التي أحبّها أكثر من
أيّ شيء آخر.
يبقى "موجز الشواش" الكتاب الأكثر تعبيرا عن فكر ألبير كاراكو، كي لا
نقول عن يأسه من بني نوعه. فهو مختصر ومركّز، قاس وداكن، مُلهم وذو رؤى.
صفحات متساوية الحجم، مستقلّة شكليا عن بعضها، يمكن للقارئ أن يقرأها
بالترتيب الذي يريد دون أن يؤثر ذلك في وحدتها الكلّية.
"ننزع إلى الموت كالسهم نحو هدفه ولكننا لا نخطئ الهدف أبدا. الموت هو
يقيننا الوحيد ونعرف دائما أننا سنلقى حتفنا في أية لحظة وفي أي مكان وبأية
طريقة. لا معنى للحياة الأبدية، فالأبدية ليست هي الحياة. الموت هو
الاستراحة التي نتوق إليها، الحياة والموت مرتبطان والذي يطلب شيئا آخر
يطلب المحال ولا يجني سوى دخان، ذلك هو الجزاء." هكذا يكتب في "موجز
الشواش" من أطلق على نفسه لقب "المتعصّب للموضوعية"، وعلى هذا المنوال ينسج
معايناته الميتافيزيقية فيضرب ويجلد وتظهر هزّاته الداخلية وكثافة غازات
اختناقه مع مرور الصفحات/ الصفعات.
لم تعثر محرّكات البحث عن كلمة واحدة كتبت بلغة الضاد عن هذا المنفلت من
الإجماع الامتثالي. هنا ترجمة لبعض مقولاته علّنا نقرّب القارئ من جوّ
الكاتب.
"لم أحبّ الحياة أبدا ولا أتذكّر أنني أحببتها يوما، كانت فكرة إمكانية
موتي هي عزائي الدائم وكلما اقترب ذاك اليوم ازداد سروري أكثر فأكثر. فأنا
مستعجل لمغادرة هذا العالم السفليّ".
"التجارة وحش ذو دم بارد والربح مبرّر وجوده. التجارة سبب استلابنا. تضييع حياتنا في كسب عيشنا ذاك هو الاغتراب عينه."
"سننتهي، مهما فعلنا، نادمين على ما فعلنا، تقول الحكمة السقراطية. ذاك
ما يمكن أن يشفي الناس الأكثر نعومة من وساوسهم والأكثر فسقا من وخز
ضمائرهم."
"نموت من أجل الحفاظ على ما يقتلنا ونعمى عن البداهة."
"ينبغي أن تنقرض جماهير الهلاك كي يصبح ممكنا إعادة الإنسان".
"هي مدارس موت، تلك المدن التي نسكنها، إنها لا إنسانية".
"النظام يفسد الإنسان أكثر مما يؤنسنه."
"لا أحبّ الحياة، وازدرائي لها يطال حتى المخلوقات فلا أشفق على الذين
يموتون، بل أنصح الخائفين من الموت أن يموتوا، لأنّ الموت هو دواء شامل
لكلّ أمراضنا وحلّ أجدى لكلّ مشاكلنا".
"الجحيم الذي نحمله في أعماقنا هو صدى لجحيم مدننا. مدننا هي على شكل مضاميننا العقلية، إرادة الموت فيها يسبق حبّ الحياة."
" نادرا ما تعشق الكائنات النبيلة الحياة، هي تفضل البحث عن أسباب كافية للاستمرار في العيش فقط."